الفاتح جبرا: خطبة الجمعة

إنَّ الحمدَ للهِ، نحمدُه ونستعينُه ونستغفرُه ونتوبُ إليه، ونعوذُ باللهِ من شُرورِ أنفُسِنا، ومن سيِّئاتِ أعمالِنا، من يهدِه اللهُ فلا مُضلَّ له، ومن يُضلِل فلا هادِيَ له، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وأشهدُ أن محمدًا عبدُ اللهِ ورسولُه.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 70-71].
أما بعدُ أيها المسلمون:
عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ – رَضِيَ اللهُ عَنهُمَا – قَالَ: “بَعَثَنَا رَسُولُ اللَّهِ – صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّمَ – إِلَى الْحُرَقَةِ، فَصَبَّحْنَا الْقَوْمَ، فَهَزَمْنَاهُمْ، وَلَحِقْتُ أَنَا وَرَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ رَجُلًا مِنْهُمْ، فَلَمَّا غَشِينَاهُ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَكَفَّ الْأَنْصَارِيُّ، فَطَعَنْتُهُ بِرُمْحِي حَتَّى قَتَلْتُهُ فَوَقَعَ فِي نَفْسِي مِنْ ذَلِكَ، فَلَمَّا قَدِمْنَا ذَكَرْتُهُ لِلنَّبِيِّ – صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّمَ -، فَقَالَ: “يَا أُسَامَةُ، أَقَتَلْتَهُ بَعْدَ مَا قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ؟”، قُلْتُ: كَانَ مُتَعَوِّذًا، إِنَّمَا قَالَهَا خَوْفًا مِنَ السِّلاَحِ، فَقَالَ: “أَقَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَقَتَلْتَهُ؟، أَفَلَا شَقَقْتَ عَنْ قَلْبِهِ حَتَّى تَعْلَمَ أَقَالَهَا أَمْ لَا؟”، فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا عَلَيَّ حَتَّى تَمَنَّيْتُ أَنِّي لَمْ أَكُنْ أَسْلَمْتُ قَبْلَ ذَلِكَ الْيَوْمِ.
عباد الله:
ما أجدر بنا أيها المسلمون أن نتعلم من هذا الدرس المجاني من رسولِ اللهِ – صلى اللهُ عليه وسلمَ هذا الدرسٌ الذي لم يكنْ يحتملُ المجاملة والذي لم يكن يحتمل إلا المباشرة في الخطاب، إنَّها النِّيَّاتُ وما أدراكَ ما النِّياتُ، وهل يعلمُ النِّياتِ إلا ربُّ الأرضِ والسَّماواتِ، فهو العزيزُ العظيمُ الرَّحيمُ الغفورُ، الذي يعلمُ خائنةَ الأعينِ وما تُخفي الصدورُ.
فهل لنا بعدَ هذا الموقفِ الواضح الصريح أن نطعنَ في نيَّات الناس؟ يقولُ سعيدُ بنُ المسيَّبِ -رحمَه اللهُ: “كتبَ إليَّ بعضُ إخواني من أصحابِ رسولِ اللهِ – صلى اللهُ عليه وسلمَ: أن ضَعْ أمرَ أخيكَ على أحسنِه، ما لم يأتِكَ ما يَغلبُكَ، ولا تظنَّنَّ بكلمةٍ خَرجتْ من امرئٍ مُسلمٍ شَرًّا، وأنتَ تَجدُ لها في الخيرِ مَحملًا“.
أيها المسلمون:
إن إساءةُ الظَّنِّ بما في قلوبِ الآخرينَ يورثنا معصية ربِّنا وخالقِنا، الذي أوصانا وقالَ لنا: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا)[الْحُجُرَاتِ: 12]، ولذلكَ لا تجدُ مؤمنًا حقيقيًّا في إيمانِه، إلا وهو سليمُ الصَّدرِ لإخوانِه، يلتمسُ لهم المُبرِّراتِ والأعذارَ.
