السُّودان.. من العنصريَّة إلى التَّطهير العرقي لنواي: مآلات جدل الهُويَّة وأزمة التغيير

في نهايات العام المنصرم أتحفني أخ عزيز وصديق حميم بكتاب، وإنَّ أعظم هديَّة أتهنى بها في حياتي كلَّما أهديت إليَّ من هديَّة هو الكتاب، صغيراً كان أم كبيراً في الحجم، فإنَّه لخير جليسي، ومشعل غبطتي. فكم سعدت عظيماً بكتاب أي كتاب، لأنَّه يعتبر تحفة استزيد بها المعرفة، واقتبس منها أضراب العبر والدُّروس لأنير بها دربي، واعتاش بها في حياتي. بيد أنَّ تقديم الهديَّة لا يؤثِّر فقط على من يتلقَّاها، بل على من يقدِّمها أيضاً، فالسَّعادة في العطاء أكثر منها في الأخذ، وسعادة الواهب العطَّاي هذه تزداد حتماً إذا قدَّر الشَّخص هديَّته وعرف قيمتها. وها نحن نقدِّر هديَّة الكاتب عثمان نواي، ونعتزُّ بها، وها هو المولِّف في الآن نفسه ينشرح صدره، ويغمره الفرح والسُّرور، وذلك كما لمسناه في الكلمات الطيِّبات التي دبَّج بها هديَّته المهداة إلينا، قائلاً إنَّه ليضع بين أيدينا باكورة منشوراته أملاً في أن تنال منا شيئاً من الرِّضا، ومنتظراً منا الإضافة في مجهوده المتواضع لسبر أغوار أزمات وطننا المستفحلة، بحثاً عن الضوء في آخر النَّفق المظلم الذي طال المسير فيه. غير أن النفس تعجز عن ترديد عظمة العبارة، التي نعتنا به، وله الفضل كل الفضل والشكر أجزل الشكر.

مهما يكن من شيء، فإنَّ الكتاب التحفة، أو الجداريَّة الضخمة والمدهشة، الذي نحن بصدد الحديث عنه هنا، ولو سراعاً هو “السُّودان.. من العنصريَّة إلى التطهير العرقي: مآلات جدل الهُويَّة وأزمة التغيير” للكاتب عثمان نواي، ولعلَّ الاسم يرسل أشعة معرفيَّة لكل متابع لأوضاع حقوق الإنسان في جبال النُّوبة على وجه الخصوص، والسُّودان بشكل عام. ومع ذلك، فقد كتب الأستاذ نواي كثيراً في الحال السُّودانيَّة التي أمام أعيننا سواء أكان ذلك الكتاب في السِّياسة أو الفساد أو الاختلاسات أو الأوضاع الاجتماعيَّة والأخلاقيَّة والاقتصاديَّة لأهل الحل والعقد وأشياعهم، أو أصحاب السُّلطة من أهل اليمين أو اليسار وأتباعهم. أي باختصار غير المخل إنَّه لكاتب ومدوِّن وباحث في شؤون السُّودان، وقد نُشر له العديد من المقالات والتقارير في عددٍ من الصُّحف والمواقع الإلكترونيَّة السُّودانيَّة والدَّوليَّة باللغتين العربيَّة والإنكليزيَّة، وهو عضو في الاتِّحاد العربي للصحافة الإلكترونيَّة.

بيد أنَّ الكتاب الذي أمام القارئ هو عصارة بحث المؤلِّف الحثيث، وجهده الجهيد في المسألة التأريخيَّة التي أوجدت دولة تُسمى السُّودان، وقد توغَّل الباحث في الظروف التأريخيَّة والسيكلوجيَّة والأثنيَّة التي من رحمها خرجت النُّخبة السُّودانيَّة التي أدمنت الفشل – والتعبير هنا للدكتور منصور خالد – حين أمسكت بتلابيب السُّلطة وتعلَّقت بأستارها في الخرطوم، عصفاً بغيرهم في سلة المهملات، وزجراً بهم وبإرثهم الطارف والتليد.

