تويتر وفيسبوك وغوغل وأمازون.. عمالقة التكنولوجيا على حافة الانهيار
تعثرت مؤخرا بعض أقوى الشركات وأكثرها ربحا وتوسُّعا في التاريخ الإنساني، والمرتبطة شكليا على الأقل بالابتكارات المتنوعة، إذ إنها تفشل فشلا ذريعا في خلق المستقبل الذي طالما صوَّرته في دعايتها. (شترستوك)
على ضوء إعلان إفلاس بنك وادي السيليكون قبل ساعات، يبدو أن معقل التكنولوجيا الأبرز عالميا يواجه أزمة مرتبطة بتحوُّلات الاقتصاد العالمي العنيفة في السنوات الأخيرة. بيد أن ما جرى بالأمس لم يكن أول أزمة يواجهها وادي السيليكون، فقد شهد العام الماضي موجة ضخمة من الإقالات في قطاع التكنولوجيا بالولايات المتحدة، لا سيما بين الشركات الكبرى مثل غوغل وفيسبوك وأمازون وأبل، وهو ما ناقشه “برايان مِرشانت”، الكاتب والمؤلف المتخصص في ملفات التكنولوجيا والبيئة والقضايا العُمَّالية، في تقرير نشرته مجلة “الأتلانتيك” الأميركية.
نص الترجمة:
مع الانهيار الداخلي المأساوي متعدد الأبعاد لشركة “ميتا”، وتحطم القطار السريع لشركة “تويتر” المملوكة لإيلون ماسك، والانتفاضة العُمَّالية المشهودة ضد “أمازون”؛ لم يكن العام الماضي عاما كارثيا استثنائيا بالنسبة لأكبر شركات التكنولوجيا الأميركية فحسب، بل كان عام تصفية الحسابات كلها. إن عمالقة التكنولوجيا الذين شكَّلوا حياتنا على الإنترنت وفي الحياة الواقعية على مدار القرن الحادي والعشرين انتهى بهم المطاف إلى حائط صد، فقد شهدت كلٌّ من “أمازون” و”ألفابت” و”مايكروسوفت” و”ميتا” و”أبل” انخفاض قيمتها السوقية إلى حد الانهيار أحيانا، وقلَّص الكثير منها قوته العاملة، حيث خسر 120 ألف موظف على الأقل وظيفته العام الماضي. لقد تحطمت إذن أمام أعيننا أسطورة المؤسس العبقري، التي حالت لزمن طويل دون توجيه انتقادات وفيرة إلى العديد من هؤلاء العمالقة.
إن هذه الشركات التي انطلقت بوعود ربط العالم بعضه ببعض، والتفكير على نحو مختلف، وإتاحة المعلومات للجميع، وتحقيق الديمقراطية التكنولوجية، قد استغرقت معظم سنوات العقد الماضي في اتخاذ الخطوات ذاتها التي اتخذتها الشركات الكبرى على مر التاريخ سعيا للنمو على نحو أكبر، مثل تفضيل الربح على الأمان، والتوسُّع سوقيا على حساب نزاهة المنتجات والخدمات التي تقدمها، وزيادة العائد المالي على حساب الابتكار. بيد أنها اتخذت تلك الخطوات على نطاق أوسع بكثير، وبوتيرة أسرع، وبشكل أكثر تأثيرا. إن وادي السيليكون، الذي تحكمه الآن الشركات الاحتكارية، وتشوبه علاقات عمل استغلالية، ويعتمد اعتمادا مُفرطا على العمالة غير المستقرة، يبدو مُنطلِقا بسرعة في طريق مسدود.
يمكن للجميع “استشعار” ما يجري هذه الأيام في وادي السيليكون من ثقل الركود المتراكم في التقنيات التي يصادفها معظمنا يوميا.
