د. أمين حسن عمر يكتب: عامان على الرحيل المر الترابي.. مصباح التنوير

كان الترابي رجلاً وليس مثل سائر الرجال لأن فكرته كانت ساطعة، وإرادته كانت حادة قاطعة وكانت مشئيته الخيّرة تتقدمها رؤية فكرية نيّرة

الأفكار لدى الترابي على هدي النبوة هي مصباحه الذي يستضيء به في دياجير زمان الالتباس وعصر حيرة الناس

وكانت الفكرة لديه تتولد على مهل وتختبر مرة بعد أخرى بغير كلل ولا ملل

كان دكتور الترابي يعي ويدرك أن السير على طريق “اللامُفكر فيه ” والمسكوت عن الجهر به هو طريق من لا يؤثر السلامة والعافية والمعافاة من العوام والخواص

الترابي وأمثاله قليلون، وهم من أفنوا أعمارهم ليصنعوا زمان التنوير لمن جايلهم وعاصرهم. ولئن كانوا قد لاقوا المشقة والإعنات في ذلك السبيل، فإنما ذلك هو شأن الرواد الذين يسيرون خبباً إلى مدى الأنظار.

ربما قليلون من الناس هم من يأخذ بوصية الفيلسوف رالف إمرسون “لا تذهب حيث يأخذك الطريق بل اذهب حيث لا يوجد طريق واترك هنالك أثراً”، وكان د. الترابي من هؤلاء الفئام القليل. ولا شك أن من يأخذ بهذه الوصية سوف يتعرض لابتلاءات عظمى ومهددات ومخاطر جمة، ولكنه بقدر ما يكون الابتلاء يكون الأثر الذي يفتح طريقاً جديداً للعابرين. وصاحب هذا القلم أحد السابلة على الطريق الجديد الذي شقّه على الأرض العراء الدكتور حسن الترابي. وأني إذ أكتب بعد أسبوعين على وفاته ينشأ في خاطري معنى المناسبة بين المداد الأسود وفكرة الحداد، فإنه مما يثير الأشجان الكئيبة أن نكتب عن من نحب باستخدام الأفعال الماضية، ولكنها سنن الحياة وفق مشيئة الله. والسعيد من وُفِّق لتمضي مشئيته على سنن المشيئة الإلهية. ولقد عاش د. الترابي حياة بمعيار متوسط الأعمار ليست بالقصيرة، ولكنها بمعيار احتشادها بالمعاني كانت جد قصيرة. وكان المكان الذي يحل به الترابي يفارق معتاده المعهود، وكان الزمان الذي يشغله الترابي ينسى اعتياده المعلوم . فهو ليس بالرجل العادي ولو اعتاد الناس حضوره بين أيديهم وظهرانيهم. وهم سيعرفون له فضله وقيمة حضوره بعد أن أقفر المكان من ظله والزمان من فعله. وكما قال الفيلسوف الألماني شبنهور “فقداننا الشيء هو ما يعلمنا قيمته”. وعندما تُوفي الترابي كتب عن مماته المُحِب والمُبغِض، كتب عنه الشرق والغرب، والعبارة التي رافقت أقوالهم جميعاً أن مماته يضع حداً لحقبة بأكملها. ولكن الذي لم يقولوه هو القول إن كان ممات المرء يضع تعريفاً لفترة من الزمان فلاشك أن حضوره هو الذي أعطى هذه الفترة معالمها وهويتها المميزة. وأوجز المقال أن نقول كان الترابي رجلاً وليس مثل سائر الرجال، لأن فكرته كانت ساطعة وإرادته كانت حادة قاطعة. وكانت مشئيته الخيّرة تتقدمها رؤية فكرية نيرة. وكانت الأفكار لديه على هدى النبوة هي مصباحه الذي يستضيء به في دياجير زمان الالتباس وعصر حيرة الناس. وكانت الفكرة لديه تتولد على مهل وتُختَبر مرة بعد أخرى بغير كلل ولا ملل. ثم ما تلبث أن تستقر على مرفأ الاطمئنان فحينئذٍ لا يثنيه شيء مهما كان عن القول بها. ولا تردعه غرابتها على أسماع أهل المعتاد الموروث عن الجهر بها والإعلان عنها. وكان دكتور الترابي يعي ويُدرك أن السير على طريق “اللامُفكر فيه” والمسكوت عن الجهر به هو طريق من لا يؤثر السلامة والعافية والمعافاة من العوام والخواص.
إن أعلام أرباب الفكر وقادته هم مصابيح التنوير في زمان العتمة. ولقد وصف الكتاب العزيز الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم بأنه سراج منير. ودأب السراج أن نوره للعامة وناره هو وحده من يكتوي بها، والعلماء كما قال النبي صلى الله عليه وسلم هم ورثة الأنبياء، هم ورثتهم في العلم، والصادقون منهم هم ورثة الأنبياء في حظوظ الدنيا والآخرة. ولَكَم تقل حظوظ الدنيا لأمثال هؤلاء، ولَكَم تعظم حظوظ الآخرة لمن عُدّ في زمرتهم وسار في صحبتهم. ولئن كان للغرب المزدهر مادياً في زماننا هذا عصر ظلمته وعتمته وزمان تنويره وتفكيره، فإن عالم الإسلام يوشك أن ينفك اليوم من الظلمة المدلهمة إلى بادئة الفجر ثم إلى ساطعته. وذلك بفضل رجال من أمثال الدكتور الترابي وأمثاله قليلون. وهم من أفنوا أعمارهم ليصنعوا زمان التنوير لمن جايَلهم وعاصَرهم . ولئن كانوا قد لاقوا المشقة والإعنات في ذلك السبيل فإنما ذلك هو شأن الرواد الذين يسيرون خبباً إلى مدى الأنظار. وهم قد ذهبوا كما يقول الفيلسوف البريطاني توماس كارليل “إلى أقصى مدى يمكنهم رؤيته وعندما وصلوا هنالك كان بإمكانهم أن يروا إلى أبعد مدى”، فهذه حياة تقصر عن مداها الأعمار ولو طالت.

