القصة كاملة لمأساة مهاجر سوداني

الحالمون بالذهاب إلى أوروبا فالدرب ليس مفروشاً بالورود..!!

قصص ومغامرات كثيرة خاضها حالمون بالهجرة غير الشرعية، بعضها كان مثيراً وغريباً، والبعض الآخر صادماً، بعد أن تنتهي بمأساة، وأصبح المغامر مجرد رقم في لائحة الذين غادروا الحياة وهم يبحثون عن “الحلم الأوروبي”، لكن الثابت أن كل الرحلات التي تتكلل بالنجاح وتصل إلى ما كانت ترنو إليه لا تخلو من المعاناة والمخاطر ويصبح الموت والهلاك أقرب إليك من النجاة ومعانقة الحلم، كقصة الشاب سمير الذي قاربت رحلته إلى الثلاثة أشهر عنوانها الخوف والجوع – متكبداً المعاناة في الصحارى وتربص المليشيات المسلحة، في كل من: دارفور وليبيا، ومكتوياً بحرارة (الحناكر) في شواطئ الموانئ الليبية، ومتطياً قوارب الموت المتهالكة، ومعاناة المهاجرين في الجزر الإيطالية، تحمَّلهم للجوع لأربعة أيام. تابعوا معنا هذه القصة المسيرة التي يحكيها سمير لـ(التيار).

يروي قصته : محمد إبراهيم

أخذت الهجرة مؤخراً طابعاً آخر، كالهجرة بسبب المضايقات الدينية، أو الخلاف الفكري والسياسي، أو من أجل العلم، وأبرزها بسبب البطالة وشظف العيش، ويصنفون ضمن المهاجرين الاقتصاديين. أصبح السودان دولة معبر لعدد من الجنسيات، وباتت الهجرة إلى قارة أوروبا وعبور الضفة الشمالية من البحر الأبيض المتوسط، حلم يراود معظم الشباب السوداني، مهما كان وضعه سواءً أكان طالباً أو موظفاً أو عاطلاً، فصعوبة ظروف العيش وتفاقم البطالة، فرض عليهم البحث عن فرص حياة “أفضل” وتحقيق العيش الكريم لهم ولأسرهم التي عانت من المصغبة والفاقة، حتى ولو كانت الهجرة غير الشرعية تهدد حياتهم، مع العلم إنهم يفضِّلونها على البقاء في البلاد، فيرسمون في أذهانهم بأن الهجرة إلى أوروبا طريقاً مفروشاً بالورود، وهنالك، حيث دولة الرفاه الاجتماعي وحقوق الإنسان، فينظرون خلسة إلى التهديدات والمخاطر التي تعترض هذا الطريق ويمضون في طريقهم.

أنموذج شاب فضَّل أن يكون غذاءً للأسماك في عرض البحر، بدلاً عن الأوضاع في البلاد.

ليس الفقر وحده هو الذي يحرِّك الشباب للتوجه إلى أوروبا، بالرغم من أنه متداخل مع بقية العوامل، فالشعور بالاضطهاد السياسي يدفع بالبعض للهجرة كقصة الشاب سمير الذي تخرَّج من كلية الآداب جامعة الخرطوم (علم النفس+ فلسفة)، دفعته عدة عوامل للهجرة خارج البلاد، رغم معرفته المسبقة بخطورة الخطوة، إلا أنه ينظر إليها بأنها أرحم من الأوضاع الاقتصادية المتردية والحروبات التي مزقت منطقته التي لم تجف فيها دموع الثكلى واليتامى والأرامل بعد، إضافة إلى شعوره بالاضطهاد السياسي من قبل النظام.

