مطلوب موظف بمواصفات سوبرمان!

ليست نكتة يا سادة لكنها حقيقة يعيشها الموظف العربي اليوم، أعني الغالبية،

ولنحدد النطاق أكثر، المواطن في الدول غير النفطية، أو بعض النفطية لكنها تعيش اضطرابات أمنية وتجاذبات سياسية، للمثال ليس الحصر نأخذ السودان، إذ الراتب الشهري به قد لا يتجاوز حاجز المائة دولار والمعيشة المتوسطة فيه تتجاوز سنويا أكثر من ألفي دولار، إذن الفرق ما بين كونك موظف تتقاضى سنوياً أقل من ألف دولار وتنفق على أسرتك وشخصك أكثر من ألفي دولار، الفرق هو أنك تتحول إلى سوبرمان موظف.

وأشدد على كلمة سوبر لأنك كموظف بائس في مثل هذه ظروف، يجب أن تملأ كل فترة استمارات، وتشارك في اجتماعات وورش تسبح بحمد وظيفتك وحمد مرؤوسيك وفشلك وفشلهم، وبؤسك ونعيمهم، الذي لا يقارن بكل رواتب موظفي المؤسسة مجتمعين. على الأقل إن كانت المؤسسات غير مبالية باستفتاء أراء موظفيها، فلا أقل من أن تصمت عن إبداء رأيك داخل أروقة المؤسسة وخارجها، فأسهل الكلمات الآن التي لا يتمناها الموظف هي كلمات من قبيلة مفصول!

بثت قناة الجزيرة قبل أربع سنوات عبر برنامجها الاقتصاد والناس حلقة عن بيئة العمل في الوطن العربي، ولاحظوا قبل أربع سنوات (خلصت حلقة 15/2/2014 من برنامج “الاقتصاد والناس” إلى وجود فرق شاسع بين بيئة العمل في المؤسسات الوظيفية العربية ونظيرتها الغربية، وكشفت عن أن مؤسسات العمل العربية خارج التصنيف العالمي لأفضل بيئات العمل. ولا توجد -بحسب البرنامج- دراسات علمية، حول مشاكل بيئة العمل العربية، وتظهر الأرقام أن 45 بالمائة من السودانيين يعملون مهناً جانبية، بينما 65 بالمائة من المصريين يعملون أكثر من مهنة).

الأمن الوظيفي حسب رأيي من أهم ركائز النجاح في أية مؤسسة كانت فلا توجد مؤسسة ناجحة ذات إنتاجية مرتفعة إلا وكان الأمن الوظيفي تحقق فيها ويتمتع به جميع موظفيها

الإشارة المحزنة التي أوردتها الجزيرة، أنه لا توجد دراسات علمية حول مشاكل العمل في الوطن العربي، وهذه إشارة لمدى السوء في تقدير أهمية العمل في أضابير الأكاديميات المتخصصة، ولكن إحساناً بالظن لنقل أنها موجودة لكنها مركونة في أرفف الكليات، لماذا؟ لأنه وببساطة شديدة، المؤسسات الربحية الرأسمالية الضخمة، لن تدعم بأي حال بحث تخرج مثالي، لطالب مجتهد ومثابر، يحثُ فيه الشركات، والمؤسسات العامة أو الخاصة، على دعم الموظف ورفع شأنه، وإهداءه الشعور بالأمن والاستقرار الوظيفي. فقط أمن وظيفي وليس معايير جودة وحوافز ومنح وتدريب وترفيه في مكان العمل، فهذه مصطلحات يكاد يحتكرها الغرب وحتى بالغرب مؤسسات على أصابع اليد.

الأمن الوظيفي حسب رأيي من أهم ركائز النجاح في أية مؤسسة كانت فلا توجد مؤسسة ناجحة ذات إنتاجية مرتفعة إلا وكان الأمن الوظيفي تحقق فيها ويتمتع به جميع موظفيها والعكس لا يأتي إلا بالعكس، إذ إن عدم تحقق الأمن الوظيفي وتدني درجته في المؤسسة دائماً ما ينعكس على إنتاجية تلك المؤسسة ونجاحها حتى وإن كانت تضم كفاءات عالية ومتخصصة في مجال عملها.

