“البطان” في السودان… عادة مؤذية مستمرة

أحمد أمين (18 عاماً)، طالب في كليّة الهندسة في جامعة الزعيم الأزهري. بدا سعيداً في الحفل الذي نظمته رابطة تجمعه وزملاءه في الجامعة، القادمين من ولاية نهر النيل في شمال السودان. سر سعادة أمين لا يرتبط بغنائه. فخلال الحفل، جُلد بالسوط على ظهره أكثر من عشر مرات، ما أدى إلى جروح عميقة في ظهره، أضيفت إلى جروح سابقة ناتجة عن الرغبة نفسها في الجلد. رغبة تنتابه أثناء غناء “الدلوكة”.

لم يكن أمين الطالب الوحيد الذي جلد خلال الحفل نفسه، بل شمل الأمر عشرات الطلاب، لدرجة أنك تستطيع رؤية دماء على ثيابهم. تُسمى ظاهرة الجلد هذه في السودان بـ “البطان”، وتنتشر أكثر وسط قبيلة الجعليين التي تقطن غالباً في ولاية نهر النيل، إضافة إلى أجزاء أخرى من السودان. يجلد الشباب في المناسبات، مثل الزواج والختان. في حفلات الزواج، يتولى العريس أو شقيقه أو أي قريب له الجلد مستخدماً سوطاً من “العنج”. ويكشف أصدقاؤه عن ظهورهم، ويقفون أمامه بثبات، وهم يتلقون ضربات السوط من دون حراك، في ما يُعرف بـ “الركاز”.

وبعدما كان “البطان” يمارس إلى حد كبير وسط قبيلة الجعليين، وينحصر في مناسبات الزواج والختان فقط، صار أكثر انتشاراً في الآونة الأخيرة وسط قبائل أخرى، وبات جزءاً من حفلات الطلاب في الجامعات. وتحرص الروابط والاتحادات المنتمية إلى نهر النيل على نقل ما تعتبره تراثاً يصعب التخلي عنه إلى الجامعات وإبرازه للآخرين، بحسب ما يقول الأمين الإعلامي لرابطة طلاب نهر النيل في جامعة الأزهري، مازن جمال الدين، لـ “العربي الجديد”.

من جهته، يقول الباحث في مجال التراث في منطقة الجعليين، محمد أحمد قدور، لـ “العربي الجديد”: “لم أجد في التاريخ ما يشير إلى بداية هذه العادة، وإن كانت مسبباتها واضحة جداً. إذ خاضت القبيلة نزاعات عدة سواء داخلية أو مع المستعمر. بالتالي، عمد المجتمع إلى إبراز قيمة البطولة والشجاعة من خلال البُطان بحثاً عن الأمان، خصوصاً أن الأغاني التراثية المصاحبة للجلد تمجّد صفات الشجاعة لدى الشباب”. ويبيّن أن “الفنون الحركية تعكس سمات المجتمع في النهاية”.

يضيف قدور أنّ شعر هذه الأغنيات تكتبه المرأة التي تبحث عن الأمان لها ولقبيلتها. لذلك، تعكس الكلمات بحثها عن من يحميها. ويشير إلى أنّ قبائل سودانية أخرى تظهر عادات تبرز البطولة، كما في رقصة الكمبلا التي تقوم على فكرة الثور وعادة الجرتق التي تبرز مظاهر المحارب القديم. ويستبعد قدور فرضية تخلي المجتمع عن عادة البطان في الوقت الراهن، على الرغم من التحولات الثقافية وارتفاع نسبة الوعي، متوقعاً انحسار بعض العادات خلال العقود المقبلة.

في هذا السياق، يقول أحمد أمين لـ “العربي الجديد” إنه جُلد لأول مرة حين كان في الحادية عشر من عمره، خلال حفل زواج إبن خالته. ولم تكن هذه المرة الوحيدة التي يُجلد فيها، بل إنه لم يتوقف عن ذلك مطلقاً، مؤكّداً أن هذا تراث ورثه الشبان عن آبائهم وأجدادهم، ولا يمكن التخلي عنه. ويشير إلى أنه استطاع خلال إحدى الحفلات تحمّل أكثر من 30 جلدة في ليلة واحدة. يضيف أن حالة نفسية خاصة تنتابه وتنتاب كل من يرغب في الجلد يطلقون عليها “الشعرانة”، ولا خلاص من هذه الحالة إلا من خلال الجلد. ويوضح أمين أن والدته ووالده يرفضان أن يجلد، إلّا أنّه يستطيع إقناعهما.

أما الشاب مضوي، الذي بقي عُرضة للجلد باستمرار، يؤكد لـ “العربي الجديد” أنّه يفعل ذلك من أجل إثبات شجاعته وبطولته أمام الرجال والنساء. ويوضح أن ما يدفعهم كشبان إلى ذلك هو الرغبة في مشاركة العريس أفراحه، وتحمسهم زغاريد النساء، مؤكداً أنه لا يأبه للآلام التي يشعر بها. مرة واحدة فقط قصد طبيباً بعدما استمر الألم أياماً. ويقول إنه كما جرت العادة، سيجلد في ليلة زفافه كلَّ من جُلد لأجلهم.

وإذ يشار إلى دور المرأة في إثارة الحماسة لدى الشباب للجلد، إلا أنّ الطالبة الجامعية سلمى أحمد ترى أن نساء اليوم يرفضن الفكرة، وإن كانت تُدرك أن بعض الفتيات في السابق كنّ يتخلين عن الزواج من الشبان الذين لا يُجلدون.

في المقابل، فإن بعض شبان هذه القبائل يرفضون الاستمرار في ممارسة عادة البطان، مثل خالد علي أحمد، الذي توقف عن تلك العادة، واصفاً إياها بـ “المتخلفة”، وتتضمن تعذيباً ما من داع له. ويشير لـ “العربي الجديد” إلى أن الخوف من آثار ظاهرة البطان برز بعد استخدام سوط واحد لجلد العشرات ما يؤدي إلى انتشار الأمراض.

من جهته، يؤكد سفيان البشري أنّه لم يعرض نفسه للجلد مطلقاً، استجابة لوصية والده الذي تأذى من تلك العادة حتى وفاته، لدرجة أنه لم يكن قادراً على التمدد براحة على السرير، بسبب آثار الجلد.

العربي الجديد

تعليقات الفيسبوك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.