متى يفهم المؤتمر الوطني؟!

من أسوأ ما يُبْتَلى به شعبٌ أن يتسلّط عليه حزبٌ يختطف الدولة ويُنصِّب نفسه ممثلاً وحيداً للضمير الوطني وقَيِّماً، دون غيره، على إدارة الحاضر وصياغة المستقبل .. إنّ حزباً كهذا يسجن نفسه في حلقة مغلقة من الزيف والأوهام لا يسمع فيها غير صدى صوته الذي يرتدُّ إليه من مؤسسات الزور والجور التي يصنعها .. وليست هناك من نتيجة لهذا الوضع سوى أن يكون الحزب أسيراً لنهج الإقصاء وطغيان المصالح الذاتية الضيقة وعاجزاً عن توجيه بصره إلى المستقبل وقبل ذلك إلى تحديات الحاضر، لا يتعلم من درسٍ أو يفهم من تجربة، ومهما تراءت أمامه علائم العجز الفشل لا يقابلها بغير المكابرة والإنكار حتى تدهمه لحظة الحقيقة بعد فوات الأوان.
“الآن فهمتكم”، تلك هي العبارة الشهيرة التي أطلقها حزب التجمع الدستوري الديموقراطي التونسي على لسان رئيسه زين العابدين بن علي، قبل إعلان سقوط النظام بساعات .. ولا تُذْكَر تلك العبارة، إلا واستدعت معها عبارةً أخرى رددها أحد المواطنين التونسيين – وهو يمسح بيده على رأسه الأشيب – بعد انتصار الثورة التونسية ورحيل النظام: “لقد هرمنا في انتظار هذه اللحظة التاريخية”.
العبارتان تختصران جدلية الاستبداد والحرية في كل زمانٍ ومكان .. فثمة نظم مستبدة تعاني من عسر الفهم وتأخره، أو تأخيره، مقابل شعوبٍ تقاوم وتتبدد أعمار الملايين من أفرادها في انتظار طلوع فجر الحرية .. وإذا كان اعتراف ذلك المواطن التونسي – بأنه هرم وخَضَب الشيب رأسه وهو ينتظر اللحظة التاريخية – مفهوماً، فإنّ ما يحتاج للدراسة هو ذلك الفهم المتأخر للنظم المستبدة، بعد تضييعها لفرصٍ لا حصر لها للاستدراك وتجنب السقوط .. ولعل السبب الأهم في عسر الفهم وتأخره هو تغافل هذه النظم عن رؤية الواقع وإفراطها في ادعاء المعصومية واحتكار الحقيقة، وبالتالي إعطاء نفسها حق القوامة على الشعب باعتباره لم يبلغ سن الرشد وأنّ نموه توقف دون هذه السن! .. وأي نظامٍ حكم مستبد هو في الغالب تحالف سلطة ومال يضم خليطاً من فئات قليلة تستقوي بأدوات القهر لإقصاء الآخرين، والقاسم المشترك بينها جميعاً هو احتراف التضليل وتزيين الخطايا، ولا تنجو ذواتهم من ذلك التضليل الذي يفضي بالضرورة لتعطيل بوصلة الفهم وتأخره إلى ما بعد فوات الأوان.
يميل بعض الناس للمباشرة وتفسير عبارة هرقلطيس الشهيرة “النّهر لا يُقْطَعُ مرتين”، بحقيقة أنّ مياه النهر في نقطةٍ ما تتغير باستمرار بسبب جريانها ولا تكون هي نفسها بين لحظةٍ وأخرى، بينما يرى آخرون أنّ النّهر الذي قصده الفيلسوف الإغريقي هو نهر الزمن الذي لا يتوقف عن المسير لدرجة أنّ كلمة “الآن” تصبح في ذمة الماضي بمجرد الإنتهاء من نطقها.
لقد استطاع إنقلاب “الإنقاذ” أن يستولي على مقاليد الحكم، غدراً وقسراً، ويستولد بأُنبوب الدولة حزباً سلطوياً حكم السودان بمشروعٍ معلولٍ بنوياً، خلّف تجربةً مريرةً تميزت بالتسلط وقمع الحريات وانتهت إلى عجزٍ تام وفشلٍ بائنٍ في كلِّ مناحي الحياة. ومع ذلك ها هم يُمَنُّون أنفسهم بعبور النهر مرةً أخرى ويعدُّون العدة للعبث بالدستور لمواصلة مسيرة العجز والفشل .. يواصلون حرفة التضليل بوعود الإصلاح والنهضة، بينما يتمحور صراعهم الداخلي حول السلطة ومواقعها ومنافعها، مع إدبارٍ كاملٍ عن المحكومين وبؤس واقعهم ومعاناتهم .. ربما لأنهم يتصورون أنّ الزمن قد توقف عندهم أو أنّ نهر الحراك الإنساني في السودان قد تحوّل إلى مستنقعٍ راكد جراء ما وضعوا في مجراهُ من عوائق وما راكمته فيه تجربة حكمهم الطويلة من طينٍ وطحالبٍ وسرخسيات، لكنهم إنما يخدعون أنفسهم بهذا التصور البائس.
تُرى كم من الشقاء والعناء والدموع والدماء يتعين على السودانيين أن يدفعوا لأهل المؤتمر الوطني كي يفهموا؟!
أيّاً كانت الإجابة، فقد وفّر تاريخ السياسة والحكم العديد من الذرائع لمن أرادوا تضليل أنفسهم وخداعها، لكنه انتهى بهم إلى مصائر فاجعة لم تنفع معها محاولات الإستدراك في اللحظات الأخيرة، مثلما حدث لنظام بن علي في تونس، والذي لم تسعفه عبارته الشهيرة “الآن فهمتكم” وتلاشتْ وسط هدير الجموع التي أرادت الحياة، فهزمت الليل وكسرت القيد وراحت تنتزع حقّها في الحرية والعدالة وسائر شروط الوجود الكريم.
المصدر : سودان تربيون

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.