جموح الدولار .. ثم ماذا بعد؟

غمرني حزن عظيم حين شاهدت خبرًا بُث في فضائية يوغندية حول استقبال الرئيس اليوغندي يوري موسيفيني لوفد كبير من المستثمرين السودانيين يتقدمهم البرلماني ورجل الأعمال علي أبرسي، فهل بربكم من نعْي لوزارة الاستثمار في بلادنا بل للسودان أكبر من هذا؟!

مَن مِن المستثمرين الأجانب يمكن أن يفكر في القدوم إلى بلاد يهرب منها أبناؤها من رجال الأعمال بعد أن رأوا من العجائب ما يشيب لهوله الولدان؟!

تأتي زيارة الوفد السوداني ليوغندا في وقت تشهد فيه بلادنا أزمة اقتصادية خانقة انهار فيها الجنيه السوداني وتجاوز الأربعين جنيهاً للدولار، بل بلغ التضخّم رقماً لم يبلغه منذ الاستقلال، وتفاقم ضعف أدائها الاقتصادي الذي تجسّد في التخبّط الذي جعل قياداته تُصدر القرار وتُلغيه في اليوم التالي بصورة لا أظنها تحدث في أي مكان في العالم.

للأسف الشديد فإن الكل يسرح ويمرح ويُفتي ويًقرر على هواه بلا رقيب ولا حسيب ولا مساءلة، وكأننا في غابة من الفوضى يختلط فيها الحابل بالنابل ولا أحد يعلم من هو صاحب القرار فيها، ولا أحد يدري ما يُسفر عنه اليوم التالي، بل الساعة التالية من قرارات جديدة تُلغي أو تعدل السياسات السابقة!

نعيش للأسف في بلاد قلّ فيها الوجيع ورأينا فيها كيف تُعدّل القرارات بين عشية وضحاها، وكيف يُفتَك بالموازنة بعد إقرارها في البرلمان وتُغيّر السياسات الاقتصادية وسعر الصرف ويرجع إلى سياسة الاستيراد بدون تحويل قيمة الـ(nil value) والتي غادرناها قبل أشهر قليلة كما رأينا كيف يُتَّخذ أخطر قرار سياسي بدون أن يطرف لمُتّخذه طرف أو جفن، حيث أزيل الدعم عن القمح بصورة فجائية بلا سابق إنذار أو تدرّج ورفع الدولار الجمركي بنسبة قاربت الـ 200% دفعة واحدة بما لا يمكن أن يتصور ناهيك عن أن يحدث في العالم أجمع.

يحدث ذلك بالرغم من وجود خبراء نحارير في الاقتصاد يحملون أعظم الدرجات العلمية وشهدت لهم المؤسسات الاقتصادية الدولية التي تولوا فيها مناصب رفيعة، وذلك بعد أن أداروا قبل ذلك الاقتصاد السوداني في أحرج الأوقات وأصعبها وواجهوا كل مشكلاته وتقلُّباته على مدى عقود من الزمان، ولكن فجأة نتخطى كل أولئك ونأتي بمن

لم يعمل يوماً واحداً في مطابخ التخطيط أو القرار الاقتصادي ليقود أخطر وزارة اقتصادية في جهازنا التنفيذي بدون أدنى مُبرر غير أسلوب (شختك بختك).

حق لأبرسي ولغيره من رجال الأعمال أن يهربوا نجاةً بجلودهم من بلاد يقفز فيها سعر الدولار في اليوم الواحد أحياناً عدة مرات، فقد بُح صوت الرجل الذي رأيته بعينيْ رأسي وهو يصرخ (ويكورك) ورآه الناس في فيديوهات منتشرة في الأسافير وهو ينصح و(ينبح) بلا فائدة.

ليتنا نُغلق وزارة الاستثمار ونوفّر ما يُهدَر عليها فقد تودع منها.

إنها لمأساة كبرى ينبغي أن نُقيم لها سرادق العزاء ليأتي إخواننا الأفارقة وكل الدنيا ليواسونا في مصابنا الجلل وأعجب من جرأة القائمين على الأمر وهم يتباهون بإنجازاتهم.

بينما كنتُ في عزاء شاعرنا الفحل سيف الدين الدسوقي في مدينة الثورة بأم درمان (الحارة 24) سمعت صنوفاً من الشكوى من سوء الحال ومن ضيق العيش، ومن الرفض والغضب أكاد أجزم أنني لم أشهد مثله في أي يوم من الأيام.

لحظتها شعرتُ بالبون الشاسع بين ما يعاني منه مساكين بلادي وبين حال الدستوريين – وأنا منهم – وخجلت عندما ركبتُ سيارتي الحكومية (الكامري) مغادراً مكان العزاء وتمنّيتُ لحظتها أن لو استقللتُ عربة أكسنت أو أمشي راجلاً، وليت قيادة المجلس الوطني، يتبنون مبادرة إبدال سياراتهم بعربات صغيرة على ألا يُمنح الواحد منهم أكثر من عربة واحدة.

لا تستهينوا بهذه المبادرات، فإنها مما يصلح صورتنا الشائهة لدى المواطنين ثم إنها توفر مبالغ طائلة لو عُمّمت على مستوى الدولة جميعها.

إن إحدى القضايا التي تعزلنا عن الشعب الذي نزعم أننا نمثله وتخجلنا أمامه انعدام القدوة واقتناعه بأننا لا نحس بمعاناته، فهل يبتدر المجلس الوطني بعض المبادرات التقشفية ثم يحاول فرضها على الجهاز التنفيذي على مستوى المركز والولايات؟

سيدي الرئيس ..اذهب قبل فوات الأوان إلى صديقتنا وقت الضيق (قطر) وآتِنا بوديعة تحدُّ من جموح الدولار وكذلك بقروض سلعية توقف المضاربة على الدولار .

الصيحة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.