النقود والسعادة.. كيف يفسر العلم العلاقة بينهما؟

أنت بالفعل تتمنى أن تمتلك بضعة ملايين، وتود كغيرك من الشباب، أن تحقق أحلامك البسيطة والمقبولة، ترى تلك السيّارة هناك فتقول إن سعادتك سوف تتحقق بالحصول عليها، تتمنى وظيفة محترمة مع دخل ثابت، لكن، هل يمكن أن يكون الوصول لذلك سببا في السعادة؟ للوهلة الأولى يظهر الأمر كذلك، أو قد يكون كذلك بالفعل، لكن النقاش في أمور كتلك طالما كان متروكا لجوانب الفلسفة والتأملات، ويدفعنا ذلك للتساؤل عن رأي جانب آخر من النطاقات المعرفية الهامة، إنه علم النفس.

كيف نقيس السعادة؟
دعنا هنا نتأمل تلك الدراسة الاستقصائية المثيرة للاهتمام من جامعة بوردو بقيادة أندرو جيب طالب الدكتوراة بقسم علم النفس والتي صدرت1 في 14 فبراير 2018 من مجلة نيتشر للسلوك الإنساني (Nature Human Behavior) والتابعة للدورية الرصينة والشهيرة “نيتشر”، في محاولة للإجابة عن سؤال مهم وهو “هل هناك تناسب طردي دائم بين النقود والسعادة؟”، فمن المعروف أن معدلات السعادة ترتفع كلما ارتفعت الدخول السنوية للموطنين، لكن طبيعة العلاقة بين السعادة والدخل ليست مفهومة بشكل واضح، لذلك فإن السؤال عن استمرار ذلك الأثر بشكل دائم، أو وصوله إلى حد أقصى، يمكن أن يساعد في توضيح شكل تلك العلاقة.

وما يميز ذلك البحث هو كبر وتنوع حجم العينة الخاصة به، والتي تمثل2 1.7 مليون شخص من 164 دولة حول العالم، من مستويات اقتصادية واجتماعية وسياسية مختلفة، بدرجة تنوع واسعة في عمر الخاضع للاختبار بداية من الخامسة عشر، مع محاولة لدراسة تأثير الفروق الجندرية، التعليمية، والسياسية مثلا على احتياجات الفرد للأموال، ودرجات تشبعهم بها من عدمها، لكن ربما في تلك النقطة من رحلتنا معا سوف تتوقف قليلا لتتساءل بشكل جدّي عن السعادة، حيث يمكن لنا بسهولة عبر آليات إحصائية أن نتعرف إلى بيانات كالنوع، والدخل الخاص بك، والتعليم، والعمر، والعمل الخاص بشخص ما، ثم نُدخلها لدراستنا وننتظر البيانات، لكن، كيف يمكن لنا أن نقيس “سعادة” شخص ما؟

هنا نحتاج أن نتعرف إلى ما نسميه بـ “النموذج الثلاثي للرفاهية الذاتية”3 (Tripartite model of subjective well-being)، والذي طوره إدوارد ديينر (Edward Diener) أستاذ علم النفس بجامعة يوتاه وأحد مؤسسي اختبارات مؤسسة جالوب4 (Gullup)، التي تقوم بهذا النوع من الدراسات الاستقصائية لصالح باحثين في جامعات مختلفة، وتصف هذه النظرية جودة حياة الناس عن طريق قياس معايير ثلاثة، الأول هو درجة الرضا عن حياتك، ويمثل الجانب الإدراكي من نموذج ديينر، والثاني والثالث يمثلان الجانب العاطفي، وهما الجانبان الموجب والسالب لما نسميه بالرفاه العاطفي “Affective Well-being”.

ويعبر المعيار الأول من هذا النموذج عن مدى رضاك عن عدة جوانب حياتية خاصة بك، كالعمل، والزواج، والصحة، وكذلك رغباتك أو أهدافك المستقبلية، ويتم قياسه5 عبر اختبارات بسيطة، حيث يُطلب، مثلا، من الشخص الخاضع للاختبار أن يتخيّل وجود سلّم مكون من عشر درجات، مرقّمة من 1إلى 10، تعبر الأولى منها عن أسوأ جودة ممكنة لحياته، والعاشرة عن أفضل جودة ممكنة لها، ثم بعد ذلك يختار درجة منهم لكي يقف عليها.

وفي ما يتعلق بجانب الرفاه العاطفي، فيعبر الجانب الموجب6 منهما عن كيفية تفاعل الناس مع المحيط الخاص بهم عبر أفعال موجبة، فيميل الأشخاص ذوو الدرجة العالية في هذا المعيار إلى أن يكونوا واثقين من ذواتهم، متحمسين ومغمورين بالطاقة، نشطين ومنتبهين دائما، أما أصحاب القيم العالية في الجانب السالب فيميلون للتعامل مع العالم عبر شعورهم بالذنب، الحزن والعصبية، الخوف، الإزدراء والقرف، ويتم قياس هذا الجانب عبر سؤالهم عن أي الحالات (تلك التي عرضناها منذ قليل) تعرضوا لها بشكل متكرر لأكثر من يوم.

