القيادي بالمؤتمر الوطني د. أمين حسن عمر يكتب: الفساد ومنظومة النزاهة العامة

العمل لمكافحة الفساد يجب أن يتسم بالصدق والحزم وأن يكون متواصلاً غير منقطع وشاملاً لا يسكت عن أحد ولا يستثني أحداً أبداً

ولذلك فإن المنهج السليم في درء المفاسد هو الحفاظ على الصحة والسلامة والصواب بتدابير مستدامة لا يغفل عنها. فالمحافظة على المجتمع ومؤسسات الدولة ومؤسسات القطاع الخاص والأفراد من الفساد مثل المحافظة على الصحة العامة والخاصة بالتدابير الوقائية قبل التدابير العلاجية

وإذا كان المبدأ الإسلامي هو أنه لا يجوز للحاكم أن يعفو عن الحق الخاص، فكل حق خاص له أولياؤه، فإن المبدأ العام في الشأن العام ينبغي أن يكون أنه لا يجوز لسلطة عامة أن تعفو عن حق عام إلا وفق معايير مسبقة معتمدة

هنالك حاجة ملحة لتنظيم جمعيات المجتمع المدني وشركات القطاع الخاص بما يوائم مكافحة الفساد وتعزيز النزاهة. فالقطاع الخاص لابد أن يُحمى من الفساد بالتشريعات المناسبة . يدخل في ذلك الحؤول دون تنفّذ كبار رجال الأعمال في أجهزة اتخاذ القرار الاقتصادي

بيد أن الدولة يجب أن تسمح بتشكيل جمعيات لمناهضة الفساد وتعزيز النزاهة في منظمات المجتمع المدني. لأنها إن لم تفعل لحدث ما يحدث الآن بحيث تنشئ بعض الجهات السياسية منظمات غير معترف بها من قبل الدولة

يكثر الكلام هذه الأيام حول الفساد والمفسدين من أهل الموالاة وأهل المعارضة وليس كل الكلام حمية وغيرة على المال العام والنزاهة العامة، فقد يكون بعضه مساجلة من مساجلات الخطاب السياسي الدعائي وغير النقدي وإنما يراد به من قبل الخصوم أن يقال انظروا إلى فساد الحاكمين وهم يحملون كل حالة فساد على حالة الحكم كلها، وأما أهل الموالاة فيدخلون فى إحدى حالتين، إما حالة دفاعية مطلقة بإنكار ما قويت في شأنه الشبهات أو يندفعون في حملات آنية تدفعها دوافع متعددة ولكن تصوير الأمر وكأن البلاد بأسرها تخوض في وحل الفساد غير أنه مجانب للواقع فهو مضر بسمعة البلاد وفرصها في التعامل الاقتصادي النزيه مع من سواها من الدول وطارد للاستثمار. إن العمل لمكافحة الفساد يجب أن يتسم بالصدق والحزم وأن يكون متواصلاً غير منقطع وشاملاً لا يسكت عن أحد ولا يستثني أحدًا أبداً ولكن الحديث العفو عن الفساد والحملات الكلامية التي ترافقها تغطيات ودعايات يجب أن تقل لمضارها التي لا تخفى على ذي لب مآلاتها، وقد كنتُ كتبتُ قبل سنوات مقالات عن مسألة الفساد والنزاهة، ولعل الوقت مناسب لمراجعتها لتجلية المفاهيم وتذكر المبادئ في مسألة النزاهة العامة والفساد في مرجعية الشرع القويم.

