جيب لي معاك عريس.. أيام في الخرطوم الثانوية القديمة

حيا الله الخرطوم الثانوية القديمة وأيام الخرطوم الثانوية القديمة علمنا فيها الطلاب ما استطعنا وبذلنا الجهد والعرق وتعلمنا فيها اضعاف ذلك. التحقت بها وانا في بواكير الشباب ممتلئ بالامل ومفعم بالحياة اتطلع للمستقبل بشوق ولهفة. كانت العاصمة منتصف السبعينات تضج بالحياة وتزدحم بالحركة ليلها كنهارها لا كهرباء مقطوعة ولا حفلات ممنوعة فكان الناس يسهرون حتى الصباح في الأندية او المطاعم التي تنتشر كحبات اللؤلؤ على جيد حسناء. وفرت لنا المدرسة السكن المنفصل وكنا أربعة من المدرسين من خارج العاصمة مزود بالثلاجة والتليفزيون وكراسي الجلوس وكانت تزودنا بوجبة الغداء مجانا فقد كان فيها سكن داخلي للطلاب القادمين من حوافي وأطراف العاصمة وبعد ذلك صرنا أصدقاء احباء مثل الأشقاء تماما. كان المعلمون خيارا من خيار وكان الطلاب من أبناء الطبقة العليا آباؤهم ممن تدوي أسماؤهم في سماء السودان من الوزراء والكبراء والمسؤولين العظام في الدولة. كان على رأس الادارة آنذاك -أي الناظر- رجل عرف بالقوة والصرامة وقد تعلمت منه اول درس في حياتي العملية.

ذات يوم كان يزور السودان رئيس لدولة صديقة وقد أصدرت الوزارة تعليمات بإيقاف الدراسة بعد فسحة الإفطار حتى يذهب الطلاب لاستقبال الضيف في طريقه للقصر الجمهوري فيصطفون على طول شارع الجامعة يهتفون للضيف الزائر ترحيبا بزيارته للسودان. جلسنا نحن مجموعة من المعلمين في مكتب (شعبة اللغة الانجليزية) وقد خلت المدرسة من الطلاب ومعظم العاملين للسوالف كما يقول اخوتنا الخليجيون ومن مقعدي ذلك كنت الاحظ ان مكتب المدير ظل مفتوحا على الدوام ولكنني لم اعر الأمر أدنى اهتمام وعندما حان وقت نهاية الدوام رأيت المدير يخرج من المكتب وهو يمشي بخطوات عسكرية اشتهر بها سلم علينا ثم واصل طريقه للمنزل الذي كان يجاور المدرسة من الجهة الغربية. وجه الغرابة هنا هو أن ذلك كان آخر يوم في حياته العملية وسوف يتقاعد مباشرة من اليوم التالي. كان هذا اول درس تعلمته في المدرسة وهو الانضباط التام بغض النظر عن ظرف الزمان والمكان فبرغم أن المدرسة كانت شبه خالية وكان ذلك آخر يوم عمل بالنسبة له فقد ظل محافظا على النظام والانضباط التام.

الدرس الثاني تعلمته ممن خلفه في الإدارة. كان يودني بصورة خاصة ويرتاح جدا لمجالستي برغم انني كنت حديث عهد بالمدرسة والتدريس وكان يمزح معي كثيرا ويروي النكات ويطلق الضحكات المجلجلة والغريب انها كلها نكات جديدة لنج فلم أسمعه يكرر نكتة مرتين أبدا. اقول برغم هذا الود والتآلف فإن يومي يكون (اسود من الخروب) أن تجاوزت الحدود في الهظار والتنكيت وحاولت أن اخلط بين العام والخاص. كان يرسل لي في اليوم التالي امرا بتجهيز إحصائية بعدد كتب اللغة الانجليزية بالأسماء والإعداد فانحشر في المخزن وسط اكداس الكتب المبعثرة التي يغطيها الغبار فانفخ بملئ فمي حتى ازيل ما علق بها من تراب وانا العن اليوم الذي تجاسرت فيه وعبرت الخط الاحمر. وقد كان هذا درسا بليغا لي وانا في بداية حياتي العملية فالعمل عمل مهما كانت علاقتك بالرئيس فلا يشفع لك شافع إلا اداؤك فقط.