إذ صدر الكتاب من دار النخبة للطباعة والنَّشر والتوزيع بالجيزة في مصر العام 2017م، وهو من الحجم المتوسط، الذي يبلغ تعداد صفحاته 434 صفحة، ويشتمل على خمسة أبواب، وحمل كل باب في طيَّاته وبين ثناياه عدة فصول. كذلك زيَّن الكاتب الكتاب بمجموعة غزيرة من المراجع الإنكليزيَّة والعربيَّة، ونحن نأمل في أن يحتوي الكتاب في طبعته الثانية على ملاحق تأريخيَّة، وبخاصة الملاحق ذات الصِّلة بالرِّق في حقبه المختلفة لشرائح راهنة أو غابرة في المجتمع السُّوداني، وكذلك الوثائق التي تكشف وتعرِّي سياسات الدَّولة المركزيَّة تجاه شعوب الهامش السُّوداني.

على أيٍّ، ففي الباب الأول برز المؤلِّف متحدِّثاً عن ومجادلاً في مشكل الهُويَّة في السُّودان ما وسعه الجدال، معدِّداً عناصر تشكلها، وتأريخ تكوينها، والعوامل التأريخيَّة التي ساهمت في تفاقمها حتى أمست مشكلاً يتصارع حوله الشعب السُّوداني ولا يكاد أهله يتوافقون على شيء. ثمَّ ولج الكاتب في الباب الثاني متحدِّثاً عن تأريخ العبوديَّة في السُّودان. فليس إلى الشك من سبيل في أنَّ مشكل الرِّق وعلاقاته الاجتماعيَّة يعتبر بذرة المشكلات الاجتماعيَّة والسياسيَّة التي يعاني منها السُّودانيُّون اليوم بصور متفاوتة. فهناك من بات يرى نفسه سيِّداً حسب مزاعم الحسيب والنَّسيب، والإرث التأريخي، والإثرة الاجتماعيَّة، ومن ثمَّ طفق ينظر إلى الأغيار بدونيَّة مستريبة، وتزيُّد في المظلمة، واستزادة في الشطط، وأمسى يطبِّقها في المحسوبيَّة والولاء العائلي والقبلي والطائفي.

وفي الحين نفسه أسهب الكاتب في الحديث عن شخصيَّة الزبير باشا رحمة كمثال أو زعيم لطائفة أصحاب زرائب الاسترقاق في بحر الغزال من أولئك البحَّارة – أي أهل الشمال النِّيلي الذين اتَّخذوا الجنوب وأهله مستوطناً للإثراء فيما درَّت إليهم التجارة في موارد الجنوب البشريَّة والحيوانيَّة والطبيعيَّة، وبالطبع كان أكثر السلع رواجاً عندهم هو العبيد. وبرغم مما دوَّنته سير التأريخ وأثبتته الكتب والموسوعات العلميَّة والمراجع العربيَّة والأفرنجيَّة بكثرتها الكاثرة، إلا أنَّ بعضاً من السُّودانيين، وبخاصة قبيل من صفوة الشمال، أخذ يعتبره بطلاً هماماً، وقائداً محنَّكاً، وشخصيَّة وطنيَّة وهلمجرَّاً من الصِّفات التي تصطبغ على الخلصاء من النَّاس. وقد نبع تدافع هؤلاء الصَّفوة للدِّفاع عنه من عدَّة منطلقات: أولاً، جاء ذلك من أقاربه وذويه وعشيرته وقبيله من باب أنصر أخاك ظالماً ومظلوماً. ثانياً، لقد أتي السَّند والدَّعم المعنوي من أهل قبيله الجعليَّة، لذلك اقتدوا به وانتصروا له واحتجوا لخلافه كلَّما وجدوا إلى ذلك سبيلاً. ومن هنا نخص بالذكر ما عرَّبه وأعدَّه خليفة عبَّاس العبيد “الزبير باشا يروي سيرته في منفاه بجبل طارق”، ونشره مركز الدِّراسات السُّودانيَّة بالقاهرة العام 1995م. وقد استند العبيد في تعريب ما عرَّبه وإعداد ما أعدَّه، وإذاعته في النَّاس، على اللقاءات الصحافيَّة التي أجرتها الصحافيَّة البريطانيَّة فلورا شو مع الزبير باشا في منفاه في جبل طارق.