يمكن للجميع “استشعار” ما يجري هذه الأيام في وادي السيليكون من ثقل الركود المتراكم في التقنيات التي يصادفها معظمنا يوميا. (شترستوك)
لقد تعثرت مؤخرا بعض أقوى الشركات وأكثرها ربحا وتوسُّعا في التاريخ الإنساني، والمرتبطة شكليا على الأقل بالابتكارات المتنوعة، إذ إنها تفشل فشلا ذريعا في خلق المستقبل الذي طالما صوَّرته في دعايتها، أو حتى الحفاظ على العوالم التي استطاعت خلقها بالفعل. وبعد وصولها إلى ذلك الحجم الهائل، فإنها لم تعد قادرة أو راغبة في إدارة المجتمعات الرقمية التي بنتها. وتقف هذه الشركات مشلولة أمام تطوير منتجاتها، كما أنها خفَّضت أنشطتها لتقتصر على الممارسات الاحتكارية مثل تقاضي الأموال عن الاشتراكات، وتقليد أو شراء صغار المنافسين. نتيجة لذلك، يبدو أن تحقيقات قضائية لمكافحة الاحتكار تلوح في الأفق، إذ إن سياسات شركات وادي السيليكون الكُبرى لم تعد تُرضي أحدا، بل إن هناك إجماعا على أن كراهية كبرى شركات التكنولوجيا باتت فعليا واحدة من القضايا المُتفَق عليها بين الحزبين الديمقراطي والجمهوري في الولايات المتحدة.
يمكن للجميع “استشعار” ما يجري هذه الأيام في وادي السيليكون من ثقل الركود المتراكم في التقنيات التي يصادفها معظمنا يوميا. لقد أصبحنا نُمرِّر الشاشة لأسفل كي نصادف الإعلان السخيف ذاته، ونُمعِن النظر في الأخبار السيئة ذاتها، من خلال شاشة الهاتف ذاته، وعبر شبكة التواصل الاجتماعي ذاتها، هذا هو المستقبل العاثر الذي لا فكاك منه. هناك إحساس بأننا وصلنا إلى مُنتهى الإنترنت، وما من أحد يرغب في تحمُّل المسؤولية وحيدا.
يترتب على كيفية استجابة هذه الشركات لتلك الحقبة الجديدة المضطربة تداعيات كبرى. ولذا، ففي عام 2020، انهال علينا خليط من مشروعات الواقع الافتراضي والمُعزَّز، ومفاهيم “الميتافيرس”. وليس غريبا أن عمالقة التقنية، الذين يُشرِفون على المجتمعات الإلكترونية اليوم بسِماتها غير الصحية، عازمون على فرضها علينا فرضا. وليس غريبا أيضا أن هناك استياء متزايدا بين بعض كبار رجال شركات التكنولوجيا الذين يعتقدون بأن رؤاهم تعرقلت، في حين بدأ آخرون في القفز من المركب برُمِّته، تاركين فراغا هائلا في البنية التحتية الإلكترونية مُتاحة للاستحواذ وإثارة المزيد من الارتباك في وادي السيليكون.
أزمة وسائل التواصل الاجتماعي
تُعَدُّ تويتر بالطبع المثال الأوضح على ورطة شركات التقنية، بداية من عرض إيلون ماسك المُبالَغ فيه لشراء الشركة نظير سعر سرعان ما تضاعف على خلفية “مزحة الحشيش” التي غرَّد بها على الموقع، وانتهاء بإدارته الكارثية أثناء توليه منصب المدير التنفيذي للشركة. كان ماسك وعبثه بتلك الشبكة الاجتماعية الملحمة التقنية الأكثر متابعة عام 2022. وبحلول نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، كان ماسك قد سرَّح نصف الموظفين، وأعاد تفعيل الحسابات المحظورة لبعض المستخدمين الأكثر إثارة للجدل على المنصة، ومنهم “أندرو أنغلِن” المنتمي إلى النازيين الجدد، والرئيس الأميركي السابق “دونالد ترامب”، كما استغل ماسك وضعه الجديد للترويج لمؤامرات اليمين المتطرف وإيقاف حسابات بعض الصحافيين. وقد عبَّر المُعلِنون عن رفضهم سياسات ماسك بإيقاف إنفاقهم وإعلاناتهم على تويتر، وغرَّد مستخدمون مشهورون تغريدات ودَّعوا فيها المنصة. والآن، في خضم الدعاوى المرفوعة، والانتهاكات المُحتملة لقوانين “لجنة التجارة الفيدرالية” الأميركية والاتحاد الأوروبي، وتقليص أعداد الموظفين، وأكوام الفواتير غير المُسدَّدة، فإن مستقبل تويتر محل شك كبير.
