لماذا أوقف السودان اعتماد وتوثيق الشهادات الجامعية بصيغة PDF؟

بيان وزارة التعليم العالي والبحث العلمي بشأن ضوابط توثيق الشهادات الجامعية بصيغة PDF

أثار القرار الأخير الصادر عن وزارة التعليم العالي والبحث العلمي والمتعلق بضوابط توثيق واعتماد الشهادات الجامعية الإلكترونية بصيغة PDF جدلًا واسعًا، حيث صوّره البعض على أنه تراجع عن مسار الحداثة والتحول الرقمي.
غير أن القراءة المتأنية والعميقة للقرار، بعيدًا عن السطحية التقنية، تكشف عن رؤية استراتيجية واضحة تهدف إلى حماية الشهادة الجامعية السودانية كوثيقة سيادية، وصون مستقبل الخريجين من مخاطر الأنظمة الرقمية الهشة التي تتستر بشعارات الحداثة دون امتلاك الحد الأدنى من معايير الأمن الرقمي.

التعليم العالي تعلن بدء التقديم للوافدين للدراسة بالجامعات السودانية

أولًا: صيانة السيادة الأكاديمية وضبط التفاوت التقني

يجب النظر إلى قرار وزارة التعليم العالي بعدم توثيق واعتماد الشهادات الإلكترونية ذات التوقيع الهش باعتباره إجراءً وقائيًا وحاسمًا لحماية السيادة الأكاديمية الوطنية، في ظل فجوة تقنية واضحة بين الممارسات العالمية والممارسات المحلية.

فبينما تعتمد الجامعات العالمية الرائدة على أنظمة التوقيع الرقمي المشفّر القوي (Robust Digital Signature)، اكتفت بعض المؤسسات المحلية بتحويل الوثائق الورقية إلى ملفات رقمية مرفقة بـ صور ممسوحة ضوئيًا للتوقيع (Scanned Image)، وهو ما أدى إلى نشوء مأزق أمني خطير يهدد مصداقية الشهادة الجامعية بسبب سهولة تزويرها.

وجاء القرار الوزاري ليضع حدًا لهذا الخلل، ويوقف تداول الوثائق الرقمية الهشة، بما يضمن تعزيز الأطر التشريعية والتقنية لمؤسسات التعليم العالي، وحماية سمعة المؤهلات الوطنية داخل السودان وخارجه.

التعليم العالي تعلن عودة خدمات التقديم والتوثيق إلى شارع الجمهورية

التوقيع الرقمي: الأساس العلمي للأمان

يُعد التوقيع الرقمي (Digital Signature) تقنية رياضية متقدمة تعتمد على التشفير غير المتماثل (Asymmetric Cryptography)، وتحقق ثلاث خصائص أمنية جوهرية للوثائق الإلكترونية، هي:

ويتم إنشاء التوقيع الرقمي عبر مرحلتين أساسيتين:

وعند التحقق، يُستخدم المفتاح العام (Public Key) لفك التشفير ومطابقة البصمة الرقمية، بما يضمن عدم العبث بمحتوى الوثيقة.

الفرق الجوهري بين التوقيع المشفّر وصورة التوقيع

يكمن الفرق الأساسي في أن صورة التوقيع لا توفر أي دليل تشفيري على صحة الوثيقة، ويمكن نسخها أو التلاعب بها بسهولة دون اكتشاف ذلك، في حين أن التوقيع الرقمي المشفّر مرتبط رياضيًا بمحتوى الوثيقة، وأي تعديل فيها يؤدي إلى إبطال التوقيع تلقائيًا.

ومن هنا، يهدف قرار الوزارة إلى فرض معايير البنية التحتية للمفتاح العام (PKI – Public Key Infrastructure) على مؤسسات التعليم العالي، لضمان أن تكون الشهادات الإلكترونية المعتمدة غير قابلة للتزوير تقنيًا (Tamper-Proof).

ثانيًا: مغالطة التوصيف – التوقيع الإلكتروني أم الرقمنة الصورية؟

يرتكز الجدل الدائر حول القرار على خلط مفاهيمي بين التوقيع الرقمي المشفّر، وما يُمارس محليًا تحت مسمى “التوقيع الإلكتروني”، والذي لا يتعدى كونه رقمنة صورية تعتمد على صور توقيع مضافة يدويًا أو آليًا.

هذا النوع من “الرقمنة” لا يحقق أي حماية حقيقية، بل يفتح الباب أمام التزوير الاحترافي باستخدام برامج معالجة الصور، دون ترك أي أثر تقني يمكن اكتشافه.

من الشكل إلى الجوهر: ضبط الجودة وحماية الشهادة

في المقابل، تعتمد الجامعات العالمية المرموقة – مثل هارفارد وأوكسفورد – على بنى تشفير متقدمة تربط التوقيع بمحتوى الوثيقة عبر علاقات رياضية محكمة، تضمن الأصالة والسلامة وتمنع أي تلاعب بالأسماء أو النتائج.

وعليه، فإن رفض الوزارة لاعتماد الشهادات بصيغة PDF ذات التوقيع الصوري لا يُعد تراجعًا عن التحول الرقمي، بل هو انتقال واعٍ من الرقمنة الشكلية إلى التحول الرقمي الحقيقي، وضبط جودة يهدف إلى حماية قيمة الشهادة الجامعية السودانية داخليًا ودوليًا.

Exit mobile version