إذ كان هذا الإسناد هو الذي اعتمد عليه إتش سي جاكسون في سفره “ما وراء السُّودان الحديث (1955م)” (Behind Modern the Modern Sudan)، والذي هو عبارة سيرته الذاتيَّة في الخدمة المدنيَّة في العصور الأولى من الاستعمار البريطاني-المصري في السُّودان، وذلك في محاولة يائسة لتبرئة الزبير من تهم الإتجار بالبشر. مهما يكن من أمر، فقد التقى جاكسون بالزبير باشا نفسه واستمع إليه. والشيء الذي يجدر ذكره هنا هو ماذا يتوقع من الشَّخص التَّهيم أن يأتي به غير محاولات تبرئة نفسه من كل التُّهم الموجَّهة ضده. إذ كان يمكن على الذين حاولوا إيجاد مبرِّرات له أن يبذلوا جهدهم ما وسعهم من الجهد أن يلتقوا بضحاياه، الذين كانوا أحياءً في مطلع القرن العشرين، ويتوغَّلوا في دور الوثائق في السُّودان ومصر وتركيا. إذ أنَّ هناك ثمة مثلاً سودانيَّاً مفاده إذا أتاك الشاكي معقوراً، أي بعين واحدة، فعليك أن تبحث عن المتَّهم التَّهيم فربما يكون قد فقد عينيه الاثنين، وذلك حتى لا تتسرَّع في إطلاق الحكم، وتكتشف في نهاية الأمر إنَّك تسرَّعت في إصدار الحكم، وأتيت أمراً إدَّاً، وبعدئذٍ تبقى على ما أقدمت عليه من الحكم المعجَّل ملوماً حسيراً.

ففي الباب الثالث، الذي جاء في خمسة فصول، تكلَّم فيها الكاتب عن الوطنيَّة السُّودانيَّة.. تناقضات الواقع والمفاهيم، متحدِّثاً عن دور الدِّين في تشكُّل الوطنيَّة السُّودانيَّة، والثورة المهديَّة. إذ يعتبر هذا أطول أبواب الكتاب، والذي استهلَّه باتفاقيَّة البقط؛ تلكم الاتفاقيَّة التي اختلف المؤرِّخون في تسميتها: أهي اتفاقيَّة أم معاهدة أم صلح أم شيء غير ذلك، لأنَّها لم تأت عقب انتصار كاسح لطرف من طرفي النِّزاع، وكذلك لما جاء في بنودها من أشراط المسلمين وحوافزهم للنُّوبا، وهذا أمر لسوف نتطرَّق إليه باستفاضة في عمل نقوم به، ونعكف عليه الآن.

وفي هذا الباب أيضاَ ناقش المولِّف تأريخ العبوديَّة في مملكة سنَّار (الفونج). ومع ذلك دأب المؤرِّخون السُّودانيُّون والمشتغلون بالسِّياسة في هذا البلد على الإشارة إلى الحقبة السنَّاريَّة، أو مملكة الفونج، بأنَّها الأنموذج الأصلح الذي يمكن أن يكون نبراساً للانصهار القومي في السُّودان. إذ أنَّ في هذا التعميم الوصفي، أو المرجعيَّة التأريخيَّة، نوع من التبسيط المخل بالواقع آنذاك. ومن الأجدر أن نذكر هنا أنَّ هذه المرجعيَّة التأريخيَّة الماضويَّة تعود إلى أنَّ هذه المملكة، أو السلطنة السنَّاريَّة، قد نشأت من جرَّاء تحالف العرب العبدلاب والقواسمة من جهة، وأهل الفونج من ذوي الأصول الشُلكيَّة من جهة أخرى، برغم من أنَّ البحِّاث قد ذهبوا في أمر أصول الفونج مذاهباً شتَّى ما لهم فيها من دليل أوفى، وربَّما كانت هذه المذاهب والمزاعم أضغاث أحلام، أو رجماً بالغيب أكثر من أيَّة حقائق تأريخيَّة مثبتة ومسنودة بعلم يقين. وبنظرة فاحصة نجد أنَّ تبنِّي السلطنة للإسلام والسماح لوفود الدُّعاة والمبشِّرين الملسمين من المتصوفة وأصحاب الملل والطوائف بنشر الدعوة الإسلاميَّة والثقافة العربيَّة في البلاد مع ممارسة الرِّق في الآن نفسه، وتقسيم المجتمع إلى طبقة النبلاء والرعيَّة والعبيد؛ هذا النِّظام السِّياسي والدِّيني والاجتماعي قد بذر بذور المشكلات السِّياسيَّة والاجتماعيَّة التي تعيش فيها البلاد وتتمرَّغ اليوم. وفي البحث الذي نحن في خضم الحديث عنه قد تناول الباحث هذه الحقبة الفونجيَّة بشيء من التحليل دقيق.