العلاقة بين السعادة والمال محدودة
هنا تأتي نتائج الدراسة7 لتقول إن هناك بالفعل علاقة بين الدخل السنوي الخاص بالأفراد ومعايير ديينر الثلاثة، جودة الحياة، والرفاه العاطفي السلبي والإيجابي، لكن تلك العلاقة تظل طردية فقط حتى مبلغ محدد بالنسبة للفرد الواحد، هذا المبلغ يتنوع إلى حد كبير حسب الدولة، لكن المتوسط هو 95 ألف دولار، أو حسب ما يقابلها من عملتك، سنويا بالنسبة لاختبارات جودة الحياة، و75 ألف دولار بالنسبة للحالة السالبة، و60 ألف دولار للحالة الموجبة من الرفاه العاطفي، بعد هذا الحد تبدأ معايير نموذج ديينر، في مجموعة من المناطق، بالانخفاض، يعني ذلك أن السعادة لا تتناسب بشكل دائم مع ارتفاع كم النقود الذي تحصل عليه، لكن هناك ما هو أشبه بنقطة تحوّل تبدأ جودة حياتك بعدها في الانخفاض مرة أخرى وتصبح أقل سعادة، يدفعنا ذلك للفضول، حيث يحق لنا طرح السؤال التالي: لماذا يحدث هذا؟ أليس من المفترض أن الحصول على كم أكبر من المال يمكننا من شراء أشياء أكثر، وبالتالي، نصبح أكثر سعادة؟

لايزال هذا السؤال مطروحا على طاولة النقاش، لكن يتصور جيب8 ورفاقه في الدراسة أن هناك عدة أسباب محتملة لسقوط قيم معايير جودة الحياة بعد نقطة التحول، فمثلا يتطلب الحصول على دخول عالية جدا بذل جهد كبير جدا، والعمل بشكل يومي لساعات طويلة، مع قدر كبير من المسؤولية، من أجل الوصول إلى ذلك المستوى، ما قد يتسبب بدوره في تأثير سلبي على جودة حياتنا، أضف إلى ذلك أن هذا القدر من الدخل المهول يتسبب في تحويل نمط الحياة إلى شكل “مادي” بدرجة أكبر، وهو ما قد يؤثر على شكل مشاعرنا.

كذلك قد تنخفض درجات جودة حياتنا مع ارتفاع درجات المقارنة الاجتماعية، أو أن تتسبب التغيرات التي تطرأ على حياتنا بسبب الدخول العالية في انخفاض بجودتها، كأن تحصل مثلا على عدد أطفال أكثر فيتطلب تعليمهم نقودا أكثر، أو أن تضطر للسكن في أحياء مرفهة تتطلب الحياة فيها دفع عدد أكبر من الفواتير الشهرية .. الخ. ربما يكون ذلك إذن هو السبب في أن أكثر من يقولون إن “السعادة ليست في النقود فقط” هم من المليارديرات.

الأمر إذن ليس كما نظن، والثروة المثالية، وإن كانت ليست في متناول أيدينا الآن، وربما لن تكون، لكن لها حدود، وهي -للعلم- ليست مفاجأة في هذا النطاق البحثي أن نقول إن هناك حدا للمبلغ المثالي الذي يمكن أن تحصل عليه، لكن المفاجأة كانت في صغر حجم هذا المبلغ الذي يصل الفرد معه للتشبع في هذه الدراسة تحديدا، والذي نزل تحت 40 ألف دولار في بعض الدول، لكن دعنا نوضح أن تلك الأرقام تتحدث فقط بقيم فردية، بمعنى أن وجود عائلة مكونة من خمسة أفراد يعني مبلغا أكبر، كذلك فإن تكاليف المعيشة في دولة ما تختلف عن الدولة الأخرى، أقصد أن سعر عبوة مياه غازية قد يكون في إحدى الدول مكافئا لنصف سعرها في أخرى مثلا، وهو ما قد يتسبب في سقوط المتوسط العام.

لكن التنوع في نتائج الدراسة (بين 35 ألف دولار في بعض المناطق وأعلى من 130 ألف دولار في مناطق أخرى) يثير الانتباه إلى فكرة إضافية هامة، وهي أنه في الدول الغنيّة تكون نقطة الإشباع أبعد ما يكون بالأعلى، ويمكن أن يكون أحد الأسباب هنا هو ارتفاع ضراوة المقارنة الاجتماعية بين الأفراد من دخل مرتفع أصلا، وهو ما قد يدفع بالنقطة الخاصة بالتشبع للأعلى، كذلك فإن الوصول لدخول عليا، في المتوسط، يدفع لخلق فرص أكبر لدرجات أكبر من السعادة لم تتصور دول فقيرة وجودها بالأساس، لكن ذلك كله يطرح مشكلة إضافية تستحق التأمل، وهي هناك طبيعة نسبية في العلاقة بين الأموال والسعادة، فهناك مجموعة من البشر قد حصلت على نفس القدر من السعادة وصلت إليه مجموعة أخرى من الأشخاص بأربعة أضعاف كمّية النقود السنوية، وذلك سؤال مهم!

