هذه المنطقة لا يملكها أحد ..تقع بين مصر والسودان
صاحبت ضجة واسعة الإعلان عن إقامة دولة في مثلث “بارتازوجا” أو منطقة بئر طويل التي تقع في مساحة تبلغ 2060 كيلومتراً مربعاً على الحدود بين مصر والسودان، وبينما قلّل متابعون من هذه الإعلانات وعدَّوا المروجين لها هواة فقط، دعا آخرون إلى التعامل مع الأمر بجدية لأنه قد تكون وراءه مؤامرة ما لم تتوقف الرحلات إلى هذه البقعة التي زارها عدد من أجانب لا ينتمون لأي من البلدين، وكل يسميها على هواه، ويدعي امتلاك قانون يخوِّله أن يكون ملكاً على هذه المنطقة ولا يلبث إلا أن يختفي ويأتي غيره، محدثاً ضجة أخرى، سرعان ما تتلاشى.
أرض مباحة
لم تأخذ السلطات في البلدين هذه القصص على محمل الجد، لأن المنطقة تقع ضحية الانشغال بالنزاع على حلايب الغنية بالنفط، وعندما تبخَّرت تلك الزيارات تركت إشارة إلى ثغرات قانونية في الخلافات الحدودية في المنطقة، خصوصاً أن المنطقة لم يتم ترسيمها بشكلٍ واضح، وأن هؤلاء أتوا لحكم بقعة وسط صحراء تائهة، وفي كنف حدود تشتعل بعض نقاطها بالنزاع المكتوم. ومع أن نظرية “الأرض المباحة” يصعب الركون إليها خصوصاً في العصر الحالي إذ لا توجد مناطق مباحة عدا أجزاء في القطبين المتجمدين الشمالي والجنوبي، فإن مؤيدي النظرية يعتمدون على أن نصوص اتفاقية “مونتيفيديو” التي صدرت في 26 ديسمبر (كانون الأول) 1933، والتي تحدد عناصر الدولة الأربعة، السكان والإقليم ووجود حكومة فعالة وأهلية الدخول في علاقات مع الدول الأخرى، تتحدث أيضاً عن النظرية التقديرية للدولة.
أحلام
في عام 2014 زار الأميركي جيرمي هيتون منطقة “بارتازوجا”، وغرس علمه بمعية أسرته على هذه المساحة التي سماها “مملكة شمال السودان”، ثم أتى الهندي سوياثي ديكسيت وادعى تأسيس مملكة فيها، ووضع علم بلده على هذه المنطقة على أنها أصبحت ملكه، وفي الخامس من سبتمبر (أيلول) 2019 أعلنت سيدة عربية تدعى نادرة ناصيف، في فيديو قيل إنه سُجِّل بمؤتمر صحافي في أوكرانيا، عن قيام مملكة “الجبل الأصفر” في المنطقة نفسها، وعيّنت نفسها في منصب رئيسة مجلس وزرائها، وذكرت أنه “نيابة عن ملك المملكة الذي سيظهر في الوقت المناسب، نعلن عن قيام مملكة عربية جديدة باسم مملكة الجبل الأصفر بين السودان ومصر”.
وبوصف رحلة جيرمي هيتون فاتحة هذه الزيارات، فلا بد من إلقاء الضوء على تجربته، فقد جاء إلى المنطقة بعد ترشحه لانتخابات الكونغرس الأميركي عن الدائرة التاسعة في ولاية فيرجينيا عام 2010، ليصنع من هذه المنطقة التي رأى أّلا أحد من شعبي وادي النيل يرغبها، “كمنطقة لأحلام العلماء والسياسيين” كما أشار إلى ذلك، وذكر جيرمي أنه تواصل مع وزارات خارجية حكومات البلدين، ولم تردا عليه ومضى في طموحه بتواصله مع عدد من العلماء لإحضارهم إلى المنطقة كي يساعدوه في اختيار التكنولوجيا المناسبة لزراعة الصحراء واستغلال كل الموارد المتاحة للقيام بما تحتاجه تلك الدولة التي سيبنيها بأموال التبرعات، وكشف أنه مزوّد بسند قانوني يضمن أحقيته في المنطقة، بتحقيقه لشروط القانون الدولي غير المكتوبة، ولكن معمول بها منذ القرن الـ 16 في مثل هذه الحالة، والشروط المطلوبة من جيرمي حتى يحقق حلمه بأن تصير ابنته إميلي أميرة على المنطقة هي: وجود شعب دائم يسكن المنطقة، وأن يقوم بترسيم الحدود، وأن تكون لديه القدرة على الدخول في المعاهدات والمواثيق الدولية، ثم الحصول على اعتراف الدول المجاورة.