ومن الطرائف التي اذكرها هي انني صحوت ذات يوم منتصف الليل وذهبت للحمام تفاجأت وانا اضيء المكان بشخص مفتول العضلات ذي جسم رياضي يتكور في الزاوية مستغرقا في النوم يعزف الحانا شجية من الشخير والزفير. تشجعت وايقظته فقام متكاسلا وهو يتثاءب ثم حكى لي قصة مؤلمة عن افتقاده للمأوى وانه ينام (قدر ظروفك) في اقرب مكان مناسب او غير مناسب. تأثرت جدا لهذا الشاب المنكود الذي رمت به الظروف هذه (الرمية السودة) فادخلت يدي في جيبي وأخرجت كل ما فيه من نقود وكان جنيها كاملا وانا اشكر الله أن رزقني بمن احسن اليه وسط هذا الليل البهيم وفي ذلك طبعا أجر عظيم. راقبت الشاب وهو يتجه غربا عابرا خط السكة حديد الذي يمر غرب المدرسة. رجعت للغرفة وانا في غاية السعادة والسرور والحبور ونمت هانئا كالاطفال جراء ما عملته من خير سيكون جزاؤه عند الله كبيرا. في الصباح تفاجأ الجميع وانا اولهم أن لصا قد سطا تحت جنح الظلام وسرق كل المواسير من الحمامات وتركها قاعا صفصفا ولكنه بضمير حي ومسؤولية وطنية قام بقفل (البلف) الرئيسي حتى لا تغرق المدرسة كلها فعرفت انني كنت ضحية لص محتال استطاع أن يخدعني ويسرق كل مواسير الحمامات ومعها واحد جنيه من الأستاذ (فوق البيعة) وقد قلت في نفسي لو أن هذا اللص الظريف قد استخدم مواهبه بطريقة صحيحة لصار ممثلا مشهورا يشار إليه بالبنان.

كان هنالك معلم ممتاز من افضل المعلمين ولكنه دائما سرحان شارد الذهن. تغدى معنا مرة ثم أخرج فرشاة الأسنان ليستاك. خطف صباعا من الشباك ووضع منه ما تيسر على الفرشاة وبعد أن استاك وغسل فمه غادرنا بالسلامة بعد حسن الإقامة. اكتشفت بعد أن رحل أن الأستاذ العزيز قد استخدم مرهم طارد للبعوض بدل المعجون فانخلعت وطار قلبي خوفا على الأستاذ فقد كان هنالك تحذير واضح مكتوب بالعربية والإنجليزية أن هذا المرهم سام وضار ويجب ألا يدخل فم الإنسان باي صورة من الصور. انتظرت حتى الصباح وانا اتقلب في السرير وقد جافت عيناي المنام شفقة على مصير المعلم المسكين. في الصباح تفاجأت بالمعلم وقد أتى في صحة كاملة ترتسم على محياه علامات السعادة والعافية فعرفت أن هذا المعلم مصفح ضد السموم لا يضره منها شيء.

معلم آخر حدث له حادث عجيب كان منبطحا في الحوش يستمتع بمنظر النجوم والقمر الساطع ينتظر العشاء وكانت الزوجة بجانبه تدنكل الفول المصلح وأثناء تكسير الجبنة طارت منها قطعة صغيرة وسقطت على العين اليمنى وفي وسطها تماما لحظة أن فتحها يتفقد الفول الجميل من يد الزوجة الجميلة وقد اعتبرت أن ذلك من سوء حظ زميلنا وبخته المايل فمن كل الحوش الكبير لم تجد قطعة الجبنة مهبطا إلا وسط عين صديقنا العزير. طبعا التهبت العين وقضى صاحبنا اياما في المراهم والأدوية حتى شفاه الله.

