هربت هي وزوجها وبناتهما من جحيم الحرب في سوريا إلى مصر، بحثاً عن الأمان في أرض الكنانة، لكن سرعان ما واجهتهم مشكلة تدبير قوت يومهم.
حاولوا إنشاء مشروع لكسب عيشهم باستخدام ما استطاعوا جلبه معهم من أموال، فافتتحوا مطعماً للأكل السوري، لكن التجربة انتهت بالفشل لتعرضهم للنصب وجهلهم بالسوق المصري.
هنا تحولوا لفكرة المطعم المنزلي، لكن مع ارتفاع الأسعار بشكل شبه يومي أصبح عدد زبائنهم يتقلص تدريجياً، لينحصر فقط في الطبقات فوق المتوسطة “المستريحة مادياً”، على حد تعبيرهم.
إنها قصة أشهر طاهية سورية في أحد أرقى أحياء القاهرة، فمنذ عام ونصف العام وصلت ناريمان للعاصمة المصرية بصحبة زوجها وبناتها الـ4، اختاروا منطقة التجمع -أحد أرقى المناطق بالقاهرة- للعيش فيها.
تقول ناريمان: “لقد كنا نعيش حياة الملوك في سوريا”. وبعد أن جاؤوا لمصر افتتحوا مطعماً سورياً واستثمروا فيه كل ما كانوا يمتلكونه حينها من أموال، 100 ألف جنيه (ما يعادل 12 ألف دولار وقتها).
لكنهم تعرضوا لعملية نصب، وخسروا كل أموالهم بعد شهر واحد، تقول ناريمان: “رجعنا 10 خطوات للخلف”.
وقتها لم يجدوا مفراً من الاتجاه لصنع الطعام المنزلي، فأصبحت جزءاً من مجموعة من اللاجئات اللواتي قمن في العام الماضي بتأسيس “زيت الزيتون”، وهي خدمة تقديم الطعام السوري إلى منازل الناس. وهي جزء من اتجاه متزايد يعتمد على توفير أطباق وأطعمة مطبوخة وجيدة لربات البيوت.
ذكرت ناريمان لهاف بوست عربي: “بدأت بطهي بعض الأصناف ووضعتها في محل خاص بإحدى أقربائي، بعتهم بثمن التكلفة فقط لم أحقق أي ربح، كنت أرغب في الدعاية فقط”.
وقتها بدأت بعض السيدات يحصلن على رقم هاتفها، وبدأت السيدات يخبرن بعضهن البعض حتى أصبحت أشهر طاهية سورية بمنطقة التجمع.
ناريمان أوضحت أن أكبر مشكلة تواجهها الآن هي تغير الأسعار بصورة شبه يومية، “أعددت لمدة شهر عدداً كبيراً من الطلبات، ولم أجد أي أموال في منزلي فراجعت حساب الطلبات وقائمة الأسعار الخاصة بي، ووجدت أنني أبيع بخسارة، وهو ما يضطرني أحياناً لتغيير الأسعار أسبوعياً”.
لكن هذا التغير في الأسعار لم يمثل مشكلة كبيرة لدى زبائن ناريمان، “كل زبائني من الطبقة الراقية ومستويات اجتماعية عالية، هم لا يهتمون بالسعر بقدر ما يهمهم الجودة والنظافة”.
وأوضحت أنها في شهر رمضان أحياناً تواصل الليل بالنهار هي وزوجها وبناتها لإنهاء الطلبات، وقالت إنها تحلم بأن يكون لديها خط إنتاج خاص بها للأكل ويكون لديها أشخاص لمساعدتها، موضحة أنها الآن تمتلك الزبائن الذين سيذهبون إليها في أي مكان، كما أنها تعلمت من أخطاء تجربة المحل السابقة.
لا توجد إحصائية دقيقة لعدد السوريين في مصر، ما بين أرقام رسمية وغير رسمية، خاصة أن الرقم الوحيد المعتمد منذ ما يقرب من 4 أعوام في إحصائية للمفوضية السامية لشؤون اللاجئين يشير إلى أن عددهم، في نهاية شهر سبتمبر/أيلول 2013، أكثر من 120 ألف سوري يقطنون في المناطق الحضرية في أنحاء مصر.
وتوقعت هذه الإحصائية آنذاك وصول عدد السوريين المحتاجين إلى المساعدات إلى 180 ألف شخص بنهاية عام 2013.