الفساد والصلاح السياسي.. رؤية مقاصدية
العلماء والفقهاء في المدرسة الإسلامية يعرّفون السياسة بأنها سلطة ولي الأمة في التصرف بالسياسة لدرء المفاسد وجلب المصالح. فدرء المفاسد هو نصف السياسة ونصفها الآخر هو جلب المصالح. ولكن الأمر ليس كما يبدو وكأن هنالك دائرة للمفاسد ودائرة للمصالح. فكل فاسد قابل للإصلاح وكل صالح قابل للإفساد. وما الفساد إلا تغير الحال من الصحة والسلامة والصواب. ولذلك فإن المنهج السليم في درء المفاسد هو الحفاظ على الصحة والسلامة والصواب بتدابير مستدامة لا يغفل عنها. فالمحافظة على المجتمع ومؤسسات الدولة ومؤسسات القطاع الخاص والأفراد من الفساد مثل المحافظة على الصحة العامة والخاصة بالتدابير الوقائية قبل التدابير العلاجية. ومقصد مكافحة الفساد هو الاحتفاظ بسلامة المجتمع ومؤسساته وقوتها وقدرتها على الأداء الأفضل والنمو المتسارع. لذلك فإن المنهج السليم لمكافحة الفساد هو المنهج المقاصدي الذي ينصب أهدافاً للمجتمع وللدولة وللمؤسسات لتعزيز المناعة والكفاءة والقدرة من خلال اعتماد معايير قابلة للقياس للنزاهة والصلاح والفاعلية. لذلك فإن الحاجة تمس ليس فحسب لإنشاء مفوضية لمكافحة الفساد، بل لاعتماد منظومة شاملة للنزاهة العامة. وقد ظل الأمر هاجساً مقيماً لدي، وموضوعاً للنقاش والحوار متطاولاً بيني وبعض الأصدقاء والزملاء. فقد بذلت الدولة السودانية منذ الاستقلال جهوداً (لا يليق بنا التقليل منها،) لمكافحة الفساد المتمظهر في اختلاس الأموال العامة أو سوء استغلال الممتلكات والموجودات العامة أو استغلال النفوذ. بيد أن تلك الجهود التي أخذت شكل تشريعات أو مؤسسات أو قرارات لم تندرج في يوم من الأيام في إطار رؤية شاملة متكاملة لتعزيز النزاهة الوطنية وترقية الأداء العام. وما دام موضوع الفساد قد أصبح واحدة من أجندة السياسة الوطنية، فلابد من مقاربة مسؤولة للقضية. تترفع عن نهج الانتهازية السياسية الذي يسعى للنيل من الخصوم بأية وسيلة ممكنة. كما تتعالى عن نهج تنزيه الذات والادعاء بأن أداء السلطة الحاكمة يعلو على الشبهات ويخلو من الفساد كما يخلو الثوب الأبيض من الدنس.
ما المقصود بالنزاهة العامة
ويجدُر بنا طلباً للوضوح، أن نتعارف على المعنى المقصود بالنزاهة العامة. والتعريف الذي أُفضّل استخدامه هو ترويج المفاهيم وتعزيز التدابير التي تؤدي للكفاية والنجاعة والفاعلية. وذلك من خلال اعتماد العلانية والشفافية والمساءلة والمحاسبة الذاتية والمؤسسية. وقد يسأل السائل كيف تؤثر هذه المبادئ على استدامة المعافاة من الفساد. والإجابة هي أن اعتماد العلانية والشفافية والتنائي عن السرية والإخفاء في أداء العمل العام يعزز الرقابة الخارجية التي تناصر الضمير المهني للموظف العام. فالإثم كما يقول الرسول المعصوم عليه الصلاة والسلام (هو ما حاك في الصدر وخشيت أن يطٌلع عليه الناس)، فكل محجوب من الخطأ مصحوب بالخشية من علم العامة يفتح باباً واسعاً من أبواب الفساد. ونقصد بالعلانية أن يُعلن مقدماً عن الكيفية التي يدار بها الشأن العام ليدخل ذلك في علم الكافة. ويُضمن في لوائح ومدونات للسلوك يحيط بها أصحاب المصلحة جميعاً. ونقصد بالشفافية أن يؤدى العمل العام في مشهد من طائفة واسعة من الناس يؤمن تواطؤها على الفساد. وأن يُعتمد نظام مستدام للمراقبة والمراجعة والتدقيق. ونقصد بالمساءلة أن لا