قدح الميرم.. قصة عن كرم المرأة الدارفورية

رغم أهوال الحرب والمآسي الإنسانية التي حصدت أرواح أكثر من 300 ألف شخص خلال الأعوام السبعة عشر الماضية، ظلت منطقة دارفور بغرب السودان تزخر بتراث فريد تتجسد ملامحه في الكثير من العادات والتقاليد التي تعبر عن الأصالة، منها قدح الميرم.

وقدح الميرم عبارة عن طبق طعام المرأة الماهرة في الطبخ، وهو طبق من طعام محلي يصنع بمهارة وتحمله النساء على رؤوسهن لتقديمه للضيوف في المناسبات العامة والخاصة لإظهار كرم المرأة الدارفورية ومهارتها العالية في فن الطبخ والتي تعتبر واحدة من أهم المتطلبات التي تمنح بموجبها المرأة الدارفورية لقب “ميرم”.

مهارة وأصالة

يعكس “قدح الميرم” العلاقة القوية لإنسان دارفور مع بيئته، فهو عبارة عن طبق يصنع من جذع الأشجار ويزين ويعالج بطريقة تمنحه شكلا خارجيا جذابا يجعل من تناول الطعام فيه أمرا ممتعا للغاية.

أما بالنسبة للطعام الذي يحمل في “القدح” فله رمزية خاصة أيضا حيث يصنع في العادة من مواد محلية لكن بمهارة قلما تتوفر لدى المرأة غير الدارفورية التي تبدع في تشكيل الذرة والدخن واللحوم والخضروات الطبيعية التي تزخر بها المنطقة إثباتا لأنوثتها وقدرتها على إطعام الآخرين.

وفي المناسبات العامة والخاصة تعمل المرأة الدارفورية لساعات طويلة في إعداد الطعام المحلي الذي يكون عادة في شكل “عصيدة” من طحين الذرة أو الدخن توضع في “القدح” وتحاط بطبقة من الحساء المزين بالسمن البلدي ثم طبقة أخرى من مختلف أنواع اللحوم البيضاء والحمراء.

وبعد الانتهاء من إعداد الطبق العجيب تتجمع النساء لتحمل كل واحدة طبقها على رأسها ويضعنه أمام الضيوف بطريقة فلكلورية رائعة ومن ثم ينسحبن من المكان لترك الضيوف يستمتعون بوجبتهم الدسمة والتي تعبر عن مكانة الضيف لدى مضيفه.

وفي هذا السياق تؤكد الحاجة حليمة، وهي من “ميارم” دافور، حرص المرأة الدارفورية على الحفاظ على عاداتها وتقاليدها الراسخة على الرغم من تردي الأوضاع الاقتصادية في البلاد.

وتقول حليمة لموقع “سكاي نيوز عربية” إن الحرب وأهوالها لم تنسي نساء دارفور التمسك بعاداتهن والحفاظ على جودة الطعام وتقديمه بصورة لائقة وكمية كبيرة، مشددة على أنه ومهما حدث من تطور وتقدم وتحول إلا أن قدح الميرم يظل هو الطريقة المفضلة لإطعام الضيوف حتى الأجانب الذين يأتون من خارج السودان تعبيرا عن التقدير والاحترام.

أكثر من مجرد طبق

لا يقتصر الأمر فقط على إكرام الضيف، بل يمضي قدح الميرم إلى أبعد من ذلك حيث يسهم في الكثير من الجوانب الحياتية.

ومنذ عشرات السنين ظل “طبق الميرم” داعما لطلبة العلم وعابري السبيل حيث درجت النساء الدارفوريات على تقديم أقداحهن بشكل يومي للخلاوب والمدارس الواقعة في مناطقهن دعما للطلاب الذين يأتون من مناطق نائية مما عزز كثيرا من إسهام المرأة الدارفورية في الحياة العامة في البلاد.

ويقول أمين محمود المختص في إدارة النزاعات لموقع “سكاي نيوز عربية” إن مفهوم الميرَم في دارفور يقابل مفهوم الكنداكة في شمال السودان، فقد لعبت أدوارا تاريخية كبيرة من خلال “قدح الميرم” المقدم لإطعام طلاب العلم في الخلاوي والمدارس المنتشرة في العديد من مدن وقرى دارفور والتي تأوي طلابا يأتون من مناطق بعيدة.

رسول سلام

خلال الفترة الاخيرة تحول “قدح الميرم” من مجرد طبق طعام إلى رسول سلام حطم كل الحواجز القبلية والإثنية واسهم كثيرا في توحيد السودانيين، ونجح إلى حد بعيد فيما فشلت فيه البندقية وطاولات مفاوضات السلام.

ومثلها مثل كافة نساء السودان، تميزت المرأة الدارفورية بحضور قوي خلال ثورة ديسمبر 2018 التي أطاحت بنظام عمر البشير والمطلوب لدى محكمة الجنايات الدولية ومعه عدد من اعوانه بتهم تتعلق بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية وأعمال اغتصاب وانتهاكات عديدة طالت المرأة الدارفورية.

وكانت لحظة فارقة في سلسلة أحداث الثورة عندما دخلت المئات من الدارفوريات إلى ساحة اعتصام الثوار أمام القيادة العامة للجيش السوداني في الخرطوم وهن يحملن على رؤوسهن أكثر من ألف “قدح ميرم” في لوحة إنسانية وفنية رائعة للإسهام في إطعام الثوار تحت أنظار وسائل الإعلام العالمية.

وتكرر نفس المشهد خلال مفاوضات السلام السودانية في جوبا عاصمة جنوب السودان العام الماضي مما أسهم كثيرا في كسر حدة الجمود التي واجهت المفاوضات في بعض الفترات والتي انتهت بتوقيع اتفاق ضم عدد من الحركات الدارفورية ويأمل الكثيرون في أن يفضي عند استكمال جميع خطواته وضع حد نهائي لواحدة من أسوأ وأطول الحروب الأهلية التي شهدها العالم.

ويشير محمد عثمان الحلاج، الباحث في التراث السوداني، إلى أن تقديم “قدح الميرَم” في التجمعات العامة كاعتصام القيادة أو مفاوضات السلام في جوبا أو خلال اعتصامات أهالي نيرتيتي والجنينة في غرب السودان يشكل دلالة واضحة على إسهام المرأة الدارفورية في التغيير ووقف الحرب وصناعة السلام.

ويقول الحلاج لموقع “سكاي نيوز عربية” إن تقديم الطعام في العادات السودانية ليس فقط دلالة على حفاوة الاستقبال والترحيب، وإنما يشكل في الكثير من الأحيان واحدا من أدوات الدبلوماسية الشعبية التي تذوب الكثير من الحواجز والخلافات وبالتالي تقوية العلاقة مع الطرف الآخر.

ويتفق محمد المهدي بشرى، أستاذ الفولكلور في جامعة الخرطوم، مع ما ذهب إليه الحلاج، ويقول لموقع “سكاي نيوز عربية” إنه وعلى الرغم من تأثر الكثير من مناحي الحياة في السودان بالمتغيرات والأوضاع الاقتصادية إلا أن “قدح الميرم” ظل يواصل دوره في التعبير عن المحبة والسلام والتكافل الاجتماعي.

سكاي نيوز


انضم لقناة الواتسب


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.