اشتعال الخرطوم ومحلياتها السبع في توقيت واحد..بعد مرور (12) عاما الإثنين الأسود.. ذكرى بطعم الموت والدماء

تمر اليوم الذكرى المشؤومة لأحداث الإثنين الأسود التي شهدتها الخرطوم وعدد من ولايات السودان سادت فيها روح التشفي والحقد الأعمى من قبل المواطنين الجنوبيين الذين استضافهم أهل الشمال طوال سنين الحرب المشتعلة في جنوب السودان، مشاهد مؤلمة رسخت للغاية والهدف الموجود في صدور كثير من أبناء الجنوب في حق تقرير المصير، ظهرت تجلياته قبل أن ينال السودان استقلاله في أحداث توريت التي كانت في العام 1955م هذه الأحداث كانت بمثابة استفتاء مبكر باستحالة أن يجتمع الجنوبيون والشماليون في وطن واحد

اليوم تمر الذكرى الثانية عشرة على وفاة زعيم الحركة الشعبية جون قرنق الذي لقي حتفه في حادث طائرة قادمة من دولة يوغندا وفي صبيحة الأول من أغسطس استيقظت الخرطوم على وقع مشاهد تجمعات من الجنوبيين وعند العاشرة صباحاً اشتعلت الخرطوم في جميع محلياتها السبع، وفى توقيت واحد، وكأن الأمر كان معداً له مسبقاً، وشهدت شوارع وأزقة أحياء مدن الخرطوم المختلفة ذبحاً وسفكاً لدماء الأبرياء الذين لا يعرف بعضهم أو سمع بشخص اسمه قرنق، كانت مشاهد الفوضى والتشنج الهستيري من قبل هؤلاء الغاضبين السمة الأبرز والمشهد الطاغي في جميع مدن الخرطوم ومناطقها المختلفة، فقد تم نهب جميع المحلات التجارية في الأسواق والأحياء، ولم يسلم المارة من الضرب والسلب وقد قتل في تلك الأحداث أكثر من أربعين شخصاً، أعلن عقيل سوار الذهب مسؤول المشرحة في مستشفى الخرطوم العام بأنهم تسلموا 26 جثة”، فيما قال أحد الأطباء في مستشفى تابع للشرطة قرب العاصمة إن المستشفى لديه 16 جثة في المشرحة. إضافة إلى 100 آخرين في المستشفيات يعالجون من جروح وإصابات بالغة، أما النهب فقد تم نهب المحلات التجارية في الخرطوم.

مشاهد عصيبة

وصلت قيمة المنهوب إلى المليارات، وتم سرق ونهب حتى البيوت كمنزل اللواء بابكر عبد المحمود المؤسس والقائد الأسبق لقوات الدفاع الشعبي – يسكن مدينة المهندسين بأم درمان – احترق منزله بالكامل وحطمت مجموعة آثمة كل محتويات المنزل ونهبته وأحرقت عربته التى كانت بالجراج .. الجنوبيون استهدفوا كل شيء الأرواح والمحلات التجارية والعربات ومحطات خدمة الوقود، ومحطات الكهرباء الفرعية. وأحرق عدد من الأسواق، مثل سوق 6 بالحاج يوسف، والسوق الليبي في أبو سعد، وأغلب أسواق الأحياء، والمحال التجارية على واجهات الشوارع الرئيسية في مدن العاصمة الثلاث. ولم تستطع الشرطة – في الساعات الأولى – احتواء أعمال الشغب والصدامات باستخدام الغاز المسيل للدموع والهراوات، إلى أن صدرت توجيهات عليا فتدخل الجيش في الأمر، حيث انتشر في معظم الأحياء والشوارع الرئيسية، والمرافق الحيوية والبنوك والوزارات ومنازل المسؤولين والأسواق التي نجت من الحرق والنهب والسلب. وعندما شعرت السلطات أن الأمر سيخرج عن السيطرة أطلقت القوات الطلقات النارية على المعتدين، وطاردت النهابين الذين يحملون مسروقاتهم في أسواق الأحياء الطرفية في أم درمان والحاج يوسف وجنوب الخرطوم مثل أحياء «الكلاكلات» وعد حسين ومايو. هذا ما كان في العاصمة، لكن أعمال العنف شملت مدناً سودانية أخرى مثل بورتسودان والمناقل بولاية الجزيرة حيث يكثر فيها تواجد مواطني الجنوب