وفي أثناء الحقبة الفونجيَّة زار الرحَّالة الإسكوتلاندي جيميس بروس سنَّار، وذهب حتى جبال إثيوبيا ذات القمم المسطَّحة، زعيماً بأنَّه يبحث عن منابع النِّيل، في الفترة ما بين (1768-1770م)، وألَّف خمسة مجلَّدات عن تسفاره وعما شاهده، ولكنه أُصيب بشيء من خيبة أمل شديد، وذلك لأنَّ القرَّاء فضَّلوا قراءة ما ترجمه صمويل جونسون، وهو الذي لم تطأ قدماه هذه الأراضي، بل كان تأليفه – أو بالأحرى ترجمانه – هو ما كتبه القس الرحَّالة البرتغالي المدعو جيرونيمو لوبو عن أبناء الملوك الإثيوبيين المستائين الذين سُجِنوا في قمم هذه الجبال المسطَّحة. وكانت الحبشة (إثيوبيا حاليَّاً) في ذلك الرَّدح من الزمان تعجُّ بأساطير ملكة سبأ، والمملكة المسيحيَّة بقيادة الأسقف جون، والذي زُعِم بأنَّه يتحدَّر من ماجي. وفي وصفه لمجتمع المدينة في سنِّار كتب بروس عن ملامح الطبقات الاجتماعيَّة والكتائب العسكريَّة في المدينة. وقد ذكر – فيما ذكر – مساكن العبيد بما فيهم مجموعات من جبال النُّوبة الذين تمَّ استرقاقهم في إغارات ملوك الفونج على بعض مناطق جبال النُّوبة المتاخمة لحدود مملكتهم السنَّاريَّة.

كما تناول الأستاذ نواي ظهور الحركة الوطنيَّة السوداء كنتاج تداعيات نظام الرِّق وتغلغلها في المجتمع السُّوداني، والتي ظهرت عواقبها الوخيمة في الطريقة التي عامل بها الإنكليز ورجال الشمال البطل علي عبد اللطيف ليس على المستوى السياسي فحسب، بل في الحياة الاجتماعيَّة فيما يختص بحسبه ونسبه في محاولة مقيتة للأخذ منه اجتماعيَّاً والإساءة إليه في أقبح ما تكون الإساءة. وقد أورد محجوب محمد صالح في كتيبه “الصحافة السُّودانيَّة في نصف قرن (1903-1953م)”، والذي صدر من مركز الدِّراسات السُّودانيَّة بالقاهرة العام 1996م، صنوفاً من هذه الإساءات وأشار إليها كثرٌ من الكتَّاب سواء في كتاباتهم العربيَّة أو الإنكليزيَّة. ولعلَّنا في هذه الأثناء نخصُّ بالذِّكر الدكتور منصور خالد في أبحاثه الغزيرة عن تأريخ السُّودان السياسي ومشكلاته الاجتماعيَّة والأخلاقيَّة. وهناك ثمة أوراق عديدة تناولت بالبحث المستفيض حركة اللواء الأبيض كظاهرة سودانيَّة كان من الأجدر على الشَّعب السُّوداني الوقوف عندها، والاعتبار بها، وذلك لاستلهام قيم الوطنيَّة والبطولة والرؤية السياسيَّة الثاقبة لمستقبل البلاد. ألا رحم الله الأستاذ حسن نجيلة الذي رسم قلمه صوراً بطوليَّة لمحاكمات قادة اللواء الأبيض العسكريَّة بشيء من الصِّدق والإنصاف شديد، وذلك في تأليفه الرائع والذائع الصيت “ملامح من المجتمع السُّوداني”، والذي نشرته وزارة الثَّقافة والإعلام بالخرطوم العام 1959م، وقد أحسنت دار عازة للنَّشر والتوزيع بالخرطوم صنعاً حين أعادت طباعته العام 2005م.