يترك فرد أياً من كان ذلك الفرد إلا ويخضع لمساءلة مؤسسية واجتماعية وسياسية لِمَ فعل ما فعل وترك ما ترك. طالما تولى أمراً من أمور الناس التي تصلح بها أحوالهم أو تسوء. فكل صاحب تصرف في شأنٍ عام أو مال عام لابد له من التقرير لجهة ما عن كافة تصرفاته في الشأن العام والمال العام بما يجلب المصالح ويدرأ المفاسد. واختيار النظام السياسي والنظام الإداري الذي يحقق المساءلة للجميع أمر في غاية الأهمية. والذي نراه الآن مما انفضح من سوء تصرف الرؤساء والوزراء في البلدان التي اجتاحتها ثورة الغاضبين إنما مرده إلى فشل النظام المعتمد في جعل المساءلة جزءاً لا يتجزأ من التدابير السياسية. فحيث يجوز للرئيس أن يحوز على أموال بحجة تصريف الأمور عالية السرية، ويعتمد في ذلك على الثقة الممنوحة سياسياً للرئيس ينفتح احتمال كبير لسوء التصرف. ولا يجوز لرئيس أو وزير أو مدير أن يدعي النزاهة المطلقة والبراءة من الميل لحظ النفس أو المحاباة. لأن الادعاء نفسه دلالة على القابلية لما هو موضع الإنكار. وربما يقول القائل إن الشفافية المطلقة لها مضارها ولا مشاحة في ذلك. فلابد من السر في محل السر والجهر في كل الجهر، ولكن الأمر لابد له من أن يقدر بقدره، وأن تتخذ المحاذير وأن تعتمد الهياكل التي تضيق إلى مدى بعيد تلك السلطات التي لا تخضع لمساءلة فاعلة.
وأما المحاسبة فتأتي بعد المساءلة وثبوت الخطأ أو الخطيئة. وإذا كان المبدأ الإسلامي هو أنه لا يجوز للحاكم أن يعفو عن الحق الخاص، فكل حق خاص له أولياؤه، فإن المبدأ العام في الشأن العام ينبغي أن يكون أنه لا يجوز لسلطة عامة أن تعفو عن حق عام إلا وفق معايير مسبقة معتمدة، لأن التساهل في محاسبة المخطئين والمفسدين يفتح باباً واسعاً لترويج الخطأ والفساد. ولا يجب إرجاء المحاسبة للمفسدين من أهل السياسة إلى الموسم الانتخابي. فلابد من اعتماد نظم للمحاسبة تسمح باستعجال محاسبة الفساد الظاهر من خلال هيئات مستقلة أو من خلال البرلمان. ولذلك فإن تفعيل الدور البرلماني يغدو أمراً مهماً للغاية فلابد من خضوع التنفيذيين جميعاً للبرلمان. ولذلك فإن مراجعة أنظمة الحكم لتعزيز الرقابة البرلمانية على الأداء التنفيذي أمر له مساس كبير بتعزيز منظومة النزاهة الوطنية. ولئن كان السودان قد اختار النظام الرئاسي ولا يزال في التقدير أنه النظام الأدعى لتحقيق الاستقرار، فلابد من إيجاد معادلة تخضع الوزراء والتنفيذيين للرقابة البرلمانية بوجه فاعل.
الوظيفة العمومية خدمة للشعب:
ولكي يتحقق بعض ما ندعو إليه، فلابد من إحياء بعض المفاهيم التي سادت ثم بادت. وعلى رأسها أن أبعد ما يكون عن الجاه والاستعلاء هي الوظيفة العامة. فالوظيفة العامة ينبغي أن لا تسند لأولئك الذين يريدون علواً في الارض أو يريدون فساداً. وليس هنالك مجلبة للفساد مثل الشعور يطغى على الموظف العام يوحي إليه أنه بوظيفته العامة رئيساً أو وزيراً أو مديراً قد أضحى أعلى الناس مقاماً، أو أرجح منهم عقلاً أو أوفق تدبيراً. فالموظف العام خادم عام ويتوجب أن يعاد تعزيز هذا المعنى وترويجه. ولن يتحقق ذلك بشعور يتأتى للموظف العام وحده بل لابد أن يؤسس لذلك في الدستور والقانون، وفي إحساس العامة من الناس أنهم هم أولياء الأمور على شأنهم العام. وأنه لا يحق لرئيس أو وزير أو مدير أن يرى له موقعاً فوق رؤوس العباد أو في سدة عالية فوق كل البلاد.
