الطيب مصطفى: لم يخسر غندور ورب الكعبة إنما خسر الوطن رجلاً متميزاً

لم أكن محتاجاً لشهادة مذيع قناة الجزيرة وموثقها الأكبر أحمد منصور والذي قال عن غندور ، حسب رواية الأخ أبشر الماحي : (لم أحاور قريباً رجلا بهذه المواصفات) بالرغم من ضخامة تلك الشهادة من أحد دهاقنة العمل الصحفي والإعلامي الذين حاوروا الرؤساء والعظماء والفصحاء من كل الدول والحقب والأعمار ..نعم ، لم أكن في حاجة إلى تلك الشهادة الضخمة في حق غندور ذلك أني خبرت الرجل من مواقع شتى تقلدها ورأيت فيه ما بهرني وأقنعني أنني أمام رجل نادر بكل ما تحمله الكلمة من معنى.
كذلك لم أدهش (لخطبة الوداع) التي قدمها أمام البرلمان فقد كنت حاضراً تلك الجلسة وعلمت فور خروج كلماته الزاهدات في منصب وزير الخارجية أن الرجل قد طفح به الكيل وآن أوان رحيله من موقع رفيع تتسابق إليه الأعناق لكنه أضيق بكثير وأصغر من قدراته الضخمة ومكانته السامية سيما بعد أن نزع منه معظم الشحم واللحم ولم يبق فيه سوى فتات لا يسمن ولا يغني من جوع.
لقد فرض غندور بكاريزميته الطاغية احترامه على الجميع بما في ذلك المعارضة بل حتى على منصور خالد الذي لا يرى في دهماء السودان وصفوته أحد سواه ، ولذلك وغيره ظللت أقول إن وزارة الخارجية لم تشهد مثيلاً له منذ المحجوب طيب الله ثراه.
عندما تلا بيانه أمام البرلمان بعد أن أجاب عن سؤال حول احتلال حلايب لم يجد أعضاء المجلس الوطني ، وجلهم ويا للعجب ، من الحزب الحاكم والمتحالفين معه ، غير التصفيق الذي ظل يستأثر به كلما خاطب البرلمان ولم يجد ممثلو الشعب أدنى حرج أو بأس في أن يشكو غندور إليهم قلة حيلته وهوانه على الجهاز التنفيذي وعلى بنك السودان، فإلى من تراه يشكو بعد أن ضاقت به السبل وهو يرى الوفود تجوب الآفاق عبر القارات، والمؤتمرات تنعقد وتنفض والوزارات والمؤسسات تصرف مرتباتها شهرياً، بينما يضطر ممثلو السودان وسفراؤه في الخارج إلى بيع ذهب زوجاتهم لكي يستروا حالهم ووطنهم؟!
ولكن هل هذا هو السبب في غضبة غندور وقد قدم استقالته قبل أشهر وبدا زاهداً في الاستمرار أم أنه ضاق ذرعاً بأحوال البلاد بعد أن عم الفساد وطم حتى أعلنت قيادة الدولة الحرب عليه وعلى قططه السمان وبعد أن عز على الناس سحب أموالهم من المصارف وعاد الناس إلى (قيام الليل) أمام طلمبات الوقود وأصبح الدولار بعبعاً بل مارداً يقيّد بالسلاسل من خارج بنك السودان حتى لا ينفلت فيُدمِّر الأخضر واليابس ويهوي بعملتنا الوطنية إلى القاع؟!
تفاءل الناس بالرفع (النظري) للعقوبات الأمريكية الظالمة لكن أمريكا وحلفاءها و(حلفاءنا) لا يزالون يمسكون بخناقنا رغم الدماء الغالية التي يسكبها جنودنا ولا أرى أملاً قريباً فساقية السياسة (لا تزال مدورة)!
أعود للحديث عن غندور فقد أشفقت حين تولى التفاوض مع الحركات المسلحة من خلال موقعه كمساعد لرئيس الجمهورية ذلك أن سمته المهذب المؤدب لا يشي إلا برجل (منبطح) لا يملك مقومات من يناطح ويصارع أولئك الأشرار من الذين أدمنوا لغة الحرب والصراع وفاحش القول والفعل وكتبت وقتها متشائماً أننا أمام مرحلة جديدة من الانكسار والهزيمة ستكون أكثر وبالاً مما جره علينا أولاد نيفاشا الذين سماهم الفريق مهدي بابو نمر بعصافير الخريف فإذا بالرجل يبهرني بشخصية مختلفة تماماً فقد ألجأ غندور عرمان إلى الحائط وعصره عصراً بدون أن يتخلى عن سمته الوقور وأدبه الجم ولا أدري كيف يتأتى لرجل أن يقاتل ويصرع خصمه بدون سلاح الطعان؟!
ذلك هو غندور بأسلوبه السهل الممتنع وذلك هو غندور نسيج وحده الذي كان يصرع خصومه المحاربين في مائدة التفاوض ويصرع محاوريه الدبلوماسيين عندما يقف أمام الكاميرات التلفزيونية والصحفية فيبدون كالأقزام أمام طلته البهية وبيانه السلسال.
لم يخسر غندور ورب الكعبة إنما خسر الوطن رجلاً متميزاً خرج في وقت عصيب يحتاج إلى رجل بقدراته الكبيرة لكي يخرجنا من ضيق الحصار الأمريكي الذي لا نزال نتمرغ في رمضائه.
لا غرو فإن سيرته الذاتية الباذخة تؤهله ليحتل موقعاً أكبر فرجل شغل منصب مدير جامعة الخرطوم وعرك السياسة وعركته أضخم من أن يدخل في معارك صغيرة ولذلك اختار اللحظة المناسبة لكي يغادر إلى حيث فضاء الله الواسع فالليالي من الزمان حبالى مثقلات يلدن كل عجيب.

الصيحة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.