قبل رحيله بأيام قليلة أطلق الأكاديمي والروائي الإيطالي، أمبرتو إيكو، قذيفة باتجاه مواقع التواصل الاجتماعي، على الرغم من كونه قد كان في بدايات انطلاقة تلك المواقع يقف إلى جوارها باعتبارها مساحة للقول والتعبير عن الذات بلا قيود وبعيداً عن سلطة المؤسسات القامعة. لكن يبدو أن صاحب “اسم الوردة “لم يرغب في ترك هذه الحياة من دون تصحيح ذلك الانطباع الأولي الذي تكون في عقله عن تلك المواقع، فأعلن أن “وسائل التواصل الاجتماعي يبدو وكأنها قد أتت إلينا بجماعات من الحمقى يظهرون وكأنهم قد حملوا جائزة (نوبل). إنه غزو الأغبياء”.
وأضاف صاحب “السيميائية وفلسفة اللغة” أن تلك المواقع أتاحت لأولئك الناس “الأغبياء” الذين “كانوا يتحدثون بعد كأس في حانة ويقوم الناس بإسكاتهم على الفور بعد وقت قليل من حكيهم. الآن صاروا يحكون على تلك المواقع كأنهم علماء”.
لكن يبدو أن الموت الذي لحق بهذا المفكر الإيطالي لم يتح له فرصة اللحاق بقصص العنصرية التي صارت سيّدة الموقف على تلك المواقع. لقد أصبحت تلك اللغة الفجة مسيطرة عليها ولسان حالها، وعلى وجه الخصوص تجاه كل ما هو أسود اللون، ولو كان صاحب هذا اللون فناناً شهيراً أو كاتباً أو شخصية عامة في بلده.
كل هذا بينما “جهلة فيسبوك” لا يعلمون بحقيقة تلك الشخصية الشهيرة التي يحكون عنها، ويتناقلون مقاطع فيديو، كما لو أنها مبتورة عن سياقها كي تكون وسيلة لسخرية فجّة. وهم يمررونها بينهم ويفتعلون ضحكات ساخرة من صاحب ذلك الفيديو، من دون تحقق أو معرفة بأهمية تلك الشخصية من عدمه، فكل ما يهمهم هو الضحك الفارغ من أي معنى. وما حصل خلال اليومين الفائتين مع المطرب السوداني الكبير محمّد الأمين (مواليد 1940) خير برهان جديد على ذلك.
يقيم الفنان ود الأمين (وهو الاسم الذي يُنادى به) حفلاً شهرياً في العاصمة السودانية الخرطوم، غالبا في “نادي الضباط” كونه الأكبر في العاصمة. لكن هناك ملاحظة في كون هذا الجمهور هو جماعة متغيّرة من الأجيال المُستمعة بمعنى يشير لكون شعبية ودّ الأمين تواصل انتشارها وتكتسب جمهوراً جديداً مع مرور الوقت بين فئة شبابية ومراهقة، على رغم من أن محمد الأمين ليس أحد فناني جيلهم، فهو آخر العمالقة الأحياء، إلى جانب المطرب الكبير عبدالكريم الكابلي الذي استقر في الولايات المتحدة، ولم تعد صحته تسمح له بالغناء.
وينبغي الإشارة هنا إلى أنّ هذا الجيل الشاب يسمع الغناء بطريقة مختلفة عن جيل زمان الذي كان يبقى جالساً صامتاً كي يتشرّب من كمّية الطرب التي تصله وكأنه في صلاة أو محراب ويكتفي بالتصفيق، بعد أن ينتهي المغني من مقطعه الغنائي. لكن هذا الجيل الجديد، بطبيعته، يريد ترديد الأغاني مع مطربه، بل ويغني بدلا عنه، إذ اعتاد الفنانون أن يمدوا الميكروفون باتجاه الجمهور. وهو الجمهور نفسه الذي يبقى واقفاً طوال فترة الحفل يغني ويرقص ويتمايل.
لكن هذا لا يناسب ود الأمين الذي يرغب في شيء آخر. هو يريد أن يسمعه هؤلاء الشباب كما كان يسمعه جيله السابق، خاصة عندما يغني اغاني الطرب التي يُطلق عليها الأمين تسمية ” الغنا الكبير” مثل أعماله “زاد الشجون”، و”بتتعلم من الأيام” و”قلنا ما ممكن تسافر” و”بَعد الشر عليك”.
وما حصل أن هذا المطرب لم يحتمل تداخل صوت الجمهور معه وفي طريقه للدخول إلى قلب أُغنية “زاد الشجون”، وهي واحدة من الأغنيات الأشهر في تاريخ الطرب السوداني فلم يطق الاستمرار وطلب من جمهوره: “يا تغنوا إنتوا يا أغني أنا!”، وهو مقطع الفيديو الذي انتشر بلا تدقيق. لقد تناقل الناس هذا الجزء فقط ولم يربطوه بالتوضيح التالي، ثم “الاعتذار” المحترم الذي أتى من مطرب محترم.
إن أهم ما في غناء ود الأمين هو التنويع الذي يقوم بإدخاله على أداء الاغنية، أي أنه في كل حفلة له أو تسجيل يغني الأغنية بطريقة مختلفة عن المرة السابقة ويرتجل نغمات وآهات جديدة، وحقيقة ترديد الجمهور للأغنية معه يحرم ود الأمين من هذه الميزة. وهو الأمر الذي قام بشرحه لهم.
وقال “أنا في كل مرة باقول حاجة جديدة وما بعرف شكلها إلا لمّا باسمع التسجيل مرة أُخرى”. وهو التوضيح الذي نال ترحيب الجمهور، وهو التوضيح المبتور الذي لم يظهر على صفحات التواصل الاجتماعي، والسبب واضح: إن لمثل هذا التوضيح أن يحرم سُكّان الموقع الأزرق من فرصة للسخرية والضحك على مطرب “أسود”. وهي واقعة جديدة تثبت إلى أي حد أصبح “فيسبوك”، حقاً، سوقاً بلا صاحب.
العربي الجديد