تراجيديا الهجرة

قص الشاب سمير لـ(التيار) تفاصيل رحلته التي لم تخل من المعاناة منذ خروجه من البلاد – واضعاً أوروبا نصب أعينه، رافعاً مقولة شكسبير (أكون أو لا أكون)، في منتصف مايو الماضي عن طريق مدينة نيالا ومروراً بصحراء (كري) أو مناجم الذهب التي تقع بين دولتَيْ (تشاد وليبيا)، مستصحباً حالات الخوف اللا إرادية من المليشيات الليبية، ومعاناة المهاجرين في بيوت “الأشباح” التي يخزَّن فيها المهاجرين – كالسلع للتصدير إلى أوروبا – في (الحناكر)، وشرود الذهن لحظات الضياع في البحر الأبيض المتوسط وكبكبة (التسرع) المهاجرين أثناء الإنقاذ والشعور بالغثيان جراء دوار البحر في ذلك المركب المطاطي المتهالك، ويطلق عليها “قوارب الموت”، ومعاناتهم في جزيرة ساردينا الإيطالية، إذ أنها تمثل منجم جحيم للمهاجرين، والذهاب بالأقدام حتى دخول مدينة (نيس) الفرنسية ما يقارب 4 أيام، دون مأكل أو مشرب، وكذلك الأوضاع المأساوية في (الجنقل) أو غابة معسكر (كالي) في فرنسا، حيث تنعدم فيه الإنسانية، وكذلك دقائق التوزيع المجهولين الهوية.

عندما تطالعون قصة هذا الشاب التي تخللتها المعاناة والخوف من شبح الموت والهلاك، المتربصان بهم منذ الخروج حتى الوصول إلى فرنسا، قد تدرك جيداً بأن الأوضاع التي يعيشها ملايين من الشباب العاطلون أو العاملون دون أن يلبي المرتب الزهيد تطلعاتهم، ويطمحون إلى تحسُّن وضعهم ووضع حد لحياة الكفاف وشظف العيش، يفضِّلون أن يواجهوا هذه المخاطر بصدر رحب ولا يستطيعون مواجهة الفقر والعوز في بلادهم التي دأبت على إبعاد الكفاءات وهدر الطاقات بصورة مستمرة منذ أن استولت على السلطة، إذ لم تشهد البلاد هجرات بهذه الكثافة العالية، وفي كل نشرة أخبار تتعلق بغرق المهاجرين أو القبض على بعضهم، فإن الشاب السوداني يكون على رأس القائمة.

في الحلقة السابقة تحدثنا عن بداية خروج الشاب سمير من نيالا، موضحاً معاناة المهاجرين في أولى خطواتهم مع قصة البوابات الكثيرة في دارفور.

وتمضي الرحلة..!!

مع تلك المهزلة استغرقنا أكثر من سبع ساعات، أخرى مع شمس الغروب، ووصلنا إلى الطينة السودانية مكثنا عدة أيام في الأكواخ التي هجرها أهلها بسبب الحرب اللعينة التي أطلقتها حكومة الإنقاذ على المواطنين العزل منذ (2003م) مما أدى إلى فرار ونزوح أصحاب المنطقة إلى بعض معسكرات النزوح داخل أرض تشاد، ففي صبيحة اليوم التالي عزمنا الرحيل والمضي قدماً، إلا أن أحد أصدقائي يعمل في سوق نيالا قد اتصل بي قائلاً: إن هناك شاب ما، سأل عنك، وأخبرناه أنك على سفرٍ وأعطيناه رقمك، بعد وقت وجيز رنَّ الهاتف هناك اتصال، مع الرد أسمع صراخ شاب يقول: يا.. أنا (ميدو)، هذا الاسم (غريب) عليَّ، بعد استرجاع الذاكرة إلى الوراء أدركته إنه الدفعة الخلفي في كلية الآداب، ثم دلف إلى صلب الموضوع وإنه يريد أن يرافقني في رحلتي إلى أوروبا، ليس لديه معارف في الجنينة أو طينة أو ليبيا، ولا يعرف شخصاً غيري، إذا فاتته هذه الرحلة لا يجد شخصاً آخر، وبعد عدة اعتذارات طالبني بالانتظار، إذ كان ردي له: حسناً، عليك أن تستغل أول سيارة مغادرة غداً، صباحاً، وكذلك أرسلت له رقم صديقي الذي يقطن في الجنينة من أجل الاستقبال والترتيب ثم إلحاقه إلينا في صبيحة الغد إلى (طينة)، ثم استقبلناه نحن في اليوم التالي بصدر رحب في طينة، بعدها أكملت بدوري كل تفاصيل الرحلة إلى (كري) مع السماسرة وسائقي العربات من تكاليف إلى أن نصل مناجم الذهب (كري) التي تقع في شمال تشاد وجنوب ليبيا .

المرور بتشاد.. (دلي وكفي) !!!

