السودان.. الصناعة المحلية وغياب الإرادة السياسية

ولأن الصناعة المحلية هي السبيل الوحيد – أو على الأقل الأكثر أهمية – لخروجنا من الأزمة الخانقة التي تعيشها بلادنا فإن مما لا شك فيه أن الدور السياسي هو العامل الأكثر أهمية في تحديد مدى إنتظام البلاد وتبنيها للخيار الصناعي وشق طريقها بيدها بكل إقتدار أو قبولها الجلوس في مقعد من ينتظر الإعانات والودائع والهبات.
لسنا بحاجة للحديث عن توفر الموارد الكافية لتفجير نهضة صناعية كبرى في زمن وجيز تنتظم السودان لتحيل واقعه وواقع شعبه الكئيب إلى واقع أفضل في بضع سنين فأصغر تلميذ يعرف ذلك، ولكن عجز القادرين على التمام هو ما يبعث في النفس حسرات تلو حسرات.
كما أننا لسنا بحاجة تبيين أن الصناعة السودانية تعاني كل أمراض التخلف والعشوائية إن جاز لنا أن نسميها صناعة، فمن المؤكد أن كل متابع للشأن السوداني يرصد بوضوح أن العقيدة السائدة والإرادة المطبقة فعليًا عبر الساسة والتنفيذيين الممسكين بملفات الاقتصاد والمتحكمين في إستراتيجيات الدولة لا تقترب من هذا الملف الأكثر أهمية، بل تتبنى الخيار النقيض – الذي يصل إلى حد ستيراد اللبن ومناديل الورق والحلوى وأقلام الرصاص! برغم ما يتسبب به ذلك من إهدار اقتصادي وخلل في الميزان التجاري للدولة وأضرار كبيرة يدفع ثمنها المواطن البسيط في حياته ومعيشته اليومية دون أية مراعاة من قبل صانع القرار لمصير الشعب الذي تتزايد عليه المعاناة يومًا بعد يوم، ودون أن يبدو في أفقه بصيص من ضوء أو أمل.

لا شك أن الدور المهم للإرادة السياسية يتمثل في تبني الدولة لخيار الصناعة كمشروع وطني مقدس مثله، ومثل الجيش الوطني أو الهوية الوطنية أو العلم الخفاق برمزيته العميقة وتسخير كل الإمكانيات السياسية والعلمية والإعلامية لمساندة هذا الخيار على أن يكون هذا التبني حقيقة لا تقبل المزايدة، وليس شعارات ترددها الحناجر وتظل حبيسة الأوراق، دون عمل على أرض الواقع كما تعود السودانيون على ذلك من نظام البشير الذي صدع الرؤوس بآلاف الشعارات التي لم تمش على ظهر الأرض يومًا.
إن واجب الساعة يقتضي – بعد أن تسبب المنظِّرون الإقتصاديون للنظام الحاكم في إضاعة فرصة السودان للنهوض الفعلي عبر استثمار عائدات النفط قبل إنفصال جنوب السودان بإرساء أساس متين للاستثمار غير البترولي وفي مقدمته الصناعة بالتأكيد بما يخدم اقتصاد الدولة ويسهم في رفاهية الشعب – هذا الواجب يتمثل في الانتظام الفوري بالعمل بالقوانين الموجودة سلفًا لتشجيع الصناعة المحلية ودعم الإستثمار في التصنيع ووضع تشريعات جديدة تضمن عمل كل أجهزة الدولة المسؤولة عن ملف الصناعة بكامل قوتها وإستيعاب كل قدرات الدولة من قمة الهرم إلى قاعدته لتحويل تلك الإرادة إلى عمل ملموس يبتغي به الجميع رفاهية الإنسان السوداني وكرامته بعيدًا عن لوثات التمكين والمصالح الضيقة.
كل ذلك لا بد أن يكون مسبوقًا بنزاهة مفقودة لا بد من توفرها وجهاز رقابي يعصم الجميع من فساد إداري نعيشه على مدار اليوم والساعة يقضي على كل ما يفيد البلاد والعباد ويحول مقدرات البلد وثرواتها إلى جيوب بعض المتنفذين في الدولة المتاجرين بقوت ومصير المواطن، وجيوب بعض الموظفين الذين لا هم لهم سوى تحصيل العمولات، وجيوب لوبي الاستيراد الذي يقف في وجه أي توجه نحو الصناعة.

إن توفر المواد الخام في السودان وتنوعها من معادن وثروات مائية وزراعية وحيوانية يقدم أرضية صالحة لنجاح كل أشكال الصناعات من ثقيلة إلى تحويلية إلى تعبئة وتغليف، وإن الموقع الجغرافي المميز للسودان يرشحه لريادة الصناعة من أجل التصدير، وليس فقط الصناعة من أجل إشباع السوق المحلي، كما أن الحل الناجع لمشكلة إنهيار قيمة الجنيه السوداني وتدنيه أمام الدولار يكمن في الصناعة، وذلك بتوفيرها للعملات الأجنبية من ناحيتين.
الناحية الأولى من حيث إيجاد منتجات محلية توفر علي الدولة صرف عملات من أجل إستيراد مثيلاتها، والناحية الأخرى بتوفير عملات أجنبية بصورة مباشرة وذلك بتصدير المنتجات المحلية.
إذن ما الذي تبقى غير الإرادة السياسية التي تتخذ القرار وتشرف على تنفيذه بأمانة وتخطيط؟

ربما يتعلل البعض بالحصار وبأنه السبب في التضييق على الصناعة وعدم نجاحها الحالي والمستقبلي، ولكن أليست هذه مغالطة للعقل والمنطق؟

أليس الحصار نتاج لسياسات خاطئة في المقام الأول الشيء الذي يؤكد أن الدور السياسي هو الأكثر أهمية؟

إن الأمر المؤكد هو أن النكوص عن اعتماد الصناعة المحلية وتشجيعها نوع من أنواع خيانة الأمانة في ظل توفر كل مقومات نجاحها وفي ظل المعاناة الكبيرة لشعب السودان الذي يعاني أغلبه البؤس والفقر، والذي يمكن أن تمثل له طوق نجاة.

لكي نمضي قدمًا في طريق الكرامة والرفاهية لا تنقصنا العقليات الإقتصادية والصناعية الفذة، ولكن ينقصنا القرار السياسي الذي يضع في اعتباره كل الثوابت والمتغيرات المحلية والإقليمية والعالمية والذي يُجيش الأفراد والجماعات لصالح الوطن والمواطن لا لمصلحة حزب أو جماعة أو أفراد.
ساسة بوست

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.