في مئوية ثورة 19 المصرية !

*خصصت مجلة (صباح الخير) الأسبوعية المصرية عددها الصادر أواخر فبراير، لإحياء الذكرى المئوية لـ(ثورة 1919) المصرية.. المجلة الثقافية – الفنية العريقة التي تصدر عن مؤسسة روز اليوسف، كرست جلَّ صفحاتها للاحتفاء بالحدث التاريخي العظيم، و قراءة وقائعه الميدانية ومدلولاته وآثاره اللاحقة التي شكلت وعي الأمة بهويتها (المصرية) وكيانها الخاص..تلك الهوية الوطنية وذلك الكيان الحضاري المعرضان، حينها، للتبديد والضياع مع تطاول الغزوات والاحتلالات الاستعمارية المتتابعة التي تعاقبت على البلاد منذ فجر التاريخ.. تتابع وتعاقب حفزَ وأغرى به القوى الكبرى والإمبراطوريات الاقليمية والدولية موقع مصر الفريد.. كملتقى طرق بين القارات القديمة، بحراً وبراً..و كمزرعة كبرى على نهر النيل العظيم، يقطنها شعب عرف بـ(خير أجناد الأرض) وبقوة ودأب الأيدي الفلاحية والحرفية العاملة.. ذلك الموقع الذي اختار له المؤرخ الكبير جمال حمدان وصفاً مجازياً دقيقاً رائعاً هو (عبقرية المكان).

* ما دفع المجلة و المؤسسة العريقة للاحتفاء بمرور مائة عام على (ثورة 19)، هو أنه لولا تلك الثورة لما عرفت مصر (عودة الوعي)، على قول توفيق الحكيم.. فالوعي بالذات والمقومات كان غائباً، حتى كان نداء الثورة منبهاً ومؤذناً أيقظ الأمة من سبات عميق معمر.. خصوصاً أنها كانت ثورة (مدنية سلمية) شاملة للمصريين جميعاً في الريف والحضر، انخرط فيها الشعب بحميع طبقاته.

* فالثورات الشعبية، كما يعلمنا التاريخ، هي قدر الشعوب المتطلعة للحرية والعدالة والنماء والكرامة.. لتجاوز حالة الركود والتكلس الذي يصيب مفاصل الأمة.. جراء تطاول عهود القهر والظلم، من قبل حكام متسلطين أجانب أو محليين.. وهذا كان دأب (ثورة 19)، وقيادتها المجيدة الممثلة بسعد زغلول وصحبه، من أمثال عبد العزيز فهمي وعلى شعراوي.. فمصر حينها كانت لا تزال محكومة بأسرة محمد علي، وكانت قد دخلت في (فخ المديونية) الأوربية المترتبة على إنشاء قناة السويس، وكانت فرنسا قد تراجع نفوذها، باتفاق مع إنجلترا، فتحولت البلاد إلى مستعمرة بريطانية قولاً وفعلاً، مع اقتراب الحرب العالمية الأولى (1914-1918) و مع إعلان إنجلترا نزع مصر عن الامبراطورية العثمانية وإسباغ (الحماية) عليها، وعزل الخديو عباس حلمي وتعيين عمه حسين كامل بديلا له (1914- 1917)، بالرغم من رفض وسخط المصريين، باعتباره سلطاناً عميلاً

للإنجليز..لكنه مات بعد قليل ليخلفه أحمد فؤاد (1917-1936).. والذي شهد عهده اشتداد الحراك الوطني..

ومع شعور إنجلترا بحرج موقفها وبأن الحرب مع دول المحور- ألمانيا وإيطاليا والنمسا و المجر- ستكون قاسية، لجأت إلى دعوة المصريين للوقوف بجانبها ومساندتها، مقابل وعد بالحصول على استقلالهم حال النصر..

واتخذت من الأراضي المصرية قاعدة لجيشها الثامن، حيث دارت الكثير من معارك تلك الحرب بالقرب من مصر وفلسطين وبلاد الشام، واستغلت بريطانيا – وقتها- الفلاحين والعمال المصريين لحفر الخنادق والعمل كخدم للجيش البريطاني المقاتل، فتحمل المصريون و بلادهم ويلات حرب لا ناقة لهم فيها و لاجمل.

* الحركة الوطنية المصرية التي اشتد عودها أخذت تتطلع لإيفاء بريطانيا بوعدها منح مصر الاستقلال، وشكلت وفداً من زعمائها لعرض القضية والمطالبة بالجلاء.. ولم يكد يمر يوم واحد على نهاية الحرب في ( 11 نوفمبر 1918) حتى توجه القادة الثلاثة المذكورين، بقيادة سعد باشا، لمقابلة السير ونجت المندوب السامي البريطاني، ليطلبوا إنفاذ بريطانيا تعهدها بالاستقلال والجلاء عن أرض مصر.. لكن وينجت وبرغم استقباله الودود للزعماء الثلاثة، لجأ الى دهاء الإنجليز المعهود، فابلغهم بأنه سينقل مطالبهم لحكومة صاحبة الجلالة، لكنه تساءل: مع مالكم من احترام وتقدير، كيف لي أن اعتبركم ممثلين لشعب مصر؟!.. تلك كانت الجملة التي دفعت الزعماء والشعب المصري لإطلاق حملة التوكيلات التي جمعت توقيعات وبصمات أكثر من مليوني مصري، تنيب كلاً من سعد زغلول وعبد العزيز فهمي وعلي شعراوي و أحمد لطفي السيد وآخرين (في أن يسعوا بالطرق السلمية المشروعة، حيثما وجدوا للسعي سبيلاً في استقلال مصر) بحسب نص التوكيل..

لكن عندما تحل اللحظة الحاسمة وتوجه الوفد المفوض لمقابلة المندوب السامي البريطاني (8 مارس 1919) للسماح لهم بالسفر إلى باريس، حيث ينعقد مؤتمر الصلح الدولي، لعرض قضية مصر من أجل الاستقلال، يرفض المندوب السامي الطلب، ويأمر باعتقال سعد وزملائه و بنفيهم إلى جزيرة مالطة..وتلك كانت الشرارة التي أشعلت نار الثورة في السهل المصري، من بحريها إلى أقصى صعيدها تحت شعارين معبرين عن التصميم والوحدة الوطنية: (الاستقال التام.. أو الموت الزؤام) و (عاش الهلال مع الصليب).

* صحيح أن ( ثورة 19) لم يكتب لها النصر الكامل، لا على الاستعمار ولا على الأسرة العلوية، لكنها أسست للإرادة الوطنية المصرية، وانتزعت بعض المكاسب الهامة ككتابة الدستور وشرعنة الملكية الدستورية،

وأنعشت الحياة السياسية والثقافية، وكانت بمثابة مقدمة طبيعية لثورة الضباط الأحرار في يوليو 1952، الأكثر جذرية وانحيازاً للشعب، وإن شابها الانفراد بالحكم، والتسلط الذي مهد لـ(نكسة 1967) وأعاق مشروعها الطامح للتحرر القومي العربي.

اخر لحظه




مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.