من جهة أخرى، فإن تلك الدراسة تشير إلى عدة نقاط تستحق بعض الاهتمام، فمثلا لا يوجد فروق جندرية واضحة في حاجة النساء والرجال إلى مبلغ محدد من أجل الشعور بحالة الرضا المثالية، كانت النساء أعلى قليلا في متطلباتها (بقيمة حوالي 10 آلاف دولار سنويا)، لكن ذلك لا يشكل فارقا جوهريا، أما الواضح حقا فهو الفارق في درجات التعلم، حيث وصل الذين تلقوا تعليما رديئا (فقط المراحل الأولى) إلى حالة الرضا مع مبلغ 70 ألف دولار سنويا بينما ارتفع ليصل إلى 115 ألف دولار مع من تلقّوا تعليما جيدا.

حالة من القصور
لكن، في النهاية، لا يمكن لنا بسهولة القول إن هذا النمط البحثي، وإن كانت دراسات سابقة قد حصلت على نتائج قريبة، يتحدث في تأكيدات واضحة، فمثلا يحدث أن تكون العيّنة متحيزة 9 دائما رغم حرص مؤسسة “جالوب” على أن تكون عيّنة معبرة عن كل العالم، لكن لا يمكن بسهولة أن تحصل على أفراد من فئات اقتصادية واجتماعية عليا للمشاركة في هذا النوع من الاختبارات، أضف إلى ذلك قصور قدرتنا على تحديد10 كل العوامل المؤثرة في التجارب، أو شكل العلاقات السببية بين مكوناتها، أو حتّى إن كان أي من العوامل الخاصة بها هو السبب في تكذيب، أو تأكيد، النتائج التي حصلنا عليها دون غيره.

وذلك لأن فأر التجارب هنا هو كائن بشري واع، متعدد التوجهات والنوايا والأهداف، أضف لذلك أن الثقافة الخاصة بكل فرد قد تجعل ما يتسبب له في السعادة هو شيء قد يقع على النقيض تماما من شخص في ثقافة أخرى، أضف لذلك أن معايير السعادة تتدخل فيها أسباب أخرى بجانب السياق الثقافي، الجينات مثلا، والتي تتدخل في ما قد يمثل حوالي الـ50% من سلوكنا، وبالتالي، سعادتنا، ثم إن تعريف ما تعنيه السعادة، أو الأسئلة حولها، يختلف من شخص لآخر، لذلك؛ فإن الأمر يتطلب دائما قدرا أكبر من التجارب والأبحاث على نطاق زمني واسع، خاصة في الأمر المتعلق بـ “نقطة التحوّل”.

نعم، يمكن لنا أن نحوّل السعادة إلى عدة معايير سايكولوجية تقيس جودة الحياة وعلاقتها بالدخل السنوي الخاص بنا، غير أن الأمور تبقى أكثر تعقيدا من الحصول على إجابات نهائية. لكن تلك الدراسة تدفعنا بالفعل للتأمل، أو قُل لإعادة التأمل، في تصوراتنا عن العلاقة ما بين النقود والسعادة، حيث إن كانت “هناك حدود” لهذه العلاقة، أو لأية علاقة بين عاملين، وان كانت هناك اختلافات كبيرة في قدر المال المطلوب للوصول إلى نقاط التشبع، فإن ذلك يعني أن هناك عوامل عدة أخرى تؤثر بشكل مركزي أيضا، وليس جانبي، فيما تعنيه السعادة بالنسبة لنا، بجانب النقود والتي، حسب رأي هذا النطاق البحثي، ترتبط كعامل رئيسي بدرجة جودة حياة الشعوب.

لذلك دعنا نعرض هنا وجهة نظر إضافية، لكنها ليست علمية بالمعنى المفهوم، وإن كانت مرتبطة بسياق يقول إن النقود ليست كل شيء في المطلق، حيث يقول فيلسوف رواقي يدعى ابيكتيتوس (Epictetus) عاش قبل حوالي ألفي عام إن الثروة “ليست في الحصول على ممتلكات كثيرة، لكن في أن تكون لديك متطلبات قليلة”، وهنا لا نقول إن النقود لا تمثل أي قدر من الأهمية، بالعكس فإن ارتفاع مستوى جودة حياتنا مقرون بوجودها، كما نرى إلى الآن، وهو ما يجب أن نعمل عليه، لكن الفكرة أنها ليست سببا مطلقا للسعادة، وقد يكون العمل على تقليل متطلباتنا، أو تحديدها بدرجة أكبر من الحرص، هو أيضا عمل على تقليل المبلغ الذي نحتاجه للوصول إلى حالة من الرضا، ابيكتيتوس أيضا هو من قال “معين السعادة هو النفس، لا الأشياء الخارجية”.

الجزيرة نت

تعليقات الفيسبوك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.