بيد أنَّ الدكتورة يوشيكو كوريتا قد أوفت علي عبد اللطيف حقه في بحثها الأعظم “علي عبد اللَّطيف وثورة 1924م.. بحث في مصادر الثَّورة السُّودانيَّة”، والصادر من مركز الدِّراسات السُّودانيَّة بالقاهرة العام 1997م، وكذلك تطرَّق إتش سي جاكسون في سفره “ما وراء السُّودان الحديث (1955م)” إلى أحداث حركة اللواء الأبيض. مهما يكن من شيء، فكان هناك الدور المصري الخفي في شيء من الخفاء المكشوف، ولئن لم يتطرَّق إليه البحِّاث السُّودانيُّون إلا لماماً. فقد مارس المصريُّون دور المحرِّض المتواري خلف الأستار في حركة اللواء الأبيض، وذلك بعد أن شعروا بدورهم المستضعف في إدارة السُّودان أمام السُّلطة الفعليَّة في يد البريطانيين، برغم من إعادة استعمار السُّودان تحت رايتي العلمين البريطاني والمصري، وبرغم من استخدام الموارد البشريَّة والماديَّة والماليَّة المصريَّة في هذا الغزو. بيد أنَّ مصر، التي كانت تحت النفوذ البريطاني نفسها، حاولت استغلال السُّودانيين للتخلُّص من البريطانيين، ومن ثمَّ الانفراد بحكم السُّودان كما كان العهد بها قبل اندلاع الثورة المهديَّة العام 1882م، ولكن حين اشتدَّت الاضطرابات واشتعلت أوار النيران، توارت الأيادي المصريَّة، واختفت خلف الكواليس، وتركوا أبطال اللواء الأبيض وعسكرهم وأنصارهم يكابدون النِّضال وحدهم لا شريك لهم.

كما أنَّ الذي استرعى انتباهنا وشدَّ عقولنا ما انغنست فيها صفوة العاصمة المثلثة في ذلك الحين من الزمان في نواديها الأدبيَّة، ودورها الاجتماعيَّة من حياة الأشعار العربيَّة، والتفنُّن في الإلقاء والإنشاد، حتى باتت هذه المنتديات أشبه بسوق عكاظ، وذلك دون الالتفات إلى قضايا السُّودان المحوريَّة لأهل الوطن قاطبة، واكتفت بالتغرُّد بشعار “التحرير قبل التَّعمير”. وفي الحق، فإنَّ الانبهام الذي حصل في أذهان هؤلاء القوم كان ناتجاً عن الارتهان الحضاري، والضَّلال الثقافي، والأزمات الفكريَّة التي باتوا فيها يتخبَّطون.

أيَّاً كان الأمر، فحين جاء التحرير لم يجد أهل السُّوان التَّعمير، وكانت محصلة ما قبضوه من هؤلاء الصَّفوة هو الاستمداد من هُويَّتها العربيَّة، التي نحن والعرب الأقحاح معاً في شك منها مريب. إذ تمَّ كل ذلك في “صراع الهُويَّة والرؤى الوطنيَّة”، حيث قارن الكاتب بين توجُّهات مدرسة جمعيَّة أبوروف ذات التوجه العروبي وبين جماعة الموردة أو الفجر التي أمست انتصاراً للعنصريَّة. لذلك لا نجد غضاضة في حديثنا هذا، بل وفي أحاديثنا التي سبق أن نطقنا بها، في الكشف عن تدليس المدلسين، والإشارة إلى تغليط المخلطين، ومن ثمَّ نتخوَّص فيهم، مهما سمت مكانتهم وعلا كعبهم، وذلك ليس قدحاً فيهم ولا تطاولاً عليهم، بل لأنَّ بعض المتحمِّسين الذين لم يلتزموا منهم منهج العلم والعدل في استقراء التأريخ والسياسة كانوا وبالاً وبيلاً على هذا البلد. ولعلَّنا نجد أنَّ نواياً قد تحدَّث عن هذا الموضوع بإسهاب وجرأة وجدارة دون مواربة، ليس في هذا الكتاب فحسب، بل في كتاباته التي يمكن نعتها بالدِّراسات العديدة، والمطوَّلات المسهبة.

