يقود وزير المالية محمد عثمان الركابي في العاصمة الأمريكية واشنطون جولات تفاوض مع مؤسسات أمريكية ذات علاقة بحركة التعاملات المالية ومع مؤسسات دولية مثل صندوق النقد والبنك الدوليين ، لذات الغرض ، ويبدو ان وزير المالية قد وجد فرصة لم تتح لوزير مالية منذ عشرين عاما هي عمر العقوبات الاقتصادية الأمريكية على السودان ، والاجواء التي يجري فيها الركابي اجتماعاته وجولاته هي بالتأكيد قد تجعل مخرجات هذه الزيارة كبيرة من حيث ترتيب الاوضاع والتعاملات التي قد نشأت نتيجة هذه التحولات الكبيرة في العلاقة بين الخرطوم وواشنطون بعد الثاني عشر من اكتوبر الحالي .
والشيء المؤكد ان تلك العقوبات الاحادية التي فرضت على السودان قد اثرت كثيرا في سعر الصرف واتسعت الهوية بين الجنيه السوداني والدولار الأمريكي ، كما هو مشاع خلال تلك الايام الى ان ساوى الدولار الواحد أكثر من عشرين جنيها ، ولاتدري الاجيال التي تجاوزت الثلاثين عاما بقليل ان الجنيه السوداني كان يساوي 3 دولارات أمريكية في فترة حتى بداية الثمانيات ، وحتى التدهور الذي حدث في نهاية فترة الرئيس النميري ومابعد الانتفاضة ، وماتم في عهد الانقاذ بسبب عدم توافق السياسات بين البلدين لم يكن احد ان يتوقع ان يصل سعر الجنيه السوداني والذي كان يعادله الذهب في بنك السودان مثله ومثل العملات الاخرى في العالم .
وفي العام 1973 تم تعويم الدولار الأمريكي واخراجه من المعيار الذهبي حيث كانت اوقية الذهب تساوي 42 دولارا ،في عهد الرئيس ريتشارد نيكسون ووزير الخزانة الأمريكي وقتها جون كوناللي ،والذي قال قولته «ان الدولار هو عملتنا ولكنه في النهاية مشكلتكم ».
وبالفعل اصبح الدولار مشكلة عندما اصبح هو العملة العالمية مساويا للذهب ولكن مع تصاعد الاحداث خاصة في حرب فيتنام اضطرت الولايات المتحدة طبع عملات من غير غطاء ذهبي لتغطية نفقات الحرب ،وبالتالي اصبح الدولار مجرد ورقة لاتكلف طباعتها شيئا وليس لها رصيد من الذهب يغطي قيمة هذه الورقة .
واصبح الدولار يمنح أميركا نفوذاً واسعاً في العالم، ليس فقط على الصعيدين المالي والنقدي فحسب، بل كذلك على صعيدي النفوذ السياسي والعسكري وإجبار الدول على تنفيذ سياستها عبر الحظر المالي والاقتصادي، وذلك حسب البحث الذي أصدره أستاذ الاقتصاد السياسي، البروفسور جونثان كيرشنر، الذي يعمل بجامعة هارفارد الأميركية.
ويكفي التدليل على الميزات التي يمنحها الدولار لأميركا وشركاتها، القول إن طباعة ورقة من فئة مائة دولار تكلف أميركا حوالى 12 سنتاً فقط، ولكنها تشتري بها بضائع وخدمات من العالم قيمتها مائة دولار، وذلك حسب ما ذكرت البروفسورة الأميركية لان كاو، في كتابها الذي صدر بعنوان «حرب العملات وتعرية هيمنة الدولار» .
ومن هنا يتضح ان معركة سعر الصرف في حقيقتها هي معركة لنفوذ «وهمي» للدولار الأمريكي والذي في حقيقته يستند على على اثر انتهي في زمان مضى عندما فكت أمريكا الارتباط وتخليها عن طباعة الدولار بمقابل الذهب ، ولكن ظل هذا نفوذا قائما والمستفيد الوحيد منه هو سياسة الهيمنة التي تفرضها واشنطون على العالم من خلال هذا النفوذ الوهمي .
وأمريكا لاتقبل اي دولة في العالم مهما كانت حتى حليفتها الكبرى بريطانيا ان تمس هذا الموضوع والذي يمكن ان يؤثر على وضع الولايات المتحدة الأمريكية الاقتصادي وبالتالي السياسي ، ومن هنا كانت تتحكم في مجريات الامور في العالم من خلال آليات ومؤسسات يمكن ان يطلق عليها دولية مثل صندوق النقد والبنك الدوليين وهي مؤسسات تتحكم في حركة وحجم التعاملات المالية ومايقابلها من تجارة او صناعة او استثمار وبالتالي تمثل هاتان المؤسستان اليد القابضة او الضاربة التي تعين الولايات المتحدة في تنفيذ سياساتها في الحفاظ على قوة الدولار الوهمية في العالم .
وفي السودان ايضا عندما حاول السودان استخراج النفط من غير الشركات الأمريكية ومن دون رضاء الادارة الأمريكية كانت الملفات التي فتحت يتهم بها السودان مثل التفرقة والاضطهاد والعنصرية والتي قادتها منظمات في اطار حملة يمكن ان تكون مدخلا للتدخل في السودان وقبل عامين فقط من استخراج النفط السوداني ووصوله الى ميناء بشائر في العام 1999م فرضت الولايات المتحدة قرار العقوبات الاقتصادية على السودان وبموجب هذا القرار استطاعت الولايات المتحدة ان تفرض نفوذها على الدول التي يمكن ان تتعامل مع السودان في ظل التطور الاقتصادي الذي حدث لاستخراج النفط ، وبالتالي حجم هذا الحصار تعاون كثير من الدول ان تتعاون مع السودان في كثير من المجالات والتي كاد بموجبها ان يحقق السودان نهضة كبرى وبالتالي تنهض قيمة الجنيه السوداني ، وقد تكون المخاوف الأمريكية تجاه السودان هي ان تلك المخاوف ربما يسندها اقتصاد كبير بامكانيات السودان في الموارد الطبيعية التي تعلمها الولايات المتحدة، ويمكن للسودان ان يكون صاحب نفوذ في القارة الافريقية ، ولم تكتف واشنطون بفرض العقوبات الاقتصادية فقط ولكنها سعت لانفصال الجنوب وبالتالي حرمان السودان من حقول النفط عندما شعرت ان الجنيه قد يلامس في قيمته الدولار حيث اصبح الدولار يساوي 2جنيه وبالتالي تفوق على الريال السعودي والقطري حيث اصبح الريال يساوي نصف جنيه ،ولكن بعد انفصال الجنوب واستمرار الحصار انخفضت قيمة الجنيه السوداني امام الدولار الى ان وصل تلك المرحلة المتأخرة من الفرق الذي بدا كبيرا .
واليوم تبدأ مرحلة جديدة في حوار الجنيه السوداني والدولار الأمريكي في بلاد العم سام بعد رفع العقوبات واقتناع الادارة الأمريكية باهمية السودان ورفع العقوبات عنه لاسباب تصب في مصلحتها ولم تكن المسارات الخمسة الا عملية لاخراج رفع العقوبات بصورة مقبولة في نظر العالم ، واعتقد ان الجهد الذي يقوم به وزير المالية الركابي ومحافظ بنك السودان المركزي حازم واجتماعهما مع مساعد وزير الخزانة الأمريكية وصندوق النقد والبنك الدوليين اكيد سيصب في صالح سعر الصرف .
الصحافة