الترابي.. رجل فكرة
قد لا يبدو لأول وهلة للملاحظ والفاحص كم أثرت الفكرة الصوفية (بعيدة الجذور في تربة السودان الثقافية وفي بيت آل الترابي بصفة خاصة) على حياة وتفكير الدكتور الترابي. فالحياة الأصيلة لدى أهل التصوف هي حياة الباطن الواعي المتحنث المتغير المتجدد الأحوال . فهي حياة الفكرة التي تملأ الوجدان ثم ما تلبث تفيض على سائر الإنسان. فتصبغه بصبغتها وتسِمه بسمتها، فيكون هو الفكرة التي تسير على أقدام وتُبصر بالأعين وتسمع بالآذان وتبطش بالأيادي. وقديماً قال أفلاطون بما يشبه ذلك المعنى. فقد كان أفلاطون فكروياً روحانياً فالحياة الحقة عنده هي حياة الأفكار والمثل والصور الذهنية المعقولة. وكان لفكرته هذه آثارها على فلاسفة الشرق والغرب من لدن أرسطو إلى هيجل. ولكن مصدر الفكرة لدى الفلاسفة المسلمين (ذوي الأصالة) كان مرجعه للإيمان وليس إلى الفلسفة. ذلك أنهم أدركوا أن جوهر الإيمان معرفة، وأن جوهر المعرفة هي فكرة مركزية. ولذلك حثوا السير وبالغوا في الطلب والبحث والتنقيب عن تلكم الفكرة الجوهرية التي هي لب المعرفة. ولقد وصل الموفقون إلى شاطء تلكم الفكرة لكنهم أدركوا أنها أقيانوس المعاني والأسرار، وأن الارتحال إليها تفنى دونه الأعمار. ذلك أنهم أدركوا أن الواحد هو أصل كل شيء فلا يكون شيء إلا وهو منسوب إليه . وعلموا أن توحيد الواحد بالاقتراب بالأفكار والأعمال إليه هي رحلة الدنيا والآخرة. وأيقنوا أن حقيقة الحقائق هي فكرة توحيد الواحد الأحد. فشغلوا أنفسهم بالتعريف بالفكرة بإضاءتها بأسرجة العقول وتجسيد معناها بالصور البلاغية والبيانية وبالأمثلة الواقعية والأسوة العملية. ثم أنهم أدركوا بالعقول أن كل ذلك هو مجرد اقتراب وما ثمة وصول. وأن الموفّق هو من وفّقه الله، والمقرّب هو من قرّبه الله، والمنبأ هو من نبأه الله، والملهم هو من ألهمه الله. وكان علمهم هذا هو الآخر قبساً من أقباس التوحيد . فلا غرو إذاً أن تطوف حياة الترابي حول فكرة التوحيد. فقد نشأ في ترابها وشرب واستقى من كأسها وطاسها. فجمع بين منهج المجاهدة الروحية لدى أهل التصوف ومنهج الاجتهاد العقلي لدى أهل التفلسف. ولكنه نظر إلى ذلك كله من منظور القرآن الذي حفظه وتشرّب معانيه صغيراً، فسقت معاني القرآن الزكية الندية فسائل أشواق روحه الوامقة الصبية. فكان القرآن (من ابتداء حياته إلى انتهائها في الدار الفناء) صاحب مجلسه ومؤنسه،ومسامره ومحاوره . فقد كان يعلم أن القرآن وإن كان أُنزل على النبي صلى الله عليه وسلم على حاله وعلى أحوال زمانه، فهو صالح لإلهام كل زمان ومكان، لأنه مستودع المعاني المشاكلة للأحوال كل الأحوال على تحول المكان والزمان. يجد فيه كل ضالٍّ هدايته، وكل حائرٍ ضالته، وكل طالب حاجةٍ حاجته، مما يُشفى الجروح ويُشبع أشواق الروح، ويهدي إلى خيري الدنيا والآخرة. كانت فكرة التوحيد هي الكعبة التى تطوف حولها الأفكار والمعاني كما تطوف الجسوم والأبدان حول الكعبة المشرفة. فليست رحلة الحج إلا الرمز للارتحال بالروح والجسد للواحد الأحد.
من مقدمة كتاب الترابى…. حياة الأفكار

تعليقات الفيسبوك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.