نحو رؤية واضحة ومبادِرة لعلاقات السودان الدولية
أبوعبيده أحمد سعيد
سودافاكس – يمرّ السودان اليوم بمرحلة تاريخية دقيقة، تختلط فيها هموم الناس اليومية بما يشهده العالم من اضطراب وتحولات متسارعة، وتدخلات مباشرة في الشأن السوداني. وفي مثل هذا الظرف، لم تعد السياسة الخارجية شأنًا بعيدًا عن حياة المواطنين، ولا ملفًا خاصًا بالنخب الدبلوماسية وحدها، بل أصبحت جزءًا من حديث الناس اليومي، ومن معركة الحفاظ على الدولة، وركيزة أساسية لأمن السودان واستقراره ومستقبله الاقتصادي.
غير أن الواقع يكشف بوضوح أن علاقات السودان الدولية ظلت، على مرّ الحكومات المتعاقبة منذ الاستقلال، أسيرة التردد وغياب الرؤية. فكثيرًا ما وجدنا أنفسنا ننتظر مواقف الآخرين ثم نتحرك بعدها، بدل أن نكون أصحاب مبادرة ورؤية واضحة تعبّر عن مصالحنا الوطنية وتخدم أولوياتنا الحقيقية.
وتزداد هذه الصورة قسوة في ظل حربٍ أنهكت البلاد، وأثقلت كاهل أهلها، وشرّدت الملايين، وتركت جرحًا مفتوحًا في جسد الوطن. حربٌ ينتظر السودانيون جميعًا أن تضع أوزارها، سواء بنصر يحفظ للدولة تماسكها وهيبتها، أو بسلام يعيد الطمأنينة إلى البيوت، ويوقف نزيف الوطن، ويخفف عن الناس معاناتهم الطويلة، ويحافظ على اللحمة الوطنية.
العلاقات بين الدول، في جوهرها، تقوم على ثلاثة أعمدة واضحة: قيم تُبنى عليها السياسات، ومصالح تُدار بعقل وحساب، وقوة تحمي الاثنين. والسودان لا يفتقر إلى أيٍ من هذه العناصر، لكن الإشكال ظلّ دائمًا في طريقة إدارتها، وفي غياب رؤية وطنية تُقدِّم مصلحة السودان فوق الأيديولوجيات، وفوق الخلافات الداخلية. فالدول لا تُدار بالشعارات، بل بالحكمة والوضوح وحسن تقدير المصالح.
ويكفي النظر إلى موقع السودان على الخريطة لندرك حجم الفرصة التي بين أيدينا. نحن في قلب إفريقيا، وعلى بوابة العالم العربي، ونطل على البحر الأحمر، ونمتد في عمق قارة مليئة بالفرص. هذا الموقع كان يمكن أن يجعل السودان مركزًا للتجارة، وسلةً للغذاء، وجسرًا للتكامل الإقليمي، لكنه ظل فرصة مهدرة، ضاعت بين تردد القرار، وغياب التخطيط، وتعاقب الحكومات دون رؤية مستقرة.
وفي إدارة علاقاتنا الخارجية، كثيرًا ما تحركنا ردود الأفعال أكثر مما تحركنا الخطط المدروسة. لم نطرح على أنفسنا السؤال البسيط والمهم: ماذا نريد نحن؟ وكيف نخدم مصالح السودان أولًا؟ فضعف موقفنا التفاوضي، وتراجع احترام الشركاء لنا، لأن العالم يحترم الدولة القوية التي تعرف طريقها وتحدد أولوياتها بوضوح.
وتعقّدت الأمور أكثر حين اختلطت السياسة الخارجية بالصراعات الداخلية وتصدير الأيديولوجيات، فارتفعت شعارات كبيرة في أوقات لم نكن نملك فيها القدرة ولا الأدوات لتحمّل تبعاتها. وتجربة الهتاف المعروف «أمريكا روسيا قد دنا عذابها» تظل مثالًا واضحًا على كلفة الاندفاع حين يغيب الحساب والعقل، وحين تُدار السياسة الخارجية بعاطفة اللحظة لا بعقل الدولة.
الدرس هنا واضح: مصلحة السودان يجب أن تكون فوق كل حزب، وفوق كل شعار. فالدول التي تنجح هي تلك التي تفصل بين خلافاتها الداخلية، وبين إدارتها لعلاقاتها مع العالم بعقل الدولة ومسؤوليتها التاريخية.
أما القوة، فهي ليست في السلاح وحده. القوة الحقيقية تكمن في وحدة القرار، والاستقرار الداخلي، واقتصاد قادر على الصمود، ودبلوماسية هادئة تعرف متى تتقدم ومتى تتراجع. وهي أيضًا في الإنسان السوداني نفسه، وفي أرضه، وفي عمقه الإفريقي الذي يمنحه وزنًا طبيعيًا في محيطه الإقليمي والدولي.
واليوم، حين يصطف الشعب سندًا لقواته المسلحة، فإن هذا الاصطفاف يحمل رسالة ثقة وأمل، لكنه في الوقت نفسه يضع مسؤولية تاريخية على من يقودون البلاد: مسؤولية أن يقودوا السودان بعقل الدولة، وبقلب يشعر بمعاناة الناس، وبرؤية تفكر في ما بعد الحرب، لا في معركة اليوم فقط.
الخروج من حالة التردد لا يحتاج إلى معجزات، بل إلى شجاعة في اتخاذ القرار، وانتقالٍ واضح من سياسة رد الفعل إلى سياسة المبادرة. يحتاج إلى رؤية خارجية واضحة، يفهمها الداخل قبل الخارج، وتقول للعالم بهدوء وثقة: هذه مصالحنا، وهذه أولوياتنا، وهذه يدنا للتعاون، من أجل الحفاظ على الدولة السودانية في عالم تحكمه المصالح ولا يرحم الضعفاء.
في النهاية، السودان لا تنقصه الموارد، ولا الموقع، ولا التاريخ. ما ينقصه حقًا هو وضوح الطريق، ووحدة الإرادة، والقدرة على تقديم مصلحة الوطن فوق كل شيء، والجرأة في توجيه بوصلة السودان في هذه اللحظة التاريخية المفصلية. وعندما يتحقق ذلك، سيستعيد السودان مكانه الطبيعي: دولة محترمة، مؤثرة، تقف بثبات، لا ساحةً لصراعات وتجاذبات الآخرين.