وقد كان ذلك هو شأن الحكام الراشدين أبي بكر وعمر وعثمان وعلي حتى أن عمراً رضى الله عنه كان يحمل روث أبل الصدقة حتى لا تُعجب نفس عمر عمراً. ولئن كانت تلك المقامات السامية ليست بميسورنا في زماننا هذا فلا يجب أن نستصعب التقرب إلى مقامها باعاً أو فرسخاً من خلال تأكيد أن الحاكم خادم الشعب وأن أعوانه جميعاً خدامهم. ومن شأن الخادم أن يُعان. ولذلك فإن مشاركة المجتمع في إدارة الشأن العام ومساءلة الخدام ومراقبة أدائهم ثقافة عامة يجب أن تسود، وممارسة عامة يتوجب أن يؤسس لها بالدستور والقانون والعرف المستقر بين العامة والخاصة.

– السياسات والتشريعات:
لا شك أن أسلوب الوقاية أجدى من أسلوب العلاج . ولذلك فإن وضع السياسات وسن التشريعات التي تعزز النزاهة هو إحدى الوسائل وأكثرها فاعلية لمجابهة انتشار الفساد في مفاصل المجتمع والدولة. فالسياسات العامة التي تتيح انتشار المعلومات وسهولة الحصول عليها واحدة من أهم الوسائل . ولذلك، فإن تشجيع ثقافة المعلوماتية وإتاحة تقانتها للجمهور الواسع واعتماد التعامل الإليكتروني عبر الحكومة الإلكترونية وعبر المعاملات الإليكترونية سيسد أبواباً مشرعة للفساد. لأن الذي سيجري بين الأيدي آنذاك ليست الأموال، ولكنها المعلومات عن تدفق هذه الأموال. ولأن تشجيع المعلوماتية يتيح المشاركة الواسعة للمجتمع ويعزز سبل الحصول على المعلومات، فإن اتجاه الدولة نحو سياسات تشجيع ثقافة المعلوماتية وتقانتها هى إحدى أجدى الوسائل لتقليل ظواهر الفساد. ويتوجب أن تتجه سياسات الدولة عامة إلى جعل سرية المعاملات استثناء نادراً في المعاملات العامة. كذلك لابد من اعتماد سياسات تشجيع حرية الإعلام وتداول المعلومات بعيداً عن كل رقابة إدارية . وألا تخضع تلك الحرية إلا للرقابة القضائية وحدها. كذلك لابد من مراجعة سياسات الاستيعاب والتوظيف في القطاع العام لتقوم على معايير موضوعية . ينحصر فيها التقدير الذاتي لأدنى حدٍ ممكن. وأن يكون الاستيعاب للوظائف العامة مستنده الجدارة والأهلية وأن يبتعد عن التقويم السياسي أو المحاصصات بسبب الدين أو المذهب أو العرق أو الجهة، وإذا اقتضت بعض الظروف الآنية معالجات موقوتة يتوجب أن تحدد فترة معلومة لهذه المعالجات الاستثنائية. وبناء على هذه السياسات يتوجب على المجالس النيابية مراجعة جودة التشريعات بالنظر الى وجوبية اتباع هذه السياسات أو سن تشريعات جديدة تنظيمية أو تأسيسية . يشمل ذلك مراجعة قوانين مؤسسات ذات أهمية في معالجة ظاهرة الفساد وتشمل النيابة العامة . والتي يجب أن يتم فصلها عن وزارة العدل، وتعاد إلى السلطة القضائية ليكون ذلك ضماناً لحيادها في القضايا المرفوعة ضد مؤسسات الدولة . وكذلك قانون المراجع العام وهيئة الرقابة الإدارية . ولا شك أن تشريعات كثيرة ذات صلة بمكافحة الفساد ستخضع لمراجعات مستمرة للتأكد من ملاءمتها لمكافحة ظواهر الفساد. يدخل في تلك التشريعات القوانين المتعلقة بتنظيم محاسبات الدولة والمراجعة والمناقصات والمزايدات وقوانين منع الاحتكار. والتشريعات التي تتيح للمواطنين الحصول على المعلومات غير المصنفة سرية، ويتوجب أن تشمل رزمة تلك القوانين لوائح تفصيلية ومدونات للسلوك الإداري . كذلك فمما يعزز هذه التشريعات هو مصادقة حكومة السودان على الاتفاقية الدولية لمكافحة الفساد ومواءمة التشريعات اللاحقة مع بعض بنود الاتفاقية.
