وحيدة في زمن المطر !

أنا الآن في حضرة وحدتي.. أغلقت لتوي باب غرفتي كي أبكي برفاهية أكثر.. اسمع صوتاً في الخارج.. أكاد أجزم أنه صوت مطر.. وبالرغم من أن الخريف يحوم حول الأرجاء غير أنه يستحيل على هذا الصوت القادم من منتصف مخيلتي أن يكون مطراً..
فالمطر عندنا ذو احتفاء لا تخطؤه عين ذي حس ..أو سمع..
كنا قديما نهرع للطرقات كلما همت غيمة بالهطول نمازحها بالأناشيد التي على شاكلة : (يا مطيرة.. صبي لينا ..في عينينا) فتمازحنا ببعض القطرات… نفرح ونقفز عاليا ..نقطت.. نقطت…
وما إن ينزل الغيم ليلعب معناً يداً بيد.. حتى نهرب نحن ونحتمي منه بالأسطح المعدة لاستقباله جيداً..
فيشعر بالحزن ويبكي كثيراً ..يحتويه النهر أو البحر بدفء يحسدان عليه..
ونخرج نحن وكأن شيئاً لم يحدث.. وكأن خاطر الغيم لم ينجرح..
والغيمة نقية ..بيضاء القلب
.شديدة التسامح ..تعاود الهطول مرة أخرى وتبحث عنا على مدار العمر ..لا تكل ولا تمل.. كأم رؤوم لا يعني لها العقوق شيئاً ولا تعيق عاطفتها المتقدة أنهار من العصيان..
آنا الآن أشعر أنني غيمة طيبة..
يجتاحني الحزن ..أغلق أبواب غرفتي وأقول للورق هيت لك ..ينصاع لأمري ألون بك بياضه فيستحيل أحمرا كلون الدماء التي اسكنتك بها..
قديما كنت أظن أن اللون الأزرق يحمل الدم المؤكسد في جسد الإنسان ..أما الآن فأنا على يقين بأن الأحمر هو الذي يحتاجه الجسد غذاء وصحة وعافية..
لذا عدت لاستعمال الحبر الأحمر على جسد الورق ..كي أعلم تماماً أن غذاء ذاكرتي هنا.. غذاء صحيح ..تحتاجه ذاكرتي بشدة.. ولأن الأحمر هو لون الرفض.. ولون الحُب.. ولون يحترمه العقل ويلتفت لصوته.. لذا كتبتك بالأحمر ..كي تصطف مشاعري باحترام عندما يومض هذا اللون.. كي يقف النبض على ساقيه ويلوح لقادم من عميق المجهول ..ولكي يحدث كل هذا بلا فوضى ..كان لابد من اللون الأحمر…
فكتبتك بالدم على صفحات الذكرى.
ذات مساء مبكر.. كنت قد بحت لي بأمنية خفية كانت تراودك …
قلت لي إنك تتمنى لو أنك وثقت كلما بيننا.. أسماء أطفالنا.. زياراتنا الأسرية.. لقاءتنا بعد سفر…كل ذلك…
رددت عليك حينها برد كان دون ما تتمنى ..قلت لك إن التوثيق إما أن يكون جزءا من الخوف من اللا لقاء..
أو أن نستدل به للصغار القادمين من رحم الغيب.
..
استنكرت ردي حينها.. ربما لأني اكره أن نلجأ للأمس، فنقارن به ما آل إليه الحال.. (وينكسر خاطر المحبة)..
أما الآن ..فأنا هنا أحمد الله أننا لم نوثق لكل شيء.. لأن عين الشوق لا ترحم.. ولأنني أكره جداً أن أنقب عن حبي بين غياهب صورة كانت ذات حُب بينما أنا الآن في كامل خوفي من غياب لا يحتمل..
أنا هنا.. اتدثر بما في ذاكرتي من دفء جميل الذكرى ..ويصيب صقيع سيء الذكريات قلب وجودك فيتصلب شريان الحُب قليلا ..افتقدك جدا.. اسمع ذات الصوت فأوقن أنه صوت آخر ..مروحة علقت على سقف مجاور…أو جهاز تكييف على حافة غرفتي..أو ربما تصلب شريان لذكرى سيئة مرت على عجالة…أو أي شيء سوى المطر .
المصدر : كوش نيوز

تعليقات الفيسبوك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.