فقدنا زبائن الطبقة الوسطى
ثلاثة أشقاء ذكور وأب.. هكذا تحول منزل أم عادل إلى خلية عمل لمواجهة ظروف الحياة، خاصة بعد أن أصبحوا معروفين بحي مصر الجديدة، أحد الأحياء الراقية بوسط القاهرة.
عادل هو مدير المشروع الخاص بوالدته، وهو الذي يتلقى الطلبات، أوضح أنهم كانوا يمتلكون مطعماً في سوريا، ولذلك فإن أول شيء فعلوه حينما قدموا لمصر منذ 4 أعوام هو فتح مطعم، ولكنهم تعرضوا لخسارة كبيرة وضياع كل أموالهم سريعاً، لعدم معرفتهم بالسوق المصري، بالإضافة لتعرضهم لعملية نصب.
عادل قال لـ”هاف بوست عرب”، إنه منذ عامين قررت أسرته البدء في الطعام المنزلي، موضحاً أن رمضان الماضي 2016 كانت الأسعار مختلفة نهائياً، فالمواد الخام زادت بنسبة تتراوح ما بين 100 إلى 150%، وهو ما أثر على هامش الربح الخاص بهم، وذلك لأنهم لم يستطيعوا إضافة كل هذه الزيادة على أسعار منتجاتهم.
وذكر أنهم خسروا الطبقة الوسطى التي كانت تمثل 50% من زبائنهم، ولم يتبق إلا الطبقة فوق المتوسطة “المستريحة”، على حد وصفه.
وأضاف أن كيلو الكفتة مثلاً وصل سعره لـ220 جنيهاً (حوالي 12 دولاراً) لأنه يعد من لحم الضأن الذي وصل سعره لـ160 جنيهاً (9 دولارات).
عادل أوضح أن الأسرة بالكامل تعمل في هذه المهنة، وكل شخص منهم له دور، “أحدنا يقف على الشواية، وآخر يتلقى الطلبات، وشخص يجهز الطلبات، ووالدتي تتابع الطعام على النار”.
هذا الغلاء الذي أثر على حياة المصريين وصل لذروته، في نوفمبر/تشرين الثاني 2017، حينما قرر البنك المركزي المصري تحرير سعر العملة المحلية، ليرتفع سعر الدولار الرسمي من 8.8 جنيه إلى أن تخطى حاجز الـ18 جنيهاً في البنوك.
هذا الأمر نتجت عنه زيادة كبيرة في الأسعار، خاصة أن القرار تبعه رفع الدعم عن المواد البترولية وبعض السلع، فتضاعفت أسعار المنتجات بصورة شبه يومية، وحتى الآن لم يحدث أي استقرار في الأسعار في السوق المصري في ظل الحديث عن زيادة مرتقبة، في يوليو/تموز 2017.
المشكلة ليست في تراجع عدد الطلبات فقط
في شوارع مدينة نصر بشرقي القاهرة، وأمام الحدائق والمساجد الكبرى، الجميع يعرف “حلويات أم عبدالله”، فهي منذ قدومها إلى مصر بدأت تصنع الحلويات وتذهب هي وزوجها للبيع أمام المساجد، والحدائق، وأماكن التجمعات.
كانت تحلم بجمع المال الذي يمكنها من استقدام أبنائها من سوريا، إلى أن ساعدها شاب مصري يدعى محمد، وتكفل بمصاريف استقدام أبنائها الأربعة.
أم عبدالله قالت إنها بمجرد أن بدأت في تكوين زبائن منذ عدة سنوات، كانت تجلس في المنزل تصنع الطلبات هي وزوجها وأبناؤها، أما الآن ومع غلاء الأسعار فقد بدأ عدد الطلبات يقل، ما يضطرها إلى إعداد الحلوى والذهاب للشارع طالما لا توجد طلبات.
وقالت إنه ليس عدد الطلبات الذي قلَّ فحسب، ولكن أيضاً الكميات، فبعد أن كان يطلب شخص 10 قطع من الكوبيبة أصبح يطلب اثنتين فقط، وهكذا.
ومما زاد الطين بلة، أن زوجها تعرض لأزمة نفسية بعد مقتل أشقائه في سوريا، ولم يعد يستطيع النزول من المنزل، وهو ما يجعلها تذهب بنفسها لتسليم الطلبات، “أنا تعبت من المواصلات، وأتمنى أن أمتلك محلاً لكي أنهي معاناتي في التنقل في المواصلات”.
وقالت إن وجودها بجوار مقر النادي الأهلي المصري، جعل زبائنها من نجوم الكرة، سواء في النادي الأهلي أو النوادي الخاصة، مثل نادي الشمس ونادي وادي دجلة.