مهما يكن من شيء، ففي تلكم الحقبة من تأريخ السُّودان، مما أسمَّاها المؤرِّخون وعلماء الاجتماع السُّودانيين بفترة نشوء الأحزاب السياسيَّة وتطوُّر الحركة الوطنيَّة، كانت ما هي إلا فترة مجالسة ومؤانسة بين النُّخب المستعربة من ناخية، وبين المستعمرين من ناحية أخرى، مما وجد الأخير نفسه ممتناً للأول وسلَّمه مقاليد السلطة ودست الحكم قبيل الجلاء في مسرحيَّة ملهاة سُمِّيت ب”السَّودنة”، والتي كانت في الحق محاصصة بين أبناء العموم والأخوال في العاصمة المثلَّثة وثلة من أهل الجزيرة. وقد سردت إزمي توماس حكاوي هذه المجالسات والولائم في سيرتها الذاتيَّة المعنونة “مدوَّنة السُّودان لإزمي توماس (2000م)” (The Sudan Journal of Ismay Thomas). هذا، فقد استرسلت إزمي في حكوتها عن هذه المأدبات، وما طاب فيها من المأكولات والمشروبات، حتى غدت كأنَّها أندية للسمر تحت القمر، وبين عشيَّة وضحاها وجد هؤلاء السمَّار أنفسهم يديرون دولة ذات أثنيات متعدِّدة، ومعتقدات مختلفة، ويتكلَّمون لغات لا يفهم بعضهم بعضاً. وبما أنَّ إزمي كانت قد ساهمت في نشر التَّعليم والوعي في منطقة الخرطوم والجزيرة وكسلا، غير أنَّها كتبت كلاماً مقززاً عن أهل الجنوب، وبأسلوب عنصري مقيت، برغم من أنَّ أهل تلك الديار قد استقبلوها بحفاوة بالغة، وابتهاج طاغ، ورقصات قبليَّة لا يستظهروها إلا عند قدوم زائر عظيم.

وباستقراء المنهج التأريخي نجد أن أولئك البريطانيين وهؤلاء النخبة النِّيليَّة المستعربة، والتي ورثت دست الحكم كانت على حدٍ سواء في تعاملها مع الأغيار من سكان البلاد الأصلاء، وفي نظرتها إليهم. وإنَّ الشَّواهد على ذلك لكثيرة، ولا نريد أن نتخوَّص فيها كثيراً، ولكن لعلَّ من الأفيد والأجدر أن نذكر هنا بعضاً مثل الأجر غير المتساوي بين السُّوداني المستعرب وأهل جنوب السُّودان والنُّوبة في جبال النُّوبة ومواطني النيل الأزرق في ديارهم، وذلك في أجور رجال الشرطة وسلاطين القبائل؛ واتفاقها مع المستعمر في نعت حزب الكتلة السوداء بالعنصريَّة، ومن ثمَّ حُظِر رئيسه الدكتور أدهم من ممارسة حقوقه السِّياسيَّة والمدنيَّة في تسجيل الحزب، وممارسة نشاطه الحزبي الذي كفله له الدستور والقانون أسوة بالآخرين، بل حُرِم حتى من ممارسة مهنته الطبيَّة لكي يشقى في حياته، ومن ثمَّ لا يجد عائلاً يعوله هو وأهله؛ ثمَّ كانت السَّودنة، وهي القشَّة التي قصمت ظهر البعير. وفي ذلك كله، تناست هؤلاء الصَّفوة في الخرطوم مقاومة أهل الهامش المستميتة ضد الاستعمار. لكن الغريب في الأمر والمثير للأسى في الآن نفسه أنَّهم لم يكتفوا بتناسي فضائلهم ونضالهم ضد المستعمر وفي سبيل الاستقلال، بل أطلقوا ألسنتهم بالإساءة إليهم، والافتراء عليهم. وكما بدأوا بنقص البداية انتهوا بنقص النهاية كذلك.