كانت قد انتشرت في تلك الفترة موضة الشعر الطويل قادمة الينا من أوروبا تقليدا للهيبيز والبيتلز وقد انتشرت تلك الموضة انتشار النار في الهشيم بين أبناء الخراتيم خاصة. أصدر ناظر المدرسة تعليمات صارمة بعدم السماح لاي طالب لا يلتزم بنظام المدرسة ويرسل شعره مدرارا كالعهن المنفوش. وجعل تنفيذ ذلك مناوبة بين المعلمين يقف كل يوم معلم في المدخل يمنع من لا يلتزم بذلك النظام من دخول المدرسة. شاء حظي المنكود أن كانت مناوبتي ذات يوم واول من جاء كان طالبا والده كان وزيرا مقربا جدا من النميري فكان لزاما علي أن اطبق القانون وانا اضع يدي على قلبي خوفا من عواقب طرد ابن الوزير الكبير. استخرت الله وطبقت النظام فرجع الطالب من الباب وذهب. انشغلت ببداية اليوم الدراسي وغرقت في العمل. تفاجأت في فسحة الفطور والطالب يدخل على بالحلاقة الجميلة بعد أن ازال الشعر الطويل.

 

سألته في استغراب كيف استطاع فعل ذلك في هذا الزمن الوجيز فروى لي القصة التالية.(ذهبت للوالد في مكتبه بالاتحاد الاشتراكي وكان قريبا من المدرسة في شارع الجامعة وعندما دخلت عليه وجدت معه الرئيس نميري فبادرني النميري بالسؤال عن سبب رجوعي من المدرسة في ذلك الوقت المبكر. اجبته قائلا ان المدرس قد طردني صرخ النميري لماذا يطردك المدرس؟ فقلت له انه طلب مني أن أذهب للمنزل ولا ارجع إلا بعد أن احلق شعري تماما. هنا انفرجت اسارير الرئيس وقال لي هذا معلم ممتاز ومربي فاضل بلغه تحياتي وقل له ان النميري يتمنى أن يكثر الله من امثالك. كنت استمع اليه وقلبي يكاد يقفز من بين ضلوعي وقد تلاحقت انفاسي واصطكت الركب. أسرعت نحو الزير و(قطعت) كوزين موية بعد أن جف حلقي وعطشت عطشا لم اعرفه في رمضان فقد كدت أن اقع في (شرك ام كيكي) وهو شرك يقبض السبيبه لان قصتي تطورت بسرعة ووصلت الرئيس رأسا ولو كنت قد تصرفت بطريقة مختلفة لهبت عاصفة من مكتب الرئيس لتقتلعني من المدرسة وقد تقذف بي خارج الوزارة كلها وكان هذا درسا تعلمت منه أن اطبق النظام ولا أجامل او اظلم احدا.
كان المعلمون آنذاك على رأس قائمة الوجاهة عند الحسان وكانت الفتيات يتغنين :
يا ماشي لي باريس
جيب لي معاك عريس
شرطا يكون لبيس
من هيئة التدريس
لذلك لم يكن مستغربا أن زميلي الذي يساكنني في الغرفة المجاورة كان دائما يدندن في سعادة وهو في طريقه للحمام :
اهم شيء الحمام
ونظافة الأجسام
والزول يكون بسام
واصلو الجمال اقسام
وكنت استغرب لهذه الكلمات العجيبة التي لم اسمع بها من قبل ولكنني علمت في ما بعد انها اغنية مشهورة راجت في زمان مضى فعجبت للشاعر الذي مع التزامه بآداب الإسلام في النظافة قد تنبأ بأن مرضا غريبا سيداهم الناس اسمه الكورونا وان من أهم طرق الوقاية منه هي النظافة الشخصية حمانا الله وإياكم من الكورونا وأبعدها عن كل حبيب وغريب.

  • أهدى هذا المقال لروح الزميل العزيز الأستاذ عبد الرحمن موسى ابو الذي عاش معنا تلك الأيام الجميلة ثم اختطفه الموت منا قبل فترة رحمه الله رحمة واسعة وغفر له.
  • القاهرة / العيلفون

هشام الخليفة
المصدر: صحيفة السوداني


انضم لقناة الواتسب


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.