الصين تستعد للجم الدولار، أين العرب من ذلك؟

تبدو الصين في عجلة من أمرها لكسر هيمنة الدولار على مبادلاتها مع العالم الخارجي، ويبدو أن فرصها في النجاح أضحت أقوى على ضوء فشل إدارة ترامب في مواجهة تبعات أزمة كورونا، ماذا يعني ذلك للعملة الأوروبية والدول العربية؟
في اتصالي الهاتفي مع والدتي قبل أيام تطرقت إلى الأزمة المعيشية الرهيبة في سوريا وتمنت عودة أيام زمان، ومما قالته بحرقة: “على أيامنا ما كان فيه دولار ولا من يحزنون، كنا نبادل القمح والعدس والحمص والبيض من انتاجنا بالصابون والأنسجة” أما اليوم فلا أحد يبيعك شيء إلا “بنار شاعلة” ودون أن يذكر اسم الدولار. والدولار الأمريكي هذا أضحى فعليا إلى جانب العقوبات الاقتصادية الأمريكية سلاحا في غاية الخطورة بالنسبة للكثير من الدول، لا بل وحتى بالنسبة للعديد من أصدقاء واشنطن التي تفضل الإملاء عليهم بدلا من التفاوض لحل خلافاتها معهم. ويعني استخدامها لهذا السلاح وضع الخصم على لوائح عقوبات تقضي بحرمانه من استخدام آليات التحويلات المالية التي تهيمن عليها عبر العالم انطلاقا من نيويورك وعواصم مالية غربية أخرى. وإذا ما تم وضع شخص أو جهة على هذه القوائم فإن الجميع يتجنب التعامل معه حتى خارج الولايات المتحدة خوفا من عقوبات محتملة تطالهم. وغالبا ما تتم هذه التحويلات بالدولار الذي يسيطر على سوق صرف وتبادل العملات العالمية بنسبة 85 بالمائة. كما يشكل عملة الاحتياط الرئيسية في العالم بنسبة تزيد على 60 بالمائة.

بكين في عجلة من أمرها

على وقع الخوف من عقوبات أمريكية أقسى من ذي قبل تبدو الصين هذه الأيام على عجلة من أمرها في سعيها إلى إنهاء هيمنة وسطوة الدولار على مبادلاتها من العالم الخارجي. ويزيد من هذه العجلة الانهيارات والكوارث التي جلبتها هذه العقوبات لعملات واقتصاديات إيران وروسيا وفنزويلا وسوريا ولبنان ودول أخرى. آخر الخطوات الصينية تتمثل في شراء المزيد من الشركات المنتجة للذهب آخرها شركة “غولد فيلد” الغويانية في أمريكيا الجنوبية. ومع شرائها للعشرات ومن شركات ومناجم الذهب في أفريقيا قبل ذلك أضجت بكين أكبر منتجي المعدن الأصفر بكمية تقارب 500 طن في السنة مقابل نحو 210 أطنان للولايات المتحدة. وإذا ما أخذنا بعين الاعتبار أن الصين ليست تقليديا من البلدان المخزنة للذهب الذي يعد إلى جانب ناتج محلي إجمالي قوي أفضل ضامن لاستقرار العملة، فإن السيناريو المرجح من وراء ذلك يقول بأنها تعد العدة لدعم التعامل الدولي بعملتها من خلال احتياطي ذهبي كبير واقتصاد يصعد بسرعة لاحتلال موقع الصدارة في العالم. ويدعم هذا الرأي قول فانغ هاي شينغ، رئيس لجنة تنظيم الأوراق المالية الصينية: بأن اعتماد الصين على “النظام القائم على الدولار يجعلها عرضة للخطر”.