يقولُ جعفرُ بنُ محمدٍ – رحمَه اللهُ: “إذا بلغك عن أخيك الشيء تنكره، فالتمس له عذراً واحداً إلى سبعين عذراً، فإن أصبته، وإلا قل: لعل له عذراً لا أعرفه“، وهذه – واللهِ – أخلاقُ العُظماءِ الأكابرِ، الذينَ يؤمنونَ بيومٍ تُبْلَى فيه السَّرائرُ، ولقد صدقَ القائلُ:
تأنَّ ولا تعجَلْ بلَومِكَ صاحِبًا *** لعلَّ له عُذرًا وأنتَ تَلومُ
تعالوا نستمع إلى لطيفة من اللطائف التي توضح لنا حسن الظن الذي يجب على المسلم اتباعه والاقتداء به وهو حسن ظن أبي أيوبَ الأنصاريِّ – رضيَ اللهُ عنه – في عائشةَ – رضيَ اللهُ عنها في حادثةِ الإفكِ، فعندما دخلَ على امرأتِه أمِّ أيوبَ، قالت له: “يا أبا أيوبَ، ألا تسمعُ مَا يَقُولُ النَّاسُ فِي عَائِشَةَ؟، قَالَ: بلى، وَذَلِكَ الكذبُ، أكنتِ يا أمَّ أيوبَ فاعلةً ذَلِكَ؟، قَالَتْ: لا واللهِ مَا كنتُ لأفعله، قَالَ: فعائشةُ – واللهِ – خيرٌ منكِ”، فأنزلَ اللهُ – تعالى: (لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ) [النُّورِ: 12].
أيها المسلم َأَحْسِنِ الظَّنَ بما في قلوبِ المسلمينَ، ولا تتَّهم ما لا تراهُ العينُ، واسمع إلى اعتذارِ النَّملةِ الرَّزينِ: (حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِي النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ) [النَّمْلِ: 18]، فاعتذرتْ عنهم أنَّهم إن حَطموكم فليسَ عن قَصدٍ منهم ولا شُعورٍ، فما أجملَ هذا الشُّعورَ.
فانظرْ إلى قلوبِ النَّاسِ نظرةً نظيفةً، واحملْ ما فيها على النَّوايا الشَّريفةِ، واجعل مشاعرَك تجاهَهم خالصةً عفيفةً، يَذْهَب ما في قلبِك من الشَّكِ والرَّيبِ، وَتَحْلُو حياتُكَ بالسَّعادةِ وتطيب، وإذا ما أخطأَ عليكَ حبيبٌ يومًا واعتذرَ، فتذكَّرْ ما في العفوِ من الشَّهامةِ والأجرِ، (فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ) [الشُّورَى: 40].
اللهمَّ أصلح نياتِنا وذريتِنا، وألِّف بينَ قلوبِنا، وأخرجنا من الظلماتِ إلى النورِ، وأدخلنا دارَ السلامِ، أَحْيِنَا مؤمنينَ وتوفَّنا مسلمينَ، وألحقنا بالصالحينَ، غير خزايا ولا مفتونينَ، اللهم إنا نسألُك الخلاصَ من الفتنِ، اللهم نجنا في الدنيا وفي الآخرةِ يا ربَّ العالمينَ.
اللهم اجعلنا لك ذاكرينَ، لك شاكرينَ، لك تائبينَ، إليك أوَّاهينَ منيبينَ، أعطنا ولا تحرمنا، وزدنا ولا تنقصنا، وآثرنا ولا تؤثر علينا، وعافنا واعفُ عنا، وكن لنا ولا تكن علينا، اللهم رحمتَك نرجو، فلا تكلنا إلى أنفسِنا طرفةَ عينٍ، وَنَجِّنَا من القومِ الظالمينَ، وادخلنا برحمتِك في عبادِك الصالحينَ، واكتبنا من أهلِ الفردوسِ الأعلى يا أرحمَ الراحمينَ، واعتق رقابَنا من النارِ يا غفارُ، اللهم تب علينا، وآتنا سؤلَنا، وقنا شرَّ أنفسِنا، آمِنَّا في أوطانِنا، وأصلح ذاتَ بينِنا، وولاةَ أمرِنا، وارزقنا الاستمساكَ بالعروةِ الوثقى، اللهم إنا نسألُك حسنَ الخاتمةِ، وحسنَ العاقبةِ، أحسن عاقبتَنا في الأمورِ كلِّها، وقنا خزيَ الدنيا وعذابَ الآخرةِ أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم .. وأقم الصلاة..
الجريدة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.