“فيلم إشاعة حب”.. كيف تتدمر علاقات الحب والزواج

يبدو “إشاعة حب” فيلماً مرعباً إذا ما نظرنا له على أنه يُجرِّد العلاقات العاطفية من صورتها المعتادة في الأفلام الرومانتيكية، المحاطة دائماً بهالة من التقديس وأجواء الميلودراما، ليقدم لنا عملية إعادة إنتاج رجل تقليدي في صورة نجم جذاب، بفضل “شوية مسائل” بتعبير يوسف وهبي.

ربما أدرك عمر الشريف، منذ وقت مبكر، أن “المسائل” هي سر النجومية؛ لذا كان حريصاً على أن يمر بالحديث عن مغامراته النسائية في مقابلاته التلفزيونية.. لكن النجم الذي التصق به وصفُ “الفتى اللعوب-Play boy” طوال حياته، كانت لديه الشجاعة أيضاً أن يعترف بأن كل تلك المغامرات لم تنجه من الإحساس بالوحدة، وكأنه في كل لقاء كان يرسل ليوسف وهبي رسالة مفادها أن “المسائل” لا تمنح الإنسان السعادة.

جسَّد دور يوسف وهبي في فيلم “إشاعة حب” نموذج الرأسمالية الصناعية الصاعدة في بدايات القرن العشرين. الرجل الثري القادم من أسفل السلم الاجتماعي والذي فتح له نمط الإنتاج الحديث “الصناعة” باباً لكي يدخل عالم الأرستقراطية، وإن كان لا يزال محافظاً على شيء من طباعه الشعبوية.

وبالطبع، فإن ثرياً من هذا الطراز كان مضطراً في شبابه إلى أن يتزوج امرأةً من الطبقة الأرستقراطية؛ لكي يترقى اجتماعياً على حساب اسم عائلتها “سلطح بابا”، والثمن هو سداد ديون العائلة العريقة المفلسة، تلك كانت أيضاً بداية الرأسمالية المصرية في نهاية القرن التاسع عشر عندما سدَّد كبار المزارعين المصريين ديون الخديوي إسماعيل مقابل تملُّك الأراضي التي يعملون عليها.

كل تلك الأحداث يرويها لنا الأبطال في حكاياتهم عن الماضي، بينما تدور أحداث الفيلم في وقت أصبح فيه الرأسمالي عجوزاً يسيطر عليه إحساس بالحسرة على ماضيه الذي أفناه في جمع الأموال مع سيدة أرستقراطية لا يحمل تجاهها عاطفة حقيقية؛ لذا فهو يندفع دائماً وراء مغامرات مع شابات صغيرات، ويعمل جاهداً على إخفاء ذلك عن زوجته التي تقف له بالمرصاد، وتبدو تلك “الملهاة ” أحد مصادر الكوميديا في فيلم تطغى عليه الروح المرحة.

ثم تنتقل المبارزة بين الزوجة الأرستقراطية والزوج الرأسمالي على مستقبل الابنة، فالطبقة العريقة تعافر من أجل بسط هيمنتها من جديد عبر ترشيح شاب من أصول تركية يجيد الرقص ولا يُقدِّر قيمة العمل كزوج للابنة.

وفي المقابل، يدفع الأب بابن أخيه الذي يفني شبابه في شركة عمه الصناعية كعريس منافس، وعلى الرغم من سوء مظهر ابن الأخ، فإن الرأسمالي العجوز يتمسك بـ”عمر الشريف”؛ لأنه هو الامتداد الطبيعي لعملية التراكم الرأسمالي التي بدأها في الماضي، حيث يتولى أهم ملفات إدارة الشركة الصناعية ويقاتل من أجل الحفاظ عليها.

تنبع الإثارة في الفيلم من أن عمر الشريف يبدو في بداية الفيلم حالة ميؤوساً منها، خاصة وهو يقول ليوسف وهبي “أنا عمري ما عرفت ستات”، لكن العم يأخذ ابن أخيه للشركة، ويعرض لنا الفيلم بالتفصيل عملية “صناعة العواطف”، وكيف تتأثر ميولنا الجنسية تجاه الآخر ببعض الخدع البسيطة، مثل الإيحاء لامرأة بأن رجلاً ما مرغوباً من امرأة أخرى جميلة.. هكذا تتحول مشاعر الابنة فجأةً من الرفض التام إلى الإعجاب الشديد.

هكذا، تعمل الرأسمالية على تنميط حياتنا ورغباتنا طوال الوقت؛ فهي تقنعنا بأكل أغذية غير صحية ودفع مبالغ باهظة مقابل ماركات الملابس الشهيرة، وتستطيع أيضاً أن تقنع فتاة أحلامك بأنك الرجل المناسب، الرأسمالية عندها الحل لكل مشاكلك.

أو بمعنى آخر، فإن مشاعرنا الإنسانية مجرد أوهام تستطيع أن تشكلها “الدعاية والإعلان” كيفما تريد، أو هكذا يوحي لنا الفيلم، تستطيع أن تجد تطوُّر شخصية يوسف وهبي بهذا الفيلم في دور عادل إمام وهو يروج لـ”الفنكوش” في فيلمه الشهير “واحدة بواحدة”.