وفي منتصف الليل تحركنا قاصدين (كري)،حيث مررنا بالأراضي التشادية وبواباتها، والغريب في الأمر لم تتم عرقلتنا أو مساءلتنا أثناء مرورنا عبر البوابات ليلاً، رغم وجود بعض الأفراد فيها، بعد طلوع الشمس تم توقيفنا في كل بوابة، إذ يقولون لنا (دلي) هي العامية التشادية، وتعني (انزل) ثم (كفي)، وهي تعني (ادفع)، جزء من المال، حتى يتم إطلاق سراحك، هنا لا توجد غير لغة المال، حتى كاد أن ينفد المال الذي بحوزتنا. صاحبنا مسلسل (دلي وكفي) إلى أن خرجنا في الصحراء الكبرى، كذلك الصحراء، لها لغتها وهي لغة الخوف من الآخر، وكل عربة تفر من العربة الأخرى، مع أن كل عربة مدججة بالأسلحة الثقيلة والخفيفة، هذه الإجراءات هي توقع أي هجوم مباغت سواءً أكان من المليشيات أو عصابات الاتجار بالبشر، لأن هناك عمليات نهب كثيرة من قبل لصوص الصحراء، مع ذلك أن أهل الصحراء بطبعهم لا يحبون الناس الذين يثرثرون كثيراً وأنا كذلك، إلا أن صديقي (ميدو) كان كثير الثرثرة، هو لم يدرك أن للصحراء لغات أخرى، وكذلك عصر الثرثرة قد ولى، بل أنه عصر الصمت، حتى سألني أحد السائقين ذات معرفة به، إذ قال من هذا الذي يثرثر كثيراً؟ كل مرة أخبره أن يغلق فمه، أخبرته يجب أن تكون في الصمت أفضل بكثير. في الصحراء بإمكان السائق أن يبيع الركاب إلى تجار الأعضاء البشرية دون أي وازع قيمي وأخلاقي، سوى السعي وراء جمع المادة، مضينا نحن ما يقارب سبعة أيام، على ظهر سيارة (لانتي كروزر)، إلى أن وصلنا إلى (كري) مناجم الذهب، إذ أن المشهد ذكرني بأعمال العبيد لتنقيب الذهب في القرن 19 أو 20، ببساطة أنها كـ(بوتسي) جحيم عمال المناجم.

تجارة الرقيق.. والتعامل بالذهب!!

إذ أن (كري) هي تمثل جحيم الشباب في الأرض وضياع عمر وشباب بأكمله، إلا أننا لم نمكث طويلاً، في صبيحة الغد بحثنا عن عربة تقلنا إلى ليبيا، وبضرورة أن يكون هناك ضمانات، أي شخص نعرفه لنركب عن طريقه، لأن الصدق والأمان انعدما مع موت (معمر القذافي). في ليبيا سوف يبيعونك رقيقاً للخدمة (العمل)، إذا كانت ليست هناك أي ضمان، أي (معارف)، ببساطة ليس هناك أي ضمير أخلاقي وإنساني في ليبيا. بعد مجازفات ورهق شديد وجدنا شاباً يدعى (أبوبكر) من أبناء (التوبة) الذين يقطنون في جنوب ليبيا، حيث تعرَّفنا على بعض، كذلك قال إنه يتقن بعض اللغات واللهجات الأخرى، كلغة القرعان والزغاوة، و تبادلت معه أطراف الحديث، واتفقنا على أن يدفع كل فرد منا 2 جرام ونصف من الذهب، فالتعامل هناك بالذهب ليس للنقود قيمة، ودفعنا النقود بسعر الجرام هناك. كذلك الحياة صعبة جداً في (كري)، إذ أن طلب (الفول) فيها يساوي 100ج سوداني، في المقابل هي أرخص الوجبات عندنا، بعد ساندوتش الطعمية في السودان .

الوصول إلى ليبيا..!!