منافسون لصندوق النقد الدولي

هذا الانكشاف للخطر دفع بكين أيضا إلى إطلاق بورصة عالمية في شنغهاي لتداول عقود النفط بالعملة الصينية اليوان اعتبارا من أوائل عام 2019، وتشكل هذه الخطوة ضربة قوية لاحتكار نظام “البترودولار” لصالح نشوء نظام “البترويوان”. ووقعت الصين أيضا على اتفاقيات مع روسيا وتركيا وإيران والهند ودول آخرى لتعزيز تبادلاتها التجارية بالعملات الوطنية بدلا من الدولار. هذا وأطلقت بكين مع دول البريكس الأخرى من شنغهاي “بنك التنمية الجديد” برأسمال يزيد على 100 مليار دولار لتعزيز استثمارتها المشتركة وتحقيق المزيد من التوازن في المعاملات الدولية. كما أطلقت من بكين في عام 2014 “البنك الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية” الذي تشارك برأسماله حاليا نحو 60 دولة بينها روسيا ومصر والسعودية وبريطانيا ودول أوروبية أخرى. ويزيد رأسمال البنك على 100 مليار دولار ويتوقع أن يكون خلال السنوات العشر القادمة منافساً قوياً لصندوق النقد الدولي الذي تتحكم الولايات المتحدة وحلفائها في قراراته بحكم ملكيتها لغالبية الحصص فيه. ويعزز هذا التوجه المالي الصيني العالمي اقتصاد يصعد بسرعة ومشروع طريق الحرير الجديد “حزام واحد- طريق واحد” باستثمارات ضخمة تشمل ستين بلدا حتى الآن.

أظهرت أزمة كورونا فشل الإدارة الأمريكية في مواجهة تبعاتها على الاقتصاد وسوق العمل مقارنة مع دول أخرى كألمانيا والصين. وعلى ضوء هذا الفشل يتوقع كبير الاقتصاديين سابقاً في مؤسسة “مورغان ستانلي”، ستيفن روتش “انهياراً قريباً في قيمة الدولار بنسبة قد تصل إلى 35 بالمائة في غضون العام القادم 2021”. ويعزز هذا الوضع الجديد القدرة الصينية على كسر احتكار الدولار إذا ما تجرأت بكين على تعويم عملتها وطرحها للتبادل التجاري الدولي بسعر مستقر. غير أن حصول مثل هذا الانهيار في قيمة الدولار يعني أيضاً أن دوراً أقوى في التعاملات الدولية بانتظار اليورو في حال تمكنت ألمانيا وفرنسا من دفع خطوات التكامل السياسي والأمني الأوروبية وتحقيق المزيد من الاستقلالية عن واشنطن بهذا الشأن. الجدير ذكره أن دوراً أقوى لليورو وللجنيه الاسترليني والين الياباني والروبل الروسي لا يبدو متعارضاً مع التوجهات الصينية التي لا ترمي للقضاء على دور الدولار بقدر ما ترمي إلى تحجيم هذا الدور بشكل يتناسب مع دور الولايات المتحدة في التعاملات التجارية الدولية. ويعود الحرص الصيني على عدم تحطيم دور الدولار إلى احتفاظ بكين باحتياطات دولارية هائلة تزيد على 3 تريليونات منها أكثر من 1.1 تريليون دولار استثمارات صينية في السندات الأمريكية. وعلى ضوء ذلك فإن دولاراً يلعب دوراً مهماً في التبادل التجاري العالمي يحمي هذه الاحتياطات وقدرتها الشرائية.

العالم العربي وكسر احتكار الدولار

سيؤدي كسر احتكار الدولار للتعاملات التجارية إلى تراجع الطلب عليه بشكل يؤدي إلى انخفاض سعره وقيمته. ومما يعنيه ذلك أن خسائر ستلحق بالدول العربية التي تتحوط بالدولار إسوة بغيرها من دول العالم. غير أن أكبر الخسائر ستلحق بدول الخليج والعراق ومصر التي وضعت جل احتياطاتها بالعملة الأمريكية وربطت عملاتها بها لأسباب جيوسياسية. أما الدول المغاربية فستكون في وضع أفضل على صعيد تحمل الخسائر لأن احتياطاتها بالعملات الصعبة موزعة بين اليورو والدولار بالدرجة الأولى بحكم علاقاتها التجارية التي تتم بنسبة تصل إلى الثلثين أو أكثر مع أوروبا. أما على صعيد المنافع فإن قيام نظام تعاملات تجارية ومالية عالمي يقوم على التعددية أو على الدولار واليوان واليورو والجنيه والين والروبل يؤسس لتكافؤ أفضل في فرص التجارة، لاسيما وأن الصين أضحت أهم شريك تجاري لغالية الدول العربية. كما أن نظام دفع عالمي بعملات متعددة يحمي الجميع من الارتهان لعملة واحدة ولتقلبات سعرها في السوق الدولية. كما يحميها من التعرض لعقوبات أحادية الجانب تحرم شعوبها حتى من الغذاء والدواء. الجدير ذكره هنا أن القوة الشرائية لدولار منتصف سبعينات القرن الماضي تعادل قوة 40 دولارا في عام 2020.

Dw


انضم لقناة الواتسب


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.