بيد أن هذه الدراما المستمرة لماسك وتويتر يجب ألا تطغى على الظروف التي سمحت لها بالانفجار من الأساس، إذ إن مسيرة التنمية في المنصة عانت من التعثُّر منذ وقت طويل، وواجهت مصاعب في ضم المزيد من المستخدمين، والحفاظ على خلو المنصة من المحتوى الضار والحسابات المُسيئة والمعلومات المُضللة. ويشيع استخدام تويتر بين فئات معينة من الناس، لا سيما الشخصيات الكوميدية والصحافيين والسياسيين، بيد أنها لم تُدِر الأرباح منذ عام 2019، وحتى حينذاك كان تحقيق الأرباح نادرا، إذ سجَّلت المنصة خسارة مالية في ثماني سنوات من ضمن السنوات العشر الأخيرة.
لطالما قدَّمت تويتر نفسها على أنها ميدان عام إلكتروني وضروري. وإن كان الحال كذلك، فلماذا تهافت مجلس إدارة تويتر لتسليم المنصة إلى مثل هذا الغول، الذي أحيانا ما أطلق العنان للتغريدات الضارة والخبيثة؟ إن الإجابة بسيطة وساخرة بالقدر ذاته، بحسب ما أورده “بريت تايلور”، الرئيس المستقل لمجلس إدارة تويتر في بيان صحافي: “إن المبلغ المعروض سيوفر نقدا استثنائيا، ونعتقد أن هذا هو أفضل مسار للمُضي قُدُما بالنسبة لأصحاب الأسهم في تويتر”. لقد أدرك أصحاب المال أمارات الخطر، وظفروا بما استطاعوا من المنصة في لحظاتها الحرِجة، فقد علموا حقيقة الفوضى التي كانت تعيشها شركة تويتر حينئذ، ولربما انتابهم الشعور، الذي ينتاب كثيرا منا، بأن عصر التواصل الاجتماعي لعله شارف على نهايته بالكُليَّة.
لقد عانت شركة تويتر من الخلل منذ وقت طويل. ففي أغسطس/آب الماضي، قدَّم “بيتر زاتكو”، رئيس أمن المعلومات السابق في المنصة، شكوى للكشف عن الفساد زعم فيها وجود نقاط ضعف كبرى في الشركة، واصفا الثقافة الأمنية بالتراخي إلى حد أنه يمكن لأي موظف في الشركة في أي وقت الوصول إلى حساب عضو بمجلس الشيوخ الأميركي دون رقابة تُذكَر. كما زعم زاتكو أن عملاء الاستخبارات الأجنبية يمكنهم اختراق الصفوف الداخلية لتويتر بكل سهولة، وأنهم اخترقوها بالفعل. وألقى زاتكو باللوم على المسؤولين التنفيذيين في تويتر لإعطائهم الأولوية للربح على الأمان، وبحسب قوله فإن “المخاطر والأزمات هي التي أدارت دفة الشركة، بدلا من أن تتحكم الشركة فيها”. وقد أعادت هذه التسريبات إلى الأذهان مثيلتها التي دمَّرت “فيسبوك” في العام السابق، حينما زعمت “فرانسيس هوغن” أن منصة التواصل الاجتماعي الأكبر في العالم سمحت لأنظمة سياسية باستخدام فيسبوك لتأجيج العُنف العِرقي، علاوة على سماحها بخروقات أخلاقية أخرى.
إن شبكات التواصل الاجتماعي الكبرى مُتعثرة، والحافز لانتشالها من عثرتها ضئيل، حيث يتطلَّب ذلك الاستثمار السخي في مشرفي المحتوى، وفي تمكين فرق الثقة والأمان، وفي تجريم المحتوى الخبيث سريع الانتشار الذي يجلب زيارات ضخمة للمنصات. ولكن بدلا من ذلك، فضَّلت تويتر تحت إدارة ماسك عدم تطبيق أي سياسة لمواجهة المعلومات المُضللة بشأن وباء “كوفيد-19″، كما وفَّر نظام التحقُّق في فيسبوك غطاء للمستخدمين رفيعي المستوى يحميهم من رقابة المحتوى. وبدلا من وضع سياسات صارمة وتطبيقها لمعالجة مشكلة المحتوى الضار والمضايقات وتعزيز أمن المستخدمين؛ اختارت إدارات هذه الشبكات تجاهل المشكلات من الأساس. أما “جاك دورسي”، مؤسس تويتر، فقد استقال من منصبه رئيسا تنفيذيا للشركة في خريف عام 2021، ثم غادر مجلس إدارة الشركة برمتها في ربيع العام الماضي.
