نقوش على قبر وردي

في هذه الأيام المدهشة الحافلة بكل عجيب، والحال ليس الحال، والليل غير الليل، والنهار لا كما الذي مضى من النهارات، والمشاعل تلون السماء، والحكومة تستمع لعلها المرة الأولى لأصوات الغضب، وتمسح ما أمكن على مكامن البؤر وأورام الحنق، في هذه الأجواء تهل ذكرى رحيل الأمبراطور، قيثارة الوطن البديع، رئة الشعب النبيل ولسان حال الرابحين عشقه والخاسرين عشقه.. صوت الثائر مجلجل بالحق، ضمير الفقراء والكادحين.. محمد عثمان وردي.
لسنوات خلت ولأعوام تصرمت عندما كان الوطن تضيئ لياليه أقمار الثقافة، وأنوار الجمال، وضياء الفن المرتف البديع، في تلك الأيام كتب المبدع عبد الهادي الصديق رائعته، وتحفة وأنيق مخطوطته( نقوش على درب الخليل).. والخليل مثل وردي يتطابقان تطابق المثلثات
بضلعين وزاوية.. تغنى الخليل للجمال وللوطن وللمرأة، وهي تنتفض ليزول القبر والكفن.. تغنى للوطن، بل كان شوكةً سامة في خاصرة أولاد ( التايمز) ولودرات وستمنستر.. وردي مثل الخليل.. حمل اثقال وهموم الوطن حِلاً وترحالاً، يقظةً ومناماً.. حراً كزهو طير طليق من فنن الى فنن، من غصن الى غصن، آمناً في دفء حضن الأسرة، ثم من جلسة استماع الى حفلة، من فرح يلامس حواف السماء في
لحظات انتصار الوطن ورايات تجمع الشعب، ثم تغنى للوطن معتقلاً سجيناً خلف الأبواب المغلقة والزنازين الرطبة، وراء الأبواب فولاذية محكمة الرتاج خارجها يقف انتباهاً وراءها السجان.. نعم وردي مثل الخليل، ولكني لست مثل عبد الهادي الصديق، هو في الثريا وأنا في الثرى.. هو نهر من الإبداع ومطر من الإشراق، وأنا فقط متلقٍ من عامة الشعب، لا أملك من أدوات تشكيل اللوحات وفن الرسم بالأحرف المجنحة وروعة البناء بالكلمات المرصوصة حروفها من صفق الورود، والمكتوبة على قشر البرتقال..
ورغم ذلك لابد أن أكتب عن وردي، ليس عن فنه وموسيقاه وتطريبه وعبقريته في فن الغناء… هذا ما لا طاقة لي به، بل أن الكتابة عن وردي الموسيقار والمطرب لا استطيع أن أخوضها في نهره العظيم، حتى لو امتلكت الشجر أقلاماً والبحار مداداً، ورغم ذلك سوف أكتب عن الوجه الآخر من وردي، فإلى غدٍ..
اخر لحظه