الفساد.. الجريمة والعقاب:
لردع الفساد وتعزيز النزاهة لابد من أنظمة منضبطة لتعريف الفساد وتجريمه والمعاقبة عليه . وهنالك فجوات واسعة في القوانين السودانية من حيث تجريم بعض أوجه الفساد وتحويل قضاياها إلى قضايا مدنية يسهل فى مواجهتها على الفاسدين التنصل من عواقب أفعالهم. ولذلك يتوجب تحويل كثير من أفعال عدم الالتزام بالضوابط المانعة للفساد إلى جرائم . ووضع عقوبات مالية أو عقوبات سجن عليها . وربما يجدر بنا أن نؤشر هنا إلى بعض أنواع المحسوبية والتي تسبب أضراراً أكثر مما يسببه الاختلاس المباشر من مال الدولة . فعلى سبيل المثال استخدام مسؤول أو موظف سلطته لتعيين مرشح خارج إجراءات التنافس على الوظيفة أو استخدام مسؤول أو موظف سلطته لإعطاء معلومات تضر بالتنافس التجاري في القطاع الخاص أو مساعدة موظف لعميل لتفادي رسم أو ضريبة، كل هذه أوجه شديدة الإضرار بالحق العام والحقوق الخاصة، ولابد من تشريع قوانين لإدخالها في طائلة الجرائم ولا يُكتفى فيها بالجزاءات الإدارية.
ومما لا شك فيه أن توسيع دائرة التجريم لمخالفات الفساد يقتضي إصلاحاً واسعاً في الأجهزة العدلية من حيث تعزيز قدراتها المهنية ومكنتها في فصل النزاعات في وقت وجيز وتسهيل وصول أصحاب الحقوق لأجهزة التقاضي. ولا شك عندي أن القضاء يضطلع بدور مهم للغاية في محاربة الفساد وفي تعزيز النزاهة وفي تشجيع الاستثمار والتنمية. وقد تكون ملاحظتي غير دقيقة، ولكن الاعتقاد الغالب لدي أن دربة القضاء لدينا في الأمور الاقتصادية والتجارية محدودة . وتحتاج الى جهود كبيرة لمواءمهتا مع تحديات النهوض الاقتصادي . وفي هذا الصدد فإن تعزيز استقلال القضاء بوصفه موسسة سيادية وضمان عدم وصول أي تأثير من أية جهة خارج المؤسسة إليه يظل أمراً ضرورياً للغاية. واستقلال القضاء بصورة صارمة عن السلطتين التنفيذية والتشريعية هو الذي أملى نظرية فصل السلطات ثم جرى السماح بتليين المواقف إزاء العلاقة تمييزاً بين السلطتين التنفيذية والتشريعية . بيد أن القضاء لابد له من الاستقلالية التامة عن تأثير السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية ذلك أنه في المجتمع الناهض اقتصادياً فإن كثيراً من قضايا الأفراد تكون ضد مؤسسات الدولة . وكثيراً ما يتدخل نافذون في تلك المؤسسات لكسب القضايا خارج قاعات المحاكم. الى جانب الاستقلال المؤسسى للقضاء لابد من استقلال القاضي فيما يصدره من أحكام . فلا يتدخل أحد في التأثير على القاضي حتى يرفع الأمر إلى دائرة الاستئناف ثم دائرة المحكمة العليا . ولما كانت المحكمة العليا هى موضع الفصل الأخير فإن كثيراً من الدول تعنى بالاختيار لهذا المستوى . وذلك بمشاركة جميع السلطات في الاختيار، فالمفوضية القضائية ترشح الأسماء على أساس الترقي الطبيعي القائم على الجدارة ويرفع الأمر لرئاسة الجمهورية التي ترشح الأسماء ممن تتوفر فيهم جميع صفات الأهلية . ثم يذهب الشأن الى لجنة مختصة بهذا الأمر في البرلمان لتأكيد الاختيار. ولما كان الأمر كذلك فلابد من تحديد عدد قضاة المحكمة الوطنية الأعلى The Supreme Court وتوزيع قضاة المحكمة العليا إلى دوائر ولائية، وقد كان ذلك هو مقتضى الدستور الانتقالي ولكن الأمر تأجل أو لربما جرت تسمية المحكمة العليا بقضاتها السبعين أو نحو ذلك محكمة وطنية عليا.