في غضون ذلك، يبدو جليا أن “مارك زوكربيرغ”، المدير التنفيذي لشركة “ميتا”، قد خاب أمله إلى حد أنه قرر محاولة اختراع واقع جديد، وجرِّنا جميعا إلى هناك. مثلا، حينما عقدت “ميتا” مؤتمرها بعنوان “كونِّكت” (Connect) في أكتوبر/تشرين الأول الماضي لاستعراض تقدمها في مشروع “ميتافيرس”، كان نجوم العرض عبارة عن “أرجُل”. وسرعان ما أصبح هذا المقطع وحده اختزالا كوميديا للفعالية كلها، إذ إن إنجاز “ميتا” الاستثنائي بعد عام كامل وإنفاق 15 مليار دولار في محاولة لبناء “الميتافيرس” هو أن تلك الوجوه التعبيرية الكارتونية غير واضحة المعالم قد أصبح لديها الآن أطراف غير واضحة المعالم أيضا. (وكانت السخرية اللاحقة حادة بعدما اتضح أن ميتا زَيَّفت حتى تلك الأرجُل التي ظهرت في العرض).
مع ذلك، فإن الصخب المصاحب للحدث حقَّق بالفعل ما أرادته الشركة وما صُمِّم من أجله “الميتافيرس” في المقام الأول: تشتيتنا عن حقيقة تباطؤ نمو مستخدمي “فيسبوك”، وعن أن المنصة تخسر مستخدمين لصالح “تيك توك”، وأنها غارقة في جدل حول إدارة المحتوى وتعريف ماهية المحتوى المُسيء والمقبول. بمرور الأيام، يتجلَّى أن طموحات “ميتافيرس” الخاصة بشركة فيسبوك ضربٌ من الخيال، ومحاولة من المدير التنفيذي المُحاصَر للهرب إلى عالم افتراضي ثلاثي الأبعاد يمكن أن يُغادر إليه تاركا وراءه مأساة النسخة المُمِلة ثنائية الأبعاد المُمثَّلة في موقع فيسبوك. لقد خسرت الشركة مئات المليارات من الدولارات من قيمتها العام الماضي، وسرَّحت أكثر من 11 ألف موظف أو ما يعادل 13% من طاقمها في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي. إن مواقع التواصل الاجتماعي في أفول، ومنها ما انتهى بالفعل أو يواجه مصيرا أسوأ، بيد أن التواصل الاجتماعي ليس وحده مَن يواجه الأزمة.
غوغل وأمازون وأبِل يصارعون للبقاء
في سبتمبر/أيلول الماضي، حينما عقدت “أبل” فعالية إطلاق نسخة آيفون السنوية، لم يُفاجأ كثيرون عندما وجدوا أن أحدث إصدارات الآيفون تشابهت إلى حد التطابق تقريبا مع الإصدارات السابقة. وقبل ذلك بأسابيع ظهرت تقارير تفيد بأن وزارة العدل الأميركية تنظر في رفع دعوى قضائية شاملة لمكافحة الاحتكار ضد عملاق التكنولوجيا “أبل” على خلفية ممارسات مُخِلَّة بقواعد المنافسة. ومع استقرار أرقام المبيعات الهائلة للآيفون، وتحوُّل أعمال الشركة بعيدا عن حيويتها السابقة (لم تُطلق الشركة منتجا جديدا من نوعه منذ إطلاقها سماعات “إيربود” عام 2016)؛ بدأت أبل في الاعتماد على الإعلانات.
لقد بدأت أبل تسمح للشركات بشراء مساحات إعلانية على واجهة متجرها. وفي أكتوبر/تشرين الأول الماضي، ظهرت تقارير تفيد بأن أبل كانت تنظر في إمكانية عرض الإعلانات على خدمة البث الخاصة بها “تي في بلس”. وبحسب ما قاله موقع “وايرد”: “لقد أصبحت أبل الآن شركة إعلانات”. وفي غضون ذلك، تمارس أبل ضغوطا هائلة على المُطوِّرين الذين يعتمدون على متجرها في نشر تطبيقاتهم كي تستخرج منهم أكبر قيمة رِبح ممكنة، ما جعلها تحصد أرباحا بهامش وصل إلى نسبة مذهلة هي 78% عام 2019.