خلو من الحياة
وقال أمير مصطفى الباحث في أصول المجتمعات والمناطق من أبناء قبيلة العبابدة (القرارايش) المتاخمة للمنطقة لـ (اندبندنت عربية)، “رأي أهل المنطقة في الزيارات المتكرِّرة لمثلث “بارتازوجا” أنَّها حتى الآن لا تزيد عن كونها هواية أو نزوع نحو الإثارة، أو مجرد أحلام بإقامة مملكة أو دولة، ولكن ليس هكذا تُقام الدول، فالمنطقة خالية تماماً من السكان وتقع في الصحراء الكبرى بين مصر والسودان”. أضاف “إذا نظرنا لها من ناحية استراتيجية، فالمثلث يقع قرب منطقة حلايب المتنازع عليها بين السودان ومصر، إضافة إلى أن حدَّه الشرقي من جهة البحر الأحمر تقع جبال “عيدباي” التي ظهرت فيها حديثاً مناجم ذهب صغيرة، ولذلك سميت شعبياً بالجبل الأصفر، يحدها من الغرب صحراء قبقبة (جزء من الصحراء الكبرى)، وعلى الرغم من وجود منقبين تقليديين عن الذهب فيها إلا أنهم يعانون إذا طالت إقامتهم، نظراً لأن المنطقة تخلو من مقومات الحياة المدنية”.
وتابع مصطفى “قبل اكتشاف الذهب كان البدو من قبائل البجا والبشاريين يتحركون بمواشيهم إلى سفوح جبال البحر الأحمر بحثاً عن العشب، ويعودون قافلين إلى مناطقهم، وهذه المراعي تتكون من بئر واحدة يُطلق عليها (المرات) تسقي خزاناً جبلياً طبيعياً يتكون من مياه الأمطار النادرة كما هي الحال في كل الساحل، ثم تتسرب مياه الخزان من بين شقوق الصخور وينبت العشب، وبمرور الزمن، نبتت غابة من شجرة الدوم التي لا تحتاج إلى ري دائم، وهي الشكل الوحيد للحياة في المنطقة”.
وقال “على الرغم من أن هناك آثاراً للتعدين التقليدي موجودة منذ الممالك السابقة إلا أنه خلال الـ 200 سنة السابقة لم يكن في المنطقة نشاط تعديني، وظهر فقط منذ عام 2010 عند بداية التعدين الأهلي في أنحاء السودان المختلفة، ونشاط استيراد الأجهزة الكاشفة للتنقيب عن الذهب، فقد بقيت المنطقة خالية تماماً إلا من آثار التعدين القديمة”.
محيط ديمغرافي
أضاف مصطفى “أما المنطقة المحيطة بها من جهة الساحل في الشرق فتتميز بالشعب المرجانية والأحجار الكريمة، وهناك مشكلات عدة بين الصيادين تنشأ بين الحين والآخر في هذه المنطقة تُحل أهلياً. أما من الغرب مروراً بالصحراء حتى الوصول إلى النيل فهذه أرض النوبة وهي من الكلمة “نوب” وتعني باللغة الكوشية ذهب، وتزخر بعدد من المعادن الأخرى مثل الحديد والنحاس والرخام تحت الأرض”. وأوضح أن “هناك مدينة أثرية ظاهرة للعيان عبارة عن أعمدة أثرية تابعة لحضارة قديمة رُصدت فيها تحركات هواة ودارسين غير أنها ليست مجهزة تماماً لاستقبال السياح، وهي تصوِّر آثار مدينة قديمة مهجورة لم يتبق منها غير الأعمدة”، ولفت إلى أننا “لا نستطيع أن ننسب هذه المدينة للعصر الفرعوني لأن الفراعنة كانوا يقيمون في محاذاة النيل وأقاموا حضارتهم هناك ولم يتوغلوا في الصحراء، وأغلب الظن أن أقوام البجا هم المقابل التاريخي للشعب النوبي، فأرض البجا تنتهي في شلاتين بينما مملكة النوبة تنتهي في أسوان”.