مثلما أتى في الباب السَّابق، فقد جاء الباب الرَّابع في خمسة فصول أيضاً. وفي هذا الباب تناول المؤلِّف نواي مسألة التعدُّد الأثني في السُّودان موضِّحاً كيف تكوَّنت التعدُّديَّة الأثنيَّة في السُّودان وعلاقتها بالعرق. إذ يعتبر هذا الباب من أخطر إفرازات النِّظام “الإنقاذي” في الخرطوم، لأنَّه يتناول فشل الدَّولة السُّودانيَّة في أسوأ تجلِّياتها في إدارة التنوُّع الأثني والثقافي والدِّيني في البلاد، واستخدام العنف المفرط في التعامل مع الحركات السياسيَّة والمطالب الشرعيَّة بشيء من الاعتناف شديد، حتى بلغ العنف مداه الأقصى في التَّطهير العرقي في جبال النُّوبة والنِّيل الأزرق وجنوب السُّودان، وجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانيَّة والإبادة الجماعيَّة في دارفور. وكانت دوافع أهل الحل والعقد في الخرطوم، وما تزال، التي يبدو من الواضح أنَّها إنِّما تهدف – في هذه التجاوزات الإنسانيَّة المروِّعة – إلى إحلال سكان البلاد الأصلاء بآخرين مستعربين، حتى يتحقَّق لهم تأسيس مجتمع إنساني مستنسخ عربيَّاً يتوافق مع مكوِّناته العنصريَّة، ويقوم على الظُّلم والتجبُّر على الأغيار المسحوقين. هذا، فقد صنَّف الكاتب التَّطهير العرقي أو الإبادة الجماعيَّة إلى ثلاثة أقسام: الإبادة الأثنيَّة والسياسيَّة والجماعيَّة، وانتهى به المطاف إلى نتيجة فحواها بأنَّ الحرب أو النِّضال المسلَّح هي الخيار الأخير لمقاومة آليات التَّطهير العرقي التي تستخدمها الدَّولة بعزم شديد وإصرار أكيد للتخلُّص من شعوب السُّودان الأصلاء.

أما في الباب الخامس وهو الأخير في الكتاب، فقد تطرَّق الكاتب إلى إمكانيَّة أو استحالة التغيير، وذلك وسط جدل التغيير السِّلمي والمسلَّح، وذكر بأنَّ الطبقة الوسطى في البلاد تعمل على عرقلة التغيير، وذلك لوجود مصالح في إبقاء الوضع على ما هو عليه، حتى يعرف النَّاس أنَّ ثمة أموراً تحدث في الخفاء في مملكة الدنمارك غير ذلك الفساد الذي تحدَّث عنه السُّودانيُّون بغضب ومرارة. صحيح إنَّ أصحاب السُّلطة أنفسهم قد اعتادوا على ذلك، بحيث أنَّ صيحات الغضب الخائبة باتت نادراً ما تؤثِّر فيهم أبداً. إزاء ذلك اجتهد الكاتب في تقديم أمثلة تتوافق مع الاستنتاج العقلاني الذي توصَّل إليه. وبالطَّبع يعود تصرُّف الطبقة الوسطى هذا إلى أنانيَّة البشر، وإذا كان البشر أنانيين فما هذا إلا لأنَّهم يعانون ويخافون من المستقبل، وما يخبئه لهم، فيستبد بكل واحد منهم الحذر تجاه الآخر.

