فتح الرحمن الجعلي:كما عقد الحليب الخنفشار!

قصة (الخنفشار) قصة طريفة حملتها كتب التراث العربي، ملخصها أنّ طلاباً أرادوا أن يعجزوا أستاذهم بسؤال لغوي، فاتّفقوا على كلمة لا أصل لها، جمّعوها تجميعاً، ثُمّ ذهبوا لأستاذهم وقالوا له: ما معنى كلمة الخنفشار؟، لم يتردّد الأستاذ وقال بسُرعة: الخنفشار نَوعٌ من العشب ينبت باليمن يضعونه على الحليب فيصبح رائباً، قال الشاعر:
لقد عقدت محبتكم فؤادي ** كما عقد الحليبَ الخنفشارُ
القصة أتذكّرها كلّما يتحلّق الناس حول سياسي من السِّياسيين ويسألونه عن أشياءٍ مُختلفةٍ فيجيب على كُلِّ شيءٍ بعلم وبغير علم !
الحقيقة، إنّنا نؤمن أن أولى صفات السِّياسي مقدرته على الكلام، ولذا فإنّ كثيرين منّا اضطروا لمُمارسته ليواكبوا المَهام المُلقاة على عاتقهم بسبب وُجُودهم في الحقل السِّياسي، وهُم من بعد ليس لهم مُعينٌ فكريٌّ أو لغويٌّ أو ثقافيٌّ يأخذون منه، فأصبحوا وصمة عار في جبين سياسة بلادنا!
ما يُعاب علينا أنّنا لا نهتم بتطوير القدرات وربما ينقطع كثيرون مِنّا عن القراءة والكتابة طيلة وُجُودهم في حقل الاستوزار أو غيره من حُقُول العمل العام، إلا ما كان من قراءة تقارير أو خطاباتٍ أو غيرها من الوريقات السَّمجة التي لا تثقِّف ولا تطوِّر، ولذلك كثيراً ما يُصاب المرء بالغثيان وهو يستمع لبعض المُتحدِّثين السِّياسيين فيُردِّد قول الشاعر:
جهل وفقر وأحزاب تعيث بهم ** هدّت قوى الصبر إرعاداً وإبراقاً
ما (فقع مرارتي) – وربما مرارة الطيب مصطفى – سماعي لمُتحدِّثٍ يُخاطب ورشة علمية ذات صلة بالفكر والثقافة، فقد (تجلّى) في (الخرمجة) و(الدغمسة)، وأثبت أنّ الوصول لهذه المناصب الرفيعة لا يحتاح لعلمٍ، فهو (قسمة) مَحضة ولا صِلَة له بأيِّ صلاحٍ أو فلاحٍ أو علمٍ أو ثقافةٍ (كريم أدى غشيم)!
الغريب أنّ الناس يستمعون له وكأنّ على رؤوسهم الطير، استغربت ولكنني رجعت فقلت: ما المشكلة؟ ألم نستمع من قبل لوزير قال: (كما قال الشاعر: لو تعلقت همة المؤمن بالثريا لنالها)؟
إخوتي: لا بُد لنا من تقديم النماذج المثقفة للحقل السياسي، فهذه بلاد ساسها الأستاذ المربي إسماعيل الأزهري وقادها الشاعر الكاتب مُحمّد أحمد المحجوب وفوق أرضها وتحتها ملايين العلماء !
ليس من الأخلاق تقديم الجهلاء مهما كبرت درجة أهمية المُوازنات القبلية والجهوية والحزبية، فالقيادة شيءٌ متكاملٌ، ولأنّ المخاطبة أمرٌ ضروريٌّ له، فإما أن نختار المُؤهّل أصلاً، أو نُدرِّب المُختارين و(نمحو أميتهم)!
قال لي صديق عزيز: الذين تعيب عليهم جهلهم لا يدركون أنّهم جُهلاء، ولذلك لا تستطيع تعديل اعوجاجهم (دا عوج الطندب الما بتعدلو النار)، ثُمّ ضحك وقال، تذكّر قصتك التي تكرِّرها دائماً عن (الخنفشار)؟
جرّب عرض سُؤالٍ بذات الطريفة وبذات الكلمة، قل لأحدهم: ما رأي السيد الوزير في السِّياسة (الخنفشارية) التي تُمارس على بلادنا، في ظل ابتعادنا عن أيِّ (خنفشرة) دوليّة والتزامنا بمبدأ (تأصيل) السِّيادة الوطنيَّة؟
صدقني: ستسمع (درراً) من الكلمات، وكمية من الآراء العجيبة، وستخرج وقد (عقدت) العبرة حلقك، كما عقد الحليب الخنفشار!
السوداني