بعدها تحركنا لمواصلة بقية الرحلة من تهريب إلى تهريب، إلى أن وصلنا مدينة القترون الليبية، ثم استضافنا في منزله من غذاء و شرب وحمام، كان لدينا أكثر من أسبوع لم نستحم، ورائحتنا كانت نتنة وكريهة، بعد أخذ قليل من الراحة أجرى (أبوبكر) اتصالاً بأحد أصدقائه أن ينقلنا إلى مدينة (سبها)، أثناء سيرنا إلى مدينة سبها ومن حسن حظنا لم نجد أي صعوبات، لم تتم مساءلتنا في أي بوابة بين قترون وسبها، أمسينا يوماً واحداً في داخل مباني شركة هندية كانت مغلقة بسبب الحرب، ثم أجرينا بعض الاتصالات إلى الأصدقاء في السودان، إذ دلونا على الأصدقاء الذين يعملون في سبها، في صباح اليوم الباكر ذهبنا إلى (ستنر) المدينة، التقينا بالأصدقاء، مكثنا معهم ليلة كاملة، وكذلك أخبرونا بأن هناك حوش كبير للسودانيين (بيت اللالوبة)، حيث يكملون لنا بقية الإجراءات وترتيب كيفية السفر إلى طرابلس، ذهبنا إلى ذلك الحوش، أكملنا كل تفاصيل الرحلة القادمة. في السادسة صباحاً من اليوم التالي غادرنا (سبها) قاصدين طرابلس، أثناء سيرنا واجهنا عدة مشكلات في البوابات التفتيشية.

الغنائم تنطلق..والعيش في خوف!!

كل بوابة تنظر إلينا غنيمةَ لا تقدر بثمن، لكن قبل انطلاقنا سلمنا إلى السائق كل ما نملك من مال وهواتف، يتصرف هو بالمال في كل بوابة من رشاوى وغيرها، الموجدون في البوابات مستعدون إلى قتل أي إنسان في أبسط الأشياء، بعد كل هذه الدراما وصلنا إلى إحدى الجسور داخل طرابلس، حيث توقف السائق لنا، وقال: هذه هي حدودي لا أستطيع أن أتجاوزها، ثم قال لنا: لا توجد حكومة في ليبيا، إذ أن ليبيا تحكمها نظام الحارات، كل حارة لها عصابتها، لذلك لا أستطيع المجازفة أكثر من ذلك، في تلك اللحظة ضربنا الرعب والخوف والشلل اللا إرادي. كان دعاء الأصدقاء سراً وجهراً، أن نصل بسلام، إذ استبدلنا العربة بسيارة أجرة أخرى انطلقنا في خفاء، وكانت ضربات قلوبنا كطبول الحرب عند جنود روما، قديماً، بهذا الصراع الداخلي، إلى أن وصلنا بسلام إلى حي (جنزور). في ليبيا اتعلمنا الخوف وعشناه، حيث كنا ننام على خوف ونصحو على خوف، كذلك بعد غروب الشمس، إذ ليس هناك تجوال، خصوصاً الأجانب، ولم نستطع النوم، إذ لم نسمع إلا أصوات الرصاص النارية والمدافع، كل ليلة. ليبيا مليئة بالعصابات، حتى داخل الحوش (المنزل) ليس به أمان، بإمكان أن تدخل المليشيات ويتم نهبك أو قتلك، وبما أن الإنسان وحش يجمِّل أفعاله بالأخلاق؛ إلا أن العصابات الليبية انعدمت أخلاقها. مكثنا في (جنزور) عدة أيام لا نخرج إلى الشارع كثيراً، وخوفاً من رصد المليشيات لنا، بعدها قررنا الرحيل من (الجنزور) إلى حي أبو سليم، بسبب بعض الخلافات مع أحد الأفراد، والذي يعتبر نفسه أنه مسؤولاً عن الحوش، حيث أراد استغلالنا. بعد ما أدرك أننا أناس عابرون ليس من أولئك الذين يبحثون عن العمالة في أرض الحروبات (ليبيا)، لكن السبب الأكبر، طمعاً في النقود، عندما أظهر (ميدو) بعض الدولارات. أنا لم أفهم سبب الغباء في التظاهر بالأموال، وأنت في بلد ليس فيها أمان، إذ أن ما فعله أزعجني كثيراً.

نواصل

في الحلقة القادمة سوف نكشف فيها الخروج من ليبيا والاوضاع الماساوية التي تخللت الرحلة بردم المهاجرين فوق بعضهم البعض وإلقاء الجوالات الفارغة في رؤسهم وتهديدات السمسار الازعة ،إضافة الي الاوضاع الماساوية في الحناكر ويتواجد في الحنكر الواحد اكثر من 108 فرداً ممنوع الكلام ولا حتي الهمس والصيام الطويل عن الماء والاكل ثم تجهيز قوارب الموت والتوهان في عرض البحر الابيض المتوسط.

Exit mobile version