بيد أن أبل ليست الوحيدة التي تمر بعثرات في نموها الاحتكاري. لا تزال “غوغل” أكبر شركة إعلانات في العالم، وتأتي 60% من أرباحها من الظهور في قوائم البحث بعد أن يبحث أحدهم على محرِّك غوغل عن منتج أو خدمة. كما أنها تحصد أرباحا من إعلانات منصة “يوتيوب” وخدمات الأعمال السحابية التي توفرها، وإن لم تتغيَّر قواعد هذه الخدمات منذ عقد مضى. ولكن مع ترسيخ عملها الاحتكاري، ساءت جودة منتج غوغل الأساسي الأشهر (محرك البحث)، وباتت صفحات نتائج البحث تعج بالإعلانات التي يجب على المستخدم المرور عليها قبل العثور على النتائج “الأصيلة” ذات الصلة بما يريده، حتى إن مستخدمي الإنترنت يبتهجون مؤخرا بمشاركة التقارير التي تفيد بتحوُّل صغار المستخدمين إلى منصتي “تيك توك” و”إنستغرام” بدلا من غوغل في البحث عن المواضيع المختلفة. في غضون ذلك، تواجه يوتيوب مأزق السياسات نفسه الذي تواجهه فيسبوك وتويتر، لا سيما ما يتعلق بمراقبة المحتوى، وقد فشلت مثلهم في معالجة هذه المشكلات على نحو فعَّال حتى اللحظة.
مثلها مثل أبل، شهد المنتج الأساسي لشركة غوغل استقرار عائداته منذ فترة، حتى باتت تصرفات الشركة أشبه بكيان احتكاري يبتلع شركات العالم، وأبعد عن نموذج شركة الابتكارات التقنية الذي تدّعيه. فقد استخدمت الشركة نفوذها لضمان سيطرتها على سوق الإعلانات الرقمية، وراحت إلى ما هو أبعد: السعي وراء الأرباح الهائلة عن طريق متجرها الخاص “غوغل بلاي”، ومن خلال توسيع خدماتها السحابية. والنتيجة أن غوغل أيضا تواجه تحرُّكات قضائية من وزارة العدل لمكافحة الاحتكار، ولا عجب في ذلك بالنظر لامتلاكها المنتجات الأكثر هيمنة عالميا: محرك البحث غوغل، ومتصفح الويب “كروم”، ونظام تشغيل الهواتف المحمولة “أندرويد”. إن سعي غوغل نحو مصادر جديدة للعائدات أفضى بها إلى حيث انتهى الكثير من عمالقة التكنولوجيا الذين كانوا مثاليين يوما ما: إلى وزارة الدفاع الأميركية. ففي ديسمبر/كانون الأول الماضي، أعلن البنتاغون تمديد عقد مع غوغل بقيمة 9 مليارات دولار للمساعدة في إنشاء “سحابة تكتيكية” بالتعاون مع “أوراكِل” و”أمازون” و”مايكروسوفت”.
لنأخذ في حسباننا أن أمازون تحصد جلَّ أرباحها من خدمات الأعمال السحابية التي تقدمها شركة “خدمات أمازون ويب” (AWS). ورغم حجم أمازون الهائل وبصمتها في التجارة الإلكترونية، فإن هامش أرباحها في تجارة التجزئة ضئيل، إذ سجَّلت الشركة خسارة في الربع الأخير من السنة الماضية. وتوسَّعت أمازون بضراوة على خلفية أرباح خدمات “AWS”، وانخفاض الأسعار للمستهلكين، بالإضافة إلى ما يرقى لكونه استغلالا مُمنهجا للعمالة. أما الآن، ومع انتفاض عُمَّالها بأعداد متزايدة في شتى أنحاء الولايات المتحدة وسعيهم لتنظيم صفوفهم نقابيا، فإن المعادلة التي اعتمدت عليها الشركة في خطر. وليس غريبا أن الشركة تعارض إنشاء “نقابة عُمَّال أمازون”، وتواصل الطعن في نتيجة التصويت التاريخي لعُمَّال مستودعات التخزين الخاصة بها، وهو تصويت لتكوين اتحاد عُمَّالي جرى في إبريل/نيسان الماضي في مستودع الشحن بمنطقة “ستاتن أيلاند” في مدينة نيويورك. وفي نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، واستجابة لشكوى “المجلس الوطني لعلاقات العمل”، طالبت محكمة فيدرالية أمازون بإيقاف ممارسات “طرد الموظفين بسبب ممارستهم لأنشطة يحميها القانون”.
