الديون المتأخرة على الخرطوم تثير أزمة مع الصين
أزمة حقيقية بدأت في الظهور على السطح بين السودان والصين عنوانها العريض ديون بكين المتراكمة على الخرطوم والتي تجاوزت تواريخ سدادها لأكثر من مرة مع غياب النفط الضامن لتلك الديون الذي اعتمدت عليه الصين طيلة سنوات التعاون الاقتصادي مع سودان ما قبل انفصال جنوبه.
ووصف خبراء اقتصاد تراكم ديون الصين على السودان بسبب عدم التزام وزارة المالية السودانية بسداد مستحقات الشركات الصينية بالأزمة الشائكة.
وفي هذا السياق، يقول الخبير الاقتصادي الفاتح عثمان، لـ”العربي الجديد”، إن “الأزمة الاقتصادية والمالية التي تتعرض لها السودان وراء تأخر السداد”، مشيراً إلى أن بلاده لا تتلقى قروضا أو منحاً من مؤسسات التمويل الدولية في ظل الحصار التي تعاني منه خلال السنوات الماضية.
واعتبر عثمان أن الصين تتعامل مع السودان في تخط واضح للوضع الدولي عبر الشراكة في ظل حاجة الخرطوم لنفط الشركات الصينية لتلبية الاستهلاك المتزايد وتشغيل المصافي.
وأكد أن السودان التزم في البداية بالسداد نقدا للشركات، ولكن وزارة المالية لم تتعامل بجدية بعد ذلك.
وقال إن “عدم ترتيب الأولويات لدى الإدارة المالية كان سببا مباشرا لتلك المديونية، ما حال دون قيام الحكومة الصينية بتمويل مشروعات مختلفة في السودان”.
وأضاف أن “وزارة المالية ترفض السداد وتبرر ذلك بضرورة دخول الديون الصينية ضمن الإعفاءات التي يجب أن يمنحها المجتمع الدولي، كما ترى الحكومة عدم دخول ديون بكين ضمن منظومة الديون الكلية لأنها قيمة نفط استهلكه السودان”.
ويدفع الفاتح بجملة من الحلول يرى أنها يمكن أن تخفف من وتيرة الأزمة عبر توجيه جزء من الصادرات السودانية إلى الصين والاستفادة من رسوم نفط دولة جنوب السودان لسداد تلك المتأخرات، لأن السودان في حاجة إلى شراكة وفق جدولة تتوافق مع قدرته.
وبدأ تأخير السداد مع انفصال جنوب السودان وتكوين دولته المستقلة في عام 2011، إذ تحول النفط جنوبا والذي كان يشكل مصدر دخل رئيسي للسودان.
وضغطت بكين على الخرطوم قبيل الانفصال لسداد ديونها، كما أوقفت وجمدت جميع مشاريعها في الخرطوم كنوع من الضغط، وماطلت في استكمال اتفاقات تمويل مشاريع سودانية، بينها مطار الخرطوم الجديد، الذي كان مقرراً تمويله بمبلغ 700 مليون دولار.
وبلغت ديون السودان للصين نحو ملياري دولار، وفق ما أعلنته وزارة المالية، بينما تحدثت تقارير غير رسمية عن سبعة مليارات دولار.
وتردّدت أنباء عن مطالبة بكين لتسوية تلك الديون، لا سيما بعد فشل الخرطوم في سدادها أكثر من مرة عبر اقتراح صيني بمنحها أرضاً زراعية سودانية مقابل الديون، وهو أمر نفته الحكومة تماما، قاطعة بأن أرض البلاد ليست للبيع.
ويرى الخبير الاقتصادي هيثم فتحي، أن السودان أخل باتفاق تأجيل سداد مديونيته على الصين منذ عام 2012، ولكنه يعتبر أن استمرار الحرب بجنوب السودان أثر على تلك الاتفاقيات وحدّ من زيادة إنتاج النفط بدولتي السودان، ما جعل الصين تشكك في نوايا الخرطوم.
وقال فتحي لـ”العربي الجديد”: “بإمكان السودان التوصل إلى تفاهمات بشأن تلك الديون بطرح مشاريع زراعية تستثمر فيها الصين أو دخول الصين في مجال التعدين بالسودان، وخاصة أن الحكومة السودانية بدأت تطرح بعضاً من مربعات الذهب للشركات المستثمرة”.
وينتظر أن يصل الخرطوم منتصف شهر فبراير/شباط المقبل نائب الرئيس الصيني لبحث أزمة الديون وإيجاد حلول عاجلة لها.
