(طِباق الأماني)..!

كان طلائع ابن زريك الوزير المتوفى سنة 556هـ، من شعراء المواعِظ في عهد دولة الفاطميين بمصر. حفظ ابن زريك الكتاب، وأتقن علوم الدين واللغة، وانغمس في المواعِظ واستلاف التعابير الدينية في نصوصه، شأنه في ذلك شأن كثيرين في هذا الزمان..

من شِعره: (يا قَلبَ كم ذا الغُرورُ خُدعُ المنَى كذِبٌ وزُورُ / أو ما تَرى الآمال يَفْضَحُ طولَها العُمْر القَصيرُ/ وبمثل ما صِرْنَا إليه إلآنَ يَعْتبِرُ البَصيرُ/ لو دَامَ مُلكٌ لم يكَنْ بعد المَلوكِ لنا نصيُر/ أنظرْ لهذي الدّارِ كمْ قد حَلَ ساحَتَها وزير)..

يخاطب الشاعر في هذه الأبيات القلب.. يخاطب قلبه قبل قلوب الآخرين.. يخاطبه متسائلاً: لماذا الغرور، إن كانت أمنيات الدنيا كلها كذب وزور؟.. (الغرور، والزور) في البلاغة جناس غير تام، أما عبارته (طولها، والقصير) فهو طِباق الأماني، التي يقصر أمامها العمر..

يقول الشاعر في معانيه: ولسوف يشرب من نفس الكأس الذي شربنا منه من يأتي بعدنا، إذ لو دامت للملوك لما أتى غيرهم:

(ولكم تبخْتَر آمناً بين الصُّفَوفِ بها أميرُ/ ذَهَبُوا فلا والله ما بقيَ الصَّغيرُ ولا الكبيرُ/ حتى ولا أضحتْ تُرى بين القَبورِ لهم قَبُورُ/ ما استيقظوا من غَفْلَة إلا وأرؤسُهمْ تطيرُ/ ولحُومهُمْ ممضوغَةً ومن الورى أيضاً نُسُورُ/ واصْبِرْ فلا حَزَن على الدُّنيا يَدومُ، ولا سُرُورُ).

يقول: أنظر لهذه الدار كم حل بها من ذوي الألقاب الذين لم يستيقظوا إلا يوم طارت رؤوسهم..(لحومهم ممضوغة من الورى)، كناية عن ذكرهم بالسوء.. وفي خاتمة المطاف ذهبوا، واندثرت حتى قبورهم..
وهكذا يمضي في مواعظه التي كثيراً ماتُقرأ على أنها حديث للنفس: (يا راكباً ظهر المعاصي أو ما تخافَ من القَصَاص/ أو ما تَرى أسباب عمرك في انتفاضٍ وانتقاصِ)؟.. يا راكباً (ظهر المعاصي) هلا خِفت من الحساب، (من القصاص)، هذا مجاز مرسل علاقته السببية، (انتفاض وانتقاص) جناس غير تام،، لكن متى يتم هذا الجِناس؟؟.

يقول ابن زريك في نُصح من يتصابى بعد المشيب:
(مشيبُك قد نَضَا صِيغَ الشبابِ وحَلَّ البازُ في وكرِ الغُرابِ/ تنامْ ومقلَةَ الحدثانِ يقظى ومانابَ النوائبَ عنكَ نابِي/ وكيف بقاءُ عمرك وهو كنزٌ وقد انفقت منه بلا حِسَابِ) ؟.

يذكِّرنا الرجل بحلول المشيب، فيقول أن (الباز حلَّ في وكر الغُراب)، مشبهاً سواد لون الشعر بالغراب، وبياض لون الشيب بالباز، بينما يشبه العمر بالكنز الذي ينقص كل يوم… نعم، نعم.. لا أبلغُ من هذا، ولكنها كلمة هو قائلها.. لكنها الحكمة دائماً ما تكون بعيدة المنال.. إنها الموعظة التي يصوغها اللسان على أبدع ما تكون، ثم تتقاصر عنها الخُطى..

هذا هو المحك، ولله في خلقه شؤون.

 

كوش نيوز

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.