أحزان باقية

يقول أحد شهود عيان تلك الأحداث وأشار أن أحداث الإثنين تسبب فيها غبن اجتماعي بحسبان أن وفاة قرنق كانت صدمة لأشخاص يرون أن قرنق هو منقذهم اجتماعياً وأنه من سيرفع مستواهم المعيشي. وأشار محدثي إلى أن هؤلاء خرجوا للشوارع تعبيراً عن الفقد الجلل فوجد اللصوص والمغبونون اجتماعياً والمهمشون الفرصة للانتقام من الحكومة التي يرون أنها سبب ما يعانون، وذكر أنه حاول تهدئة الثائرين لكنه لم ينجح. أحد ضحايا تلك الأحداث وهو صاحب سوبر ماركت يصف ما حدث في ذلك ويعتبره يوماً أسود، مشيراً إلى أنه ومع بداية الأحداث خرج هو ورفيقه من البقالة وهما ينظران إلى الذين يسلبون أموالهم ولم يستطيعا فعل شيء. مضيفًا أن خسائرهم تقدر بـ 180 مليون جنيه، وأنه وبعد أكثر من عشرة أعوام تم تعويضهم 40 ألفاً فقط.

وهذا ضحية أخرى من ضحايا ذاك اليوم المشؤوم وهو صاحب مغلق بشارع الردمية الحاج يوسف والذي قدر خسارته بـ30 مليون جنيه، قال إنه أعاد نشاطه التجاري بالاستدانة من أصحاب المصانع. وأن عمله وبعد مرور عام من الحادث يصب في تسديد الديون.

أما محمد، وهو صاحب بقالة بشارع الردمية تم حرقها في الأحداث، قال في حديث سابق إن أحداث الإثنين كانت عنيفة ومرعبة. وقال إنه كان خارج السودان وعندما عاد وجد محله (رماداً) وقدر خسارته بنحو ثلاثة ملايين وتم تعويضه كاملاً.

غلٌّ وحقد

أحداث الإثنين الأسود كشفت مدى الغل والحقد الموجود بين الثنايا والصدور والتي حدثت جراء اصطدام الطائرة الحربية التابعة لسلاح الجو اليوغندي التي كان يستقلها جون قرنق بجبال (الأماتونج) التي تقع في جنوب السودان وتحديدًا في الولاية الاستوائية بالقرب من الحدود مع أوغندا”، وبعيدًا عن مدبر اغتيال قرنق ذكر بعض الذين كانوا برفقة قرنق في يوغندا ولم يصعدوا إلى تلك الطائرة التي قتل فيها مع ستة من مرافقيه .. ذكروا بأن جون قرنق ومرافقيه كانوا من المفترض أن يستقلوا الطائرة الرئاسية التابعة للرئيس اليوغندي يوري موسفيني في رحلة العودة للخرطوم بعد قضاء يومين في كمبالا التقوا خلالها خصوصاً بالرئيس اليوغندي، ولكن وفجأة وفي اللحظات الأخيرة وقبل السفر والعودة للخرطوم تم استبدال الطائرة الرئاسية بأخرى مروحية، وباستغراب شديد سأل قرنق الرئيس اليوغندي عن سبب تبديل الطائرة بأخرى مروحية، فأجابه بأن الطائرة الرئاسية قد أرسلت إلى روسيا للصيانة.

حبس أنفاس

ومنذ ليلة الثلاثين من يوليو عاش كل الذين تابعوا الشأن السياسي والعلاقة المتوترة مع الجنوب الذي حمل السلاح في وجه الحكومة لعشرين عاماً، ومن ثم توقيع اتفاقية السلام الشامل نيفاشا في العام 2005 كل هؤلاء كانوا يحبسون الأنفاس بل ذهب البعض في التحليل والتوقعات بما يحدث عقب توارد الأخبار، وبعد ساعات من الأنباء المتضاربة حول مصيره أعلن السودان رسمياً الإثنين 1-8-2005م مقتل نائب الرئيس جون قرنق في تحطم مروحيته، وذلك بعدما أكد مسؤول كبير في الحكومة الأوغندية أنه تم العثور على حطام مروحية قرنق وأنه قتل مع جميع مرافقيه قرب الحدود الأوغندية السودانية. وبعد تأكيد حادثة الوفاة خرج أهل الجنوب إلى الخرطوم ومدنها وشوارعها وأسواقها وفعلوا فيها واستحلوا الخراب.. الأمر الذي دعا ولاية الخرطوم لأن تعلن حظر التجول لمدة 12 ساعة، اعتباراً من الثالثة بعد الظهر، وجاء القرار كالتالي: يحظر التجوال في كافة محليات ولاية الخرطوم اعتباراً من الساعة السادسة مساء وحتى الساعة السادسة صباحاً لحين صدور أمر آخر، وأصدرت ولاية الخرطوم قراراً آخر يحظر أي تجمع أو تجمهر أو موكب في الطرقات والأماكن العامة في كافة محليات ولاية الخرطوم، إضافة إلى ضرورة الاستعانة بالقوة العسكرية لإعادة النظام بالولاية والحفاظ على السلام العام. وتم إغلاق مخارج العاصمة وجميع الجسور التي تربط بين ضفتي النيل. وأغلقت السلطات المؤسسات الرسمية والمدارس، وطلبت من المواطنين التزام منازلهم.