وتقوم فكرة الأمن الوظيفي على رفع درجة الطمأنينة لدى الموظف على مستقبله الوظيفي وإنهاء جميع صور القلق على ذلك المستقبل حيث أثبتت دراسة أمريكية أن القلق من فقدان العمل يترك آثاراً سلبية على صحة الفرد تعادل الأذى الذي تسببه أمراض مثل ارتفاع ضغط الدم وأضرار التدخين، موضحة أن الإجهاد الناجم عن فقدان الأمن الوظيفي يمكن أن يكون مميتاً ويسبب حالات مرضية قد تقصر العمر.

مما ينتج عنه استحواذ أعمال الوظيفة على كامل الطاقة الفكرية للموظف، وعدم انشغال تلك الطاقة بأية أمور أخرى تنتقص من الانشغال الأولى، وتشكل معوقات لنتائجه، فمع نقص الطاقة الفكرية الموجهة لأعمال الوظيفة، دائماً ما يكون لتلك المعوقات دور سلبي على متطلبات تلك الوظيفة، فمعها لا ترتفع درجة الإخلاص في العمل، ولا يتحقق معها تفاني الموظف في أداء مهماته الوظيفية، كما أنه معها غالباً ما يكون في حالة بحث عن جهات أخرى للعمل، مما يشكل منفذاً تتسرب منه الطاقات والكفاءات العاملة، ومن أهم مقوضات الأمن الوظيفي عدم اكتراث المسؤولين بالإنتاجية، والتقليل من أهمية العمل المنجز واستسهال عملية إنجازه، وعدم متابعة وإدراك واقع الانتاج الوظيفي وسبله، ومنها التداخل في الاختصاص والتقليل من قيمة المقترحات المتخصصة وإنتاج التحيز والمحاباة كحجب المكافأت والترقيات والتعينات عن مستحقيها وانصرافها إلى من لا يستحقها، أو إلى الأقل استحقاقاً، والمبالغة أو التحيز لأعمال بما لا تستدعيه من تقيمات، كما يعد من مقوضات الأمن الوظيفي، الخلل في النظام الإداري وعدم ثبات آليات واضحة ومحددة، انعدام المعايير العامة أو الخلل في تطبيقاتها. فالموظف في مثل تلك الأوضاع، ومهما بلغت درجة كفاءته وقدرته على متطلبات وظيفته، لن يتأتى له الوضع الوظيفي المناسب لإعمال تلك الكفاءة والقدرة لكي يحقق إنتاجية في عمله تتناسب مع علو كفاءاته وقدرته..) موقع بيت.

(وأجمع سعوديون -تحدثوا للبرنامج حول بيئة العمل- على أن هناك عوامل مساعدة على إعطاء إنتاجية أكبر في المؤسسات العربية منها التحفيز والأمن الوظيفي)، إذا كان هذا عن السعودية كواحدة من أضخم البلدان النفطية بالعالم، ما الحال في السودان أو سوريا؟! ليست هنالك درسات مبشرة حتى للإجابة على هذا السؤال، فالقدرة الشرائية مؤخراً بالسودان وصلت إلى لدرجة أن يشتري الموظف أضحية عيد الفداء بالتقسيط! إنه لمن المؤسف أن مفهوم الأمن الوظيفي حتى غير شائع في بلدان الدول النامية، والمؤسف أكثر هو أن المؤسسات تنتظر من موظفيها إنتاجاً عالياً وربحاً وفيراً. وهذا هو المثل الدارج (يصنع من الفسيخ شربات).

فالموظف يخرج من بيته الثامنة صباحاً، لدوام عمل ثماني ساعات رسمية، عليها عقوبات بالخصم وفق لائحة جزاءات إذاعنية مسبقة، يضطر الموظف لعمل إضافي آخر، ومؤخراً بات خيار الموظف السوداني بالعاصمة هو الانتقال للعمل في تطبيقات النقل الإلكتروني والتي في أقل من عامين وصلت لقرابة العشرين تطبيقاً، وقد وفرت فرص عمل بحسب مسؤول رفيع بوزارة النقل حوالي 40 ألف فرصة عمل. لكن حتى هذا الفرج مؤخراً بات مهدداً بالإيقاف، فنحن في دول مترهلة الكيانات متناحرة المؤسسات بشكل غريب ومثير للحزن وداعي للاكتئاب.