وختم مصطفى حديثه مشيراً إلى أن “المحيط الديمغرافي للمنطقة هم قبائل البشاريين (البجا) على ساحل البحر الأحمر، ويمتدون حتى مدينتي سواكن وسنكات، وقبائل العبابدة ومنهم القراقيش، قبيلة عربية، يتحدث أهلها لهجة البشاريين ويقطنون في الجهة المتاخمة للصحراء وصولاً إلى النيل غرباً، وتنقسم القبيلة بين عبابدة مصر، وهم أكثرية من أسوان وصولاً إلى مدينة مروي الأثرية حيث عبابدة السودان. وتصاهرت القبيلتان، فأصبح يشق منطقة بارتازوجا الطريق الرئيس بينهما وسُمي طريق العبابدة ويكاد يكون هو المعلم الوحيد فيها”.
مسرح إسرائيل و”حماس”
من ناحيةٍ أخرى، شكَّلت هذه المنطقة مسرحاً ممتداً لمعارك بين إسرائيل وحركة “حماس” امتدت سنوات عدة، ونشطت منذ عام 2011 مستفيدة من الفوضى الأمنية التي خلَّفتها أحداث “الربيع العربي”، إذ تُعدّ هذه المنطقة امتداداً لطريق نشاط تهريب الأسلحة عبر البحر الأحمر.
وبينما وقعت العمليات في الجهة الشرقية، فإن هناك أخباراً عن مهربين تمت مطاردتهم فسلكوا الطريق الصحراوي عبر “بارتازوجا” والوصول إلى مضارب بعض القبائل في مصر والسودان حيث يسهل الاختباء بالاندماج في القبائل الموزعة هناك، ومن الأحداث التي شغلت النظام السابق مقتل رجل أعمال من أبناء شرق السودان استُهدفت سيارته، ثم شنَّت إسرائيل غارات جوية في مناطق متفرقة قريبة من هذا المثلث، وشملت مدينة بورتسودان أيضاً، ويعتقد أن لهذه الحوادث علاقة بتهريب الأسلحة في المنطقة، ظهر ذلك في تصريحات مسؤولين إسرائيليين عن قوافل أسلحة تُرسل من السودان في ظل النظام السابق إلى حركة “حماس” في قطاع غزة عبر هذا الطريق والطريق الموازي له من جهة الساحل، كما ارتبط ذلك بمصانع أسلحة أنشأتها إيران في الخرطوم وأشهرها مصنع اليرموك، ولم تمرّ أحداث الشرق حتى حدث تفجير مصنع اليرموك لصناعة السلاح ليل 24 أكتوبر (تشرين الأول) 2012، إذ أظهرت الأقمار الصناعية أنه تم من الجو بواسطة أربع طائرات شاهدها سكان الخرطوم، كما شاهدوا إلقاء قنابل مضيئة تبعها الانفجار.
واتهم النظام السابق إسرائيل بتنفيذ ذلك الانفجار، بينما لم تنفِ أو تعلن عن ذلك صراحة، وإنما ظلت تتحدث عن رعاية السودان للإرهاب بدعمها حركة “حماس”.
تيّقُن زوار منطقة “بارتازوجا” العازمين على إقامة دولة أو مملكة، مثير للاهتمام بأن الشروط التي اعتمدوا عليها تمكِّن أياً من كان الحصول على أي بقعة مهملة في أي مكان بالعالم، وهنا يمكن وضع اعتبار إلى منطق الحجج الاستعمارية التي سوغّت لدول عظمى من قبل استعمار مصر والسودان بكاملهما.
إندبندنت