منظمات المجتمع المدني ومكافحة الفساد
هنالك حاجة ملحة لتنظيم جمعيات المجتمع المدني وشركات القطاع الخاص بما يوائم مكافحة الفساد وتعزيز النزاهة. فالقطاع الخاص لابد أن يحمى من الفساد بالتشريعات المناسبة . يدخل في ذلك الحؤول دون تنفذ كبار رجال الأعمال في أجهزة اتخاذ القرار الاقتصادي ولا بأس من الاستئناس برؤاهم ونصائحهم، ولكن الفرق واضح بين الرأي والقدرة على اتخاذ القرار . وأوضح صور هذا النوع من الفساد احتلال لجنة السياسات في مصر حسنى مبارك بواسطة رجال الأعمال وسيطرتهم على الوزارات الاقتصادية جميعاً وقد كانت ثمرة ذلك واضحة للعيان . كذلك لابد من تشريعات تمنع عمل كبار موظفي الدولة المختصين بإصدار القرارات المؤثرة على التنافس التجاري من العمل بالقطاع الخاص إلا بعد انقضاء فترة كافية من تركهم الوظيفة العامة.
أما بخصوص جمعيات المجتمع المدني ودورها في تعزيز النزاهة فإن أهمية ذلك لا تحتاج إلى نظر، ولكن أول الواجبات هو تحسين التشريعات لتعزيز النزاهة داخل تلك الجمعيات نفسها . وضمان عدم استغلالها لغير النفع العام . وضمان عدم تسييسها وتحويلها إلى أحزاب بواجهات مدنية . بيد أن الدولة يجب أن تسمح بتشكيل جمعيات لمناهضة الفساد وتعزيز النزاهة في منظمات المجتمع المدني. لأنها إن لم تفعل لحدث ما يحدث الآن بحيث تنشئ بعض الجهات السياسية منظمات غير معترف بها من قبل الدولة ولكنها تجد القبول لدى منظمات خارجية أخرى لها تحيزاتها وأجندتها الخاصة. ويكفي مراجعة ما تصدره بعض المنظمات الدولية بشأن السودان معتمداً على تقارير مزورة بالكامل. وعند الاحتجاج تدعي تلك المنظمات بأنها لا تعتمد على التقارير الرسمية ولا تجد جهات مستقلة لموافاتها بالتقارير . وليس ذلك لها بعذر ففي الشأن الاقتصادي هنالك العديد من المصادر المستقلة والنزيهة التي تأبى تلك المنظمات مراجعتها. بيد أننا لسنا بصدد ما يزوَّر حول السودان تحت إشراف مشروع “عدم الاستثمار في السودان” فلربما نتطرق لهذا في مقالات أخرى ولكن المراد هنا أن تعمل الحكومة على قيام منظمات مدنية مستقلة وتسعى الى تمكينها للحصول على المعلومات وتتخذها ظهيراً مهماً في مناهضة الفساد.

أمين حسن عمر – الصيحة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.