عالمنا الإسلامي لا تنقصه الكفاءات ولا المهارات، والإداريين المهرة الأفذاذ، بقدر ما تنقصه إرادة حقيقية للبناء. وإلى أن تتوفر هذه الإرادة لا تلوموا الغرب على برامج الهجرة التي يتيحها ليأخذ ما يناسبه من عقولنا وخبراتنا
غيتي إيميجز

في أحد استطلاعات الرأي لخص مشارك إحدى عوامل مآسي بيئات العمل بالقول: (يعتمد صاحب العمل على عدم الرؤية والاهتمام بالعمال، أو بالموظفين المتواجدين في المؤسسة أو المصنع أو الشركة الخاصة به ، ذلك يتسبب في وضع حواجز وخيمة بين صاحب العمل والموظفين والعمال ويتسبب في عرقلة العمل أو حتى العمل بدون رضى وهذا غير مربح وغير مفيد له كصاحب عمل ينتظر من العمال جهد عالي ومنتوج عالي) موقع بيت. فبالإضافة لأهمية الإحساس بالأمن في الوظيفة، هنالك المكايدات داخل بيئة عمل بها كل أصناف الناس، المتعلم والمثقف والجاهل والصالح ودون ذلك حتى أدنى المستويات. والمؤسف أن أكثر الناس اضطهادا في التوظيف بالوطن العربي هم أصحاب الكفاءات العالية، إذ لا تزال بيئات العمل تقوم على المحسوبية والحزبية بشكل مؤلم ومخز.

فالموظف العربي يعمل في مكتب ربما ثلاثة أمتار في مترين أو أقل مع عدد يبدأ من ثلاثة ويزيد، أضف لذلك سوء التهوية والتلوث والتضارب الإداري في القرارات وعدم معرفة حدود ما المطلوب منه كموظف، في تخصصه، فبعض المؤسسات تعمد لاستغلال الموظف بعبارة فضفاضة في عقد العمل (وأي مهام أخرى توكل إليه) وهي عبارة مخاتلة، مطاطة، تقبل الانفتاح والتفسير بصورة مبالغ فيها، يعمل الموظف العربي وهو مهدد بالمحسوبية، والنافذين في الإدارات العليا وذوي القربى لهم سطوة عليه لدرجة الابتزاز والتحرش اللفظي والجسدي أحياناً، وقد يُفصل تعسفياً لصالح أحد أقارب النافذين، وقد يُهمش ولا يُفصل لو كان فصله سيكون سبباً في دفع حقوق وفق قانون بلده، لا تستطيع المؤسسة الوفاء بها وليس احتراما للقانون بالطبع.

يعمل الموظف في أكثر من مهنة أخرى هامشية، وقد شاهد العالم على يوتيوب الموظف السوداني الذي قابله صاحب برنامج (قلبي اطمئن)، وذكر أنه موظف حكومي لكنه يعمل بغسل السيارات ليوفر قوت أولاده ومثله كثر لم تطالهم العدسة. بنفس الوقت هنالك من يعمل في أكثر من سبع وظائف بكامل مخصصاتها وحوافزها ولا أحد يسأل فضلاً عن أن يحاسب. بل هنالك من يولدون أمراءاً وشيوخاً تقتطع لهم مرتبات من حُر مال الرعية ثم يأتونك يحدثونك عن التطرف والإرهاب وأسبابه في بحوث ميتة عديمة الجدوى.

إن عالمنا الإسلامي لا تنقصه الكفاءات ولا المهارات، والإداريين المهرة الأفذاذ، بقدر ما تنقصه إرادة حقيقية للبناء. وإلى أن تتوفر هذه الإرادة لا تلوموا الغرب على برامج الهجرة التي يتيحها ليأخذ ما يناسبه من عقولنا وخبراتنا. فنحن على استعداد لتحويل السمك لعصير لذيذ لو توفرت لنا البيئة المناسبة. فقط بيئة تحترمني كإنسان لا كآلة.

النور عادل – الجزيرة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.