وكما هو معروف، فإن الحياة الحقيقية لعمر الشريف كانت بالطبع هي النقيض لدوره في “إشاعة حب”، وربما أفلام مثل “سيدة القصر” كانت أقرب لشخصيته في الواقع، كشاب من أسرة ميسورة يجيد مغازلة الفتيات ويحب لعب القمار.

وكان النجم الذي ارتقى إلى العالمية بعد دوره المعروف في فيلم “لورانس العرب”، يظهر في العديد من اللقاءات التلفزيونية الغربية متحدثاً بصراحة تختلف كثيراً عن اللغة المحافظة التي كان يتحدث بها مع التلفزيون المصري؛ إذ تحدث مثلاً في إحدى المرات عن سيدة من مشاهدي أعماله السينمائية اقتحمت عليه غرفة نومه في الفندق وطلبت منه، تحت تهديد السلاح، أن ينام معها.

وفي فيديو آخر، يتم تداوله على الفيسبوك، مترجم للعربية، يتحدث عن مغامرة لم تكتمل مع سيدة جميلة رفضت أن تصعد معه غرفة النوم، الأمر الذي أصابه بالإحباط ودفعه للعب القمار، وفي الصباح اكتشف أنه ربح أموالاً طائلة، فقال لها إنه مدين لها؛ لأنها لو وافقت كانت ستكون أكثر ليلة حب مكلفة في حياته.

ويبدو متوحداً تماماً مع دوره كرمز جنسي وهو يدخل استديو أحد البرامج على ظهر سيارة مكشوفة وبين ذراعيه فتيات جميلات، ربما يشبه ذلك المشهد الوصف الساخر الذي قدمه سمير غانم في مسرحية “أهلاً يا دكتور” عن لقائه إياه في رحلة إلى باريس “قمر يا زناتي ماشي في الشارع مدلّع نفسه.. ومعاه ست نسوان يا زناتي! ستة، واحنا جربانين حنموت”.

كلمات سمير غانم ربما تعكس انطباعات قطاع واسع من الجماهير عن عمر الشريف وجاذبيته في الأوساط الفنية، تلك الجاذبية التي دأب صناع السينما العالمية على صناعتها وتنميتها في الأدوار التي كانوا يرشحونه للعبها، وكأنهم يكملون المهمة التي بدأها يوسف وهبي وهو يصيغ من حوله أسطورة الرجل الذي تقع في غرامه كل الفتيات، وإن كانت كل تلك الجهود لا تقلل بالطبع من موهبته البارعة في التمثيل والكاريزما الطاغية التي تطلّ من عينيه، لكن لماكينة السينما -أو قل الرأسمالية- سحرها على العقول الذي لا يفوقه أي سحر.

ربما هالة الجاذبية المحيطة بعمر الشريف هي التي كانت تدفع المذيعين في لقاءاتهم التلفزيونية معه لسؤاله عن سبب عدم ارتباطه بعد الانفصال عن فاتن حمامة. لم تكن فاتن حمامة معروفة بشكل واسع في الأوساط الغربية؛ إذ اختارت أن تكمل حياتها في مصر، لكن قصة زواجها بعمر وأسرته الصغيرة بمصر كانت معروفة في الخارج.

وكان لدى عمر الشريف الشجاعة لكي يقول في عدة مرات، وبطرق مختلفة، إنه غير سعيد في الحب، صحيح أنه خاض مغامرات لا تعد ولا تحصى، لكنه يفتقد الإحساس بالشغف، كان ذلك شبح الوحدة الذي ظل يلاحق نجم البلاي بوي سنوات طويلة من حياته ويُعكر عليه صفو نجوميته.

وفي أحد اللقاءات، فسر هذه الوحدة بقوله إن كل إنسان يبحث عن الحب المثالي، وعادة لا يجد المرء هذا الحب فيقبل بحل وسط ويرتبط بالاختيار التالي للاختيار المثالي، أما هو فمشكلته أنه لا يستطيع أن يرضى بالحلول الوسط.

كان فيلم “إشاعة حب”، إذاً، يجسِّد طموحات الرأسمالية في مرحلة مبكرة وهي تسعى للانتصار التام على الأرستقراطية أو قل على الماضي، وإعادة صياغة أحلام وتطلعات الأجيال الجديدة أو قل التحكم في المستقبل، وقد استمرت المسيرة بالفعل من بعد تلك الحقبة.

إذ تطورت صناعة الجاذبية في هذا العصر بشكل كبير، نظرة واحدة على لافتات الأوت دور تستعرض لنا رجالاً من طراز آسر ياسين أو ظافر العابدين وممثلات من طراز نيللي كريم أو هيفاء وهبي، صارت الوجوه أكثر جمالاً في لافتات الإعلانات، لكن واقعنا مليء بالوحدة مثل حياة عمر الشريف.

أصبحت العلاقات العاطفية أكثر تعقيداً، واستنزفتنا المنظومة الرأسمالية في ساعات عمل طويلة بمقابل مادي ضئيل، وصارت الشاشات المضيئة -الموبيل واللاب توب- أقرب إلينا من وجوه من نحب، طغت “المسائل” على حياتنا وأصبحت الوحدة هي القانون والأُلفة هي الاستثناء.

محمد سيد جاد
صحفي متخصص في الاقتصاد
هاف بوست

Exit mobile version