بالإضافة إلى ذلك، وصلت بعض أشهر مشروعات أمازون ومنتجاتها إلى حائط صد في عام 2022. ففي مارس/آذار الماضي، علمنا أن النموذج الأوليَّ لمُسيَّرات أمازون لتوصيل الطلبات ظل يسقط باستمرار في اختبارات الطيران، حتى إن إحدى المُسيَّرات أشعلت حريقا في غابة بولاية أوريغون. أما “ألكسا”، مساعِد أمازون الافتراضي واسع الانتشار، فيبدو أنه يخسر مليارات الدولارات في كل رُبع من العام المالي، وهي خسارة دفعت موظف سابق لاعتباره “فشلا ذريعا”، علاوة على أن قِسم ألِكسا نال نصيب الأسد من موجة تسريح الشركة للآلاف من الموظفين خلال الخريف الماضي. (وقد أعلن المدير التنفيذي لأمازون أن هناك المزيد من قرارات التسريح هذا العام).
إلى جانب تأجير أمازون للمزيد من البنية التحتية للويب الخاصة بها، فإن طريقها لتوسيع أرباحها بشكل دائم بات يكمُن في فتح المزيد من مستودعات الشحن والتوزيع، وجعل الموظفين يبذلون أقصى ما عندهم حتى الرمق الأخير باستخدام أنظمة مُعقَّدة وعِقابية لمراقبة العُمال ومتابعة إنتاجيتهم، وهو طرح يقف في مواجهة الحركة العُمَّالية الصاعدة، وسوق التوظيف الصعب، بل ويقف أيضا في مواجهة رأي عام يدعم الاتجاه النقابي في أمازون بنِسَب تأييد ساحقة.
هل انتهى عصر الإنترنت الذي نعرفه؟
لا تقتصر الأزمة على شركات التكنولوجيا العملاقة، بل على النموذج الذي انبثقت عنه، وتُسنَد فيه ملايين الدولارات إلى أحد الحالمين كي يبتكر مستقبلا جديدا دون إشراف على ما يُنفِّذه على الأرض، حتى يصل إلى حائط صد في النهاية.
لا تقتصر الأزمة على شركات التكنولوجيا العملاقة، بل على النموذج الذي انبثقت عنه، وتُسنَد فيه ملايين الدولارات إلى أحد الحالمين كي يبتكر مستقبلا جديدا دون إشراف على ما يُنفِّذه على الأرض. (شترستوك)
أي نتيجة كئيبة تلك التي أسفر عنها الإنترنت بعد أن ساد الاعتقاد بوجود احتمالات لا حصر لها، ووُعِد المستخدمون بطيف لا نهائي من الأدوات للاستمتاع بالابتكار وبناء مجتمعات متماسكة وإيجاد أفضل ما يُعبِّر عنهم، حتى حين عجزوا عن فعل ذلك في حياتهم الواقعية. إن عمالقة التكنولوجيا، في الحقيقة، لم يستندوا في بناء نموذج الأعمال الخاص بهم إلى إتاحة أيٍّ من ذلك، رغم أن إعلاناتهم وشعاراتهم قالت العكس. وبدلا من ذلك، فإن طموحات الشركات لطالما ركَّزت على أن تصبح الأكبر: أن تضُمَّ أكبر عدد من المستخدمين، وتبيع أكبر عدد من الأجهزة، وتجعل أكبر عدد من الناس أَسْرى حدائقهم وعالمهم الاجتماعي المعزول. إن التعثُّر الذي نشهده حاليا نتيجة للنجاح الساحق لبعض أكثر شركات جيلنا طموحا، لكن دون امتلاكها أي رؤية تتجاوز تلك اللحظة، إذ ليس لديها أي اهتمام جاد بربط البُعدين المدني والاجتماعي ضمن مشروعاتها.