بقي لنا هنا أن نقول من نافلة القول إنَّ عثمان نواي، وغيره من كتَّاب أهل الهامش السُّوداني، ليُعتبرون من الأقلام الواعدة المستبشرة، حيث طفقوا يلجون في بطون الكتب ومتون المراجع ليخرجون منها ما صلح وما طلح، ومن ثمَّ شرعوا يذيعونه في النَّاس، وبخاصة في أهليهم الغلابة. وكذلك أخذوا يستظهرون عليهم تأريخهم القديم، ومجدهم الآفل، وثقافاتهم القوميَّة، ويبصرونهم بعدالة الدَّعوة إلى المشاركة في السلطة وتوزيع الثروة القوميَّة، ودواعي إعمال أشراط الوحدة الوطنيَّة الحقيقيَّة، واستنهاض أصحاب النفوس الأمارة بالسوء والتي اجتهلتهم الحميَّة المستعربة بأن لا يقولوا الحق، وتذكير الجناة القتلة الفجرة دوماً بأنَّ تجاوزات حقوق الإنسان التي تُقترف ضد مواطنيهم الأبرياء العزَّل لا بدَّ أن تتم مساءلتهم ولو طال الزمن، ولا مناص من الإفلات من العقوبة بالتَّقادم. ولعلَّ كتاب نواي إيَّاه بمثابة راية مرفوعة في هذا المضمار، ولنقل بوضوح هنا سوف تظل كتاباته مقلقة لسدنة السُّلطة في الخرطوم حتى لا ينامون وهم قريري الأعين، ولكي تزعجهم كوابيس موتاهم حتى لا ينامون ويغطون في الغطيط، ولسوف يبقى عسيراً بالنسبة إليهم أن ينعموا بحيواتهم الجوانيَّة.

ومع ذلك، فإنَّ محصلة هذه الكتابات من قبل فتية الأقاليم المهمَّشة، أو جل ما في الأمر، أنَّها تحاول أن تعالج الأمراض السُّودانيَّة المزمنة، وذلك ليس بوصف الدَّواء لأدواء الوطن فحسب، بل بالبحث الدؤوب في مسبِّبات هذه العلل، والتي تعود جذورها إلى العشرينيَّات من القرن العشرين، وهي الفترة التي توافق الأكاديميُّون على تسميتها بعصر تنامي الوعي الوطني والهرولة نحو استقلال البلاد، وذلك كما أبنا آنفاً. ولعلَّ اجتثاث بواعث المرض هو أنجع السُّبل لمكافحة المرض أي مرض. فالبلهارسيا أو الملاريا لا تزال داءً مستوطناً في السُّودان لأنَّ الأطباء اكتفوا بصرف الكوينين والكلوركوين وغيرهما من العقاقير الطبيَّة التي اعتاد الأطباء أن يصرفوها دوماً إلى مرضى الملاريا للتداوي بها، حتى اكتسب هذا المرض مناعة ضد هذه الأدوية. إذ كان الأجدر محاربة مسبِّبات المرض، وذلك عن طريق إشراك كافة أجهزة الدَّولة من مجالس بلديَّة ووزارة الصحة وطب المجتمع وعمال النَّظافة والجيش وطائرات الرَّش ووسائل الإعلام للوعي الجماهيري والنَّفير الشَّعبي وتجفيف البرك والمستنقعات في المناطق السكنيَّة وهلمجراً، كما فعلت بريطانيا وإيطاليا في القرون السَّابقة، حتى تتسنَّى إبادة النَّامس الناقلة للمرض.

هذه هي حال السُّودان اليوم. ففي سبيل استئصال أمراض البلاد يستوجب البحث عن شتول مشكلات الوطن، واقتلاعها من جذورها، وأن لا نتواري خلف الاستعمار الحديث ونخوِّن به طلاب العدالة من مناضلي الأقاليم المهمَّشة، أو نتعذَّر بالاستعمار القديم، الذي بلى وانجلى قبل أكثر من نصف قرن، ونجعله قميص عثمان، ومن ثمَّ نحاول أن نرمي عليه عيوبنا، ونقذف فيه قصورنا. وإنَّ قماش السُّودان السِّياسي والاجتماعي الممزَّق شرَّ ممزَّق اليوم لفي حاجة إلى سداد أو تخياط.

قرأه الدكتور عمر مصطفى شركيان

المصدر : سودان تربيون

تعليقات الفيسبوك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.