قال الشيخ “بابكر بدري”، في كتابه الأمثال السودانية، إن رقص الرجال يعدّ عيباً، في شمالي ووسط السودان، وذلك في معرض شرحه للمثل القائل “البرقص ما بغطي دقنو”، وربما يكون معظم فناني الغناء قد جاءوا من هاتين المنطقتين، فإنهم حاولوا إيجاد معادلة بين تجمع بين الوقار والغناء، في نفس الوقت. بين محافظتهم على احترام المجتمع لهم، من احترامهم لأنفسهم، وبين ممارستهم للغناء، والذي لا ينفصل عن الرقص، لحد كبير، بتغطية ذقونهم أثناء الغناء، الذي لا يخلو، هو الآخر، من شبهة حرمة. وأحياناً، باللجوء للغناء سراً، في القعدات.
{ الابتعاد عن “الصيّاع”
وقد وصف صاحب “لمحات من المجتمع السوداني” بعضاً من الشروط الاجتماعية، التي تطور فيها فن الغناء، خاصة تلك التي أحاطت بحياة الفنان “خليل فرح”، إذ إن المجتمع، لم يكن راضياً عن فناني الغناء، أيضاً، وكان يصنفهم ويطلق عليهم وصف “الصيّاع”، كما كان يردد الفنان “حسن عطية”. ربما لهذا السبب ابتعد كل من “خليل فرح” و”عبد الكريم الكابلي” و”حسن عطية”، عن مجتمع الغناء، وتركوا مسافة بينه وبينهم. فيما لجأ الفنان “صلاح بن البادية”، لاحقاً، للالتحاق بعالم الغناء تحت اسم مستعار.
{ “الصورة” للرقص
ومع أن الفنان الكبير “محمد وردي”، في مسعى لإعادة الاعتبار للرقص، قال، ذات مرة، في حديث إذاعي، عن أغنيته الشهيرة، (الصورة)، إنه تم تأليفها خصيصاً للرقص، الذي قال إنه فن مظلوم، ولحنها على إيقاع ما اصطلح عليه، عامئذ، بـ(الجيرك)، الرقصة الذائعة في سبعينيات القرن الماضي، إلا أن الفنان الكبير، الذي بدأ تجربته الفنية بتأثر خطى الفنان “الذري”، لم يشاهد وهو يرقص أثناء الغناء.
{ “ألفيس بريسلي” السودان
ربما يكون “إبراهيم عوض”، قد اكتسب صفته “الذرية”، من مصادمته للسائد، ثقافياً واجتماعياً، في هذا المجال، بدءاً من “تسريحة شعره، وفاطره الدهب، وأناقته، وفنه الجديد”. كان فناناً ثورياً على طريقة (البيتلز). لعله كان “ألفيس بريسلي” السودان. ومع ظهور التلفزيون، كانت وقفة الفنان وهو “معسم، متخشب” أثناء الغناء، نقطة ضعف المشهد البصري، التلفزيوني، والتي كانت تجري محاولة التغلب عليها بانتقال الكاميرا، سدى، بين العازفين وبين الجمهور. وقد انتقل هذا القصور في الأداء الحركي الإيقاعي للفنان.
{ “جنن” بها السودان
مع ظهور الأغنية المصورة.. الفيديو كليب، والتي اشتهرت نماذجها المعيارية، برقص المغنين والمغنيات، وقد عمدت المغنيات، في الآونة الأخيرة، إلى إضافة نكهة من “قرنفل” التعري إلى “قرفة “التعبير الجسدي. وقد اشتهر “مايكل جاكسون”، بابتداع رقصات غير كلاسيكية، حملت اسمه، ورافقت العديد من أغانيه، بعضها أقرب إلى التمرينات الرياضية المعقدة والقاسية.
يمكن اعتبار ثورية الفنان “إبراهيم عوض”، عليه رحمة الله، إزاء تقليدية المجتمع، بجانب ما أنتجه من عديد الأغاني الراقصة، المواكبة لأحدث صرعات الغناء والرقص العالميين، في ذلك الوقت، و”جنن” بها السودان، على حد تعبير “وردي”، في إشارة خص بها أغنية “حبيبي جنني”، التي لم تكن الوحيدة التي تميزت بمثل هذا الأثر الصاعق، وإنما تكمن، أيضاً، في أنه أول من دمج الرقص أو الأداء الحركي في سياق من الغناء الخفيف، في مركب إبداعي واحد. أحياناً، تشارك راقصات إثيوبيات، خاصة، في تقديم العرض.
هذا المنجز قد يجعل منه الأب المؤسس الثالث للأغنية الحديثة، بعد “كرومة” و”الكاشف”. وقد روى عنه بعض معاصريه، قوله، فيما يخص مدخله للرقص: (.. إنو الفنان زمان، كان يضع رجلو فوق الكرسي، ويغني، فالمسألة دي، ما عجبتو. وده السبب الخلاهو يدخل الغناء الراقص في المسرح). وحسب “شوقي بدري”، فقد (كان يتحرك مع الغناء، خاصة الأغاني الراقصة مثل يا سلوى)، و(يرقص برجولة)، حسب تعبير الشاعر “إبراهيم الرشيد”.
ففي ذلك الوقت كان معظم الفنانين، يتفادون حرج الرقص، أو الأداء الراقص، باللواذ بالعود، والاستعصام بالعزف عليه، أو حتى “بعلبة الكبريت”، التي كاد الفنان “عبد العزيز محمد داوود”، عليه رحمة الله، أن يكرسها جزءاً من الأوركسترا، بحيث أصبح العود جزءاً من المظهر العام للفنان أثناء الغناء. كان ذلك مقبولاً في زمن الإذاعة المسموعة، لكن في ظل هيمنة الصورة على أجهزة الإعلام المرئية، ومنها التلفزيون، تبدو الأغنية فقيرة، بدون الأداء الحركي الإيقاعي، المصاحب، بدون عمق بصري، حسب النموذج العالمي السائد، والذي يسيطر على ويوجه ذائقة المتلقي ويتحكم بها.
عبد الله رزق
المجهر