لذا من المنطقي أن يهيمن إيلون ماسك على الحديث الدائر حول قطاع التكنولوجيا، في اللحظة ذاتها التي ينقض فيها القطاع وعوده صراحة. لطالما قام وادي السيليكون على أسطورة المُؤسِّس البطل، ولم يظهر مَن اكتنفته هذه الأسطورة أكثر من ماسك، حتى أتى العام الماضي وشهد لحظة تحطُّم تلك الأسطورة. كان ماسك ذات يوم إلهاما حقيقيا جعله يُقارن بالشخصية السينمائية “الرجل الحديدي”، فقد آمن به كثيرون ليكون بطلا خارقا قادرا على ابتكار السيارات الكهربائية، وإرسال الصواريخ إلى المريخ، والإتيان بالمستقبل إلينا. أما الآن، فتحوَّل ماسك إلى عملاق التقنية العنيد الفاشل، فهو رجل غنيٌّ غِنى فاحشا وصاحب نفوذ يصعُب تصديقه، لكنه مع ذلك غارس بقدميه في الوحل، ويُضَخِّم من الفِتَن والأجواء المسمومة، ويقف على أعتاب الدخول في حالة ركود لا نهاية لها.
أو خُذ على سبيل المثال “إليزابيث هولمز”، التي وصل تقييم شركتها “ثيرانوس” إلى مليار دولار دون طرحها للاكتتاب في البورصة، وكانت دُرَّة وادي السيليكون، حتى حُكِم على هولمز في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي بالسجن لأكثر من 11 عاما بتهمة الاحتيال على المستثمرين فيما يتعلق بطبيعة التكنولوجيا التي تبتكرها ثيرانوس، ولم تعمل وفق ما ادَّعته الشركة. ثم هناك “سام بانكمان-فريد”، عبقري العُملات المُشفَّرة الشاب وبطل المُؤْثِرين الفاعلين الذي تبناه الحزب الديمقراطي، الذي وعد بأن يُدشِّن عصر العملات المشفرة بابتكاره بورصة “إف تي إكس” (FTX)، وبأن يعمل على تحسين حياة البشر في المستقبل في كل مكان. لقد انتهى به الحال في نهاية العام الماضي مُعلِنا إفلاسه، وخرج من الاحتجاز بكفالة، ووجهت إليه عدة اتهامات أخرى بالاحتيال. ولربما لن يسترد المستهلكون أبدا الأموال التي عهدوا بها إلى بورصة بانكمان-فريد المُنهارة. ولذا، قد لا تقتصر الأزمة على شركات التكنولوجيا العملاقة، بل على النموذج الذي انبثقت عنه، وتُسنَد فيه ملايين الدولارات إلى أحد الحالمين كي يبتكر مستقبلا جديدا دون إشراف على ما يُنفِّذه على الأرض، حتى يصل إلى حائط صد في النهاية.
ثمَّة مفارقة صاحبت نهاية العام الماضي هي أن أحدث اتجاه في هذا القطاع الصاخب هو الصور والنصوص المولَّدة آليا بواسطة الذكاء الاصطناعي. إن أدوات مثل “دال-إي” (DALL-E) و”تشات جي بي تي” (Chat GPT)، التي ابتكرتها شركة “أوبن إيه آي” (Open AI)، تستخدم شبكات عصبية ضخمة لتجميع مُخرجات تبدو جديدة من كميات ضخمة من البيانات القديمة التي مُحِيَت من الإنترنت وباتت تحت تصرُّف شركات التكنولوجيا العملاقة، وهي صور ومقالات ومنشورات أُعِدَّت لتغذية الجيل القادم من منصات الإنترنت الاحتكارية.
من الأمور الكاشفة معرفة مَن هم أكثر المتحمسين لمثل هذه الأدوات، إنهم مؤسسوها والمستثمرون فيها. بينما انتشرت بعض تلك الصور المُولَّدة اصطناعيا انتشارا كبيرا؛ صاحب ذلك في الواقع الكثير من الضجر والمعارضة من الفنانين والرسَّامين النشطين. ولا يهم كم هو عجيب هذا الأمر، إذ يبدو أنها مسألة وقت حتى يبدأ عمالقة هذه المنصات بشرائها أو استنساخها أو تحويلها إلى خدمة باشتراك باهظ سرعان ما ستضغط بشدة على مُبتكري هذه المواد الأصلية ومبرمجيها. ها هو وادي السيليكون يستعرض استعداده مرة أخرى ليأكل نفسه بنفسه.
يبدو منتجو الذكاء الاصطناعي في شركات التقنية العملاقة مُصرِّين، في ظل الإنترنت الذي أفسدناه نحن في نظرهم، على أن هناك “شيئا” ما جديدا يجب طرحه للجميع، بحيث يمكننا جميعا استخدامه. لكن عليهم ألا يثقوا في رأيهم ثقة بالغة إلى هذا الحد.
الجزيرة