وقال وزير الخارجية السوداني إبراهيم غندور، في تصريحات صحافية الاثنين الماضي، إن “هناك مشاورات تجري حاليا مع الصين بشأن ديونها على السودان البالغة ملياري دولار”.
ورأى غندور أن زيارة نائب رئيس الصين للبلاد ستمثل أرضية مهمة للتباحث حولها، نافيا تماما ما يتم تداوله حول منح بكين أراض مقابل الديون قائلاً “أراضي السودان ليست للبيع، وإنما متاحة للاستثمار للأشقاء والأصدقاء”.
ويرى مراقبون أن أزمة الديون الصينية تمثل تحولاً كبيراً في استراتيجية الصين تجاه الخرطوم وتغييراً لمواقفها، ما يعني تقليص مصالحها تجاه الخرطوم، ولكن في المقابل يرى آخرون أن الصين تشكل داعماً للحكومة السودانية في مواجهة العقوبات الأميركية، إلا أن الجميع اتفق على الآثار السلبية لأزمة تراكم الديون.
وقال محلل الاقتصاد السياسي خالد التجاني، لـ”العربي الجديد”، إن “وقف التمويل الصيني للمشروعات في السودان أحد التداعيات المباشرة لأزمة الديون بين البلدين والتي تحاول الحكومة في الخرطوم التقليل منه”.
ويرى التجاني أن خطوة بكين تمثل تحولاً في علاقة البلدين اللذين سبق أن أكدا أنها تقوم دون شروط، مضيفاً أن “قراءة بكين لمستقبل مصالحها مع السودان لم تأت ضمن الأولويات بعد أن تشدّدت في أمر الديون، الأمر الذي من شأنه أن يؤثر سلبا على الخرطوم التي كانت تمثل الصين الرئة الوحيدة والمتنفس لها في ظل الحصار الغربي”.
وتراجع حجم التبادل التجاري بين السودان والصين خلال السنوات التي أعقبت انفصال الجنوب بشكل كبير، حيث بلغت في 2015 مبلغ 3 مليارات دولار، بينما قدرت في مرحلة ما قبل انفصال الجنوب بنحو 27 مليار دولار، وفق تقديرات محللي اقتصاد.
وفي شهر مايو/ أيار الماضي، اعترف نائب وزير الخارجية الصيني تشانج مينج، لدى زيارته للخرطوم، بوجود عقبات وتحديات تواجه العلاقات الاقتصادية بين البلدين، رافضا الكشف عنها.
وفي وقت سابق، أعلن وزير النفط السوداني محمد زائد، توقف الاكتشافات النفطية والمشاريع المتصلة بالنفط التي تم التوقيع عليها مع الصين، وذلك لرفض بكين الاستمرار بعد انسحاب النفط جنوبا.
وبلغ حجم الاستثمار المباشر للشركات الصينية في السودان نحو 740 مليون دولار في مجالات مختلفة، كالنفط والمياه والطرق والجسور والكهرباء والاتصالات وغيرها.
ويعاني السودان من أزمة مالية خانقة منذ الانفصال عن الجنوب أدت إلى تهاوي سعر العملة المحلية في السوق السوداء وتفاقم الأزمات الاقتصادية والمعيشية.
وأعلن تقرير لصندوق النقد الدولي، صدر نهاية الشهر الماضي، أن السودان يعتبر بلداً هشاً بعد أن احتل المرتبة 159 من أصل 189 من حيث سهولة الحصول على الخدمات. وذكر أن “السودان لا يزال في وضع حرج، ومنخفض الدخل، ويواجه قيوداً محلية ودولية شديدة، واختلالات اقتصادية كبيرة”.
وأوضح أن هذا الوضع الاقتصادي جاء بعد صدمة انفصال دولة جنوب السودان، منذ خمس سنوات، وما ترتب على ذلك من خسارة الخرطوم لـ75% من صادراتها النفطية. وأشار التقرير إلى أن السودان تنطبق عليه شروط الحصول على تخفيف الأعباء والديون، بمقتضى المبادرة المعنية بالبلدان الفقيرة المثقلة بالديون (هيبيك).
وحسب التقرير، فإن ديون السودان الخارجية الكبيرة، تعوق إمكانية حصوله على التمويل الخارجي، وتشكل عبئاً ثقيلًا على آفاق التنمية. وقال التقرير “لا يزال الدين الخارجي السوداني مرتفعاً في نهاية العام 2015، فقد بلغ حجمه بالقيمة الإسمية حوالى 50 مليار دولار”.
العربي الجديد