انفلات أمني

وفي السياق، أكد عدد من الخبراء الأمنيين عقب اندلاع تلك الأحداث المشؤومة والتي لن تمحى من ذاكرة الشعب السوداني بأن ما حدث في العاصمة الخرطوم يعتبر حالة انفلات أمني كامل وكان من الصعب السيطرة عليه بل ذهب كثيرون بل جزموا بأن تلك الأحداث كان مرتباً لها من حيث المعطيات والمعلومات التى توفرت والأدوات التي تم استخدامها والتي تحتاج إلى وقت طويل لتحضيرها، وقد ظهر قانون الغاب جلياً وواضحاً في تلك الأحداث المروعة والتي لم تألفها مدن السودان منذ وجودها وتاريخها الطويل، وقد سادت روح التشفي والحقد في تلك الأحداث من اقتل ..دمر.. اذبح .

عبر الأحداث

وأكد العميد “م” ساتي سوركتي أمين الإعلام والناطق الرسمي لمنبر السلام العادل في حديثه للصيحة أن أحداث الإثنين الأسود كانت متوقعة للعارفين ببواطن الأمور أن التاريخ يؤكد أن السياسة وإدارة المجتمعات علم يخضع لعبر الأحداث كما يخضع لمنطق العقل والإدارة والحساب، أحداث الإثنين الأسود مثلت لحظة فارقة احتشدت فيها كل هذه العوامل (التي في رؤوس الجنوبيين ورؤوس الشماليين وهي من حقائق الجغرافيا السياسية.. عبرت بقوة عن نفسها.. ويضيف سوركتي: المدهش وهي الحقيقة التي تتهم العقل الجنوبي تماماً أن انتقال الإثنين الأسود إلى الجنوب وإعادة تمثيله في مسرحهم وبين ظهرانيهم وكأن الحقد والغل من مكونات النفس الجنوبية والعقل الجنوبي.

من قتله؟

بعد مرور اثني عشر عاماً على حادثة مصرع جون قرنق فإن التقارير التي أشارت لإمكانية ضلوع قيادات من الحركة الشعبية في الحادث ظهر مرتين الأولى في تقرير أعده الصحفي الجنوب سوداني ايزايا إبراهام بعنوان: (من قتل قرنق؟!) قبل عدة سنوات أشار فيها لتكهنات بتورط بعض القادة السياسيين بدولة جنوب السودان في تلك المؤامرة، لكنه في ذلك التقارير لم يتطرق لأي حيثيات أو معلومات تعزز ذلك الاتهام .أما التقرير الثاني الذي نشر على المستوى الإعلامي فكتبه مورغان أمونا بعنوان: (تداعيات التحقيق بعد سقوط طائرة قرنق) والذي أشار في إحدى فقراته لإجراء الأمريكان لاتصالات سرية بعدد من قادة الحركة الشعبية خاصة القيادات الوسيطة بغرض اختيار بديل يعمل على تنفيذ مخططات فصل جنوب السودان بعد رحيل قرنق .السمة المشتركة بين التقريرين أنهما تطرقا لهذا الأمر دون تقديمهما حيثيات تؤكد وتعضد وجهات نظرهما تلك بخلاف التحليلات والاستنتاجات بوجود مؤشرات على خلافات بينها وبين قرنق، ولذلك يبدو السياق الأقرب للدقة أن تلك القيادات لم توظف أو تشارك في تنفيذ هذه العملية فيما اقتصر دورها على قيادة الحركة الشعبية لتوجه جديد هو في جوهره ومساراته مخالف كلياً لرؤية قرنق التي قُبرت معه.
عبد الهادي عيسى
الصيحة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.