الجائحة فجرت السؤال .. في أي طابور تقف أنت؟

في السياسة هناك ما يعرف بـ”الطابور الخامس”، وفي الصحافة هناك سؤال خامس، “كيف”؟ ولعل جائحة كورونا مزجت بين المفردتين “طابور” و”كيف” في مشهد عالمي بدأ بـ”طوابير الأسئلة والتحليلات” وصولا إلى “طوابير المستهلكين أمام المتاجر”، وهنا برز السؤال الصحافي: كيف نشأ هذا الطابور؟
والحاجة الماسة إلى الطابور اليوم في 2020 لا تختلف عن الحاجة التي استدعت ظهوره. ويوضح ماجد الدوحان باحث دكتوراه في الأنثروبولوجيا في جامعة هارفارد الأمريكية، أن “الطابور أحد المظاهر الكلاسيكية للبيروقراطية التي صاحبت نشوء الدولة الحديثة في أوروبا، خصوصا بعد هجرة الأرياف وزيادة عدد السكان في التجمعات الحضرية في المدن بعد الثورة الصناعية”.
ويرى الباحث الدوحان، أن “تمركز السكان في المدن تطلب إعادة ترتيب التوزيع حسب الأولوية – خصوصا في ظل محدودية الموارد – وجعل النظام يستوعب التغيرات الاجتماعية التي طرأت على المدينة”.
في المقابل يظل تحديد المخترع الأول للطابور محل خلاف بين البريطانيين والفرنسيين امتدادا لخلافاتهم التاريخية، وكأن الموقف هنا بات طابورا لا يحق لأحد الطرفين الوقوف في طابور الآخر، ولكل فريق أدلة وبراهين.
ويميل التوثيق الورقي إلى الفرنسيين بعدما ورد أول وصف لأشخاص يقفون في طابور في العاصمة باريس في كتاب “الثورة الفرنسية: التاريخ” صدر في عام 1837، للمؤرخ الاسكتلندي توماس كارليل.
ووصف كارليل المشهور بسخريته، مشهد الطابور بالغريب،”أناس يقفون في خط منظم لشراء الخبز من الخبازين حول باريس”.
وفي الشمال الغربي من القارة الأوروبية ينظر إلى الطابور كتقليد من التقاليد البريطانية بحسب كتاب، “وضع قائمة الانتظار للمبتدئين: قصة الحياة اليومية من الإفطار إلى وقت النوم” للمؤرخ الاجتماعي جو مورون.
وتبدو سخرية الروائي جورج أوريل من حب البريطانيين للاصطفاف تأكيدا لأولوياتهم، حين قال إن الأجنبي سيفاجأ برغبة الإنجليزي في تشكيل طابور، أو الوقوف في الدور.
وتستذكر دعابة عن شغف البريطانيين بالطوابير لدرجة أن طابورا من اللصوص اصطفوا أمام محل تجاري لسرقته، وتناوبوا على الدخول إليه بترتيب الطابور خلال إحدى المظاهرات التي وقعت في العاصمة لندن.
ورغم الاختلاف على مكان ظهوره أولا، بيد أنه يوجد شبه إجماع على أن أواخر القرن الـ19 زمان ظهوره، وقبل عقود قليلة على جائحة عالمية قتلت الملايين، حين تفشت “الحمى الإسبانية” في عام 1919.
ويقول مورون إن انتظام الناس في الأرتال “الطوابير” شكل اجتماعي راسخ منذ أوائل القرن الـ19، ويرتبط بالثورة الصناعية، مضيفا أنه “نتاج لمجتمعات صناعية أكثر تحضرا جمعت بين الناس”.
فيما تبين الدكتورة كيت برادلي المحاضرة عن التاريخ الاجتماعي والسياسة الاجتماعية في جامعة كينت الأمريكية بقولها إن بداياته ارتبطت بالمشقة الشديدة.
وتعزو برادلي عبر تقرير لـ”بي بي سي” بعنوان، “الاصطفاف: هل هو حقا الطريقة البريطانية”، سبب ارتباط بداياته بالمشقة لأنه كان حكرا على الفقراء المضطرين للوقوف في طابور للوصول إلى الصدقات والإحسان.
وسواء كان الدافع الشراء أو التسول، فإن الحاجة البشرية إلى التغلب على قانون الغاب، جعلت من الاصطفاف تنظيما ضروريا للأفراد في المدرسة والجامعة والشرطة والجيش والمستشفى والسوق والبنك والمطار والملعب وفرن “التميس”.
وخضع الطابور إلى دراسات وتحليلات عديدة، وأغلبيتها تركزت في الجانب الاقتصادي، فالشكل المرسوم على هيئة خط طويل ممتد تحول إلى أماكن انتظار وخطوط تشبه الدودة والثعبان انطلاقا من مفهوم “الانتظار حالة نفسية”.
وللطابور الطويل دلالة إيجابية إذا كان أمام متجر أو مطعم، وسلبية إذا ما تعلق بشأن خدمي، وذكريات بداية من طابور الإذاعة المدرسية، وطابور التخرج الجامعي، مرورا بقص بطاقة صعود الطائرة للسفر، حتى مشاهدة صور مدن صندوق العجائب.
وتحولت الطوابير الحسية إلى غير حسية باستخدامها في مصطلحات تعكس حالة الانتظار، أشهرها اقتصاديا طابور البطالة.
ويشير تقرير لـ”سي إن إن” بعنوان، “لعبة الانتظار: نظرة موسعة على كيفية الانتظار” في فبراير 2019، إلى تجربة ديزني لاند في تمويه الطوابير حول زوايا وجدران لجعلها تبدو أقصر بحيلة تعرف باسم “اختناق الطابور”.
واعتمدت الحدائق والمدن الترفيهية على سياسة تضخيم أوقات الانتظار المنشورة في كل نقطة جذب، حيث يبالغون عمدا في تقدير ذلك، فإذا كانت اللافتة تقول إن الانتظار ساعة، فغالبا ما تكون 45 دقيقة – بحسب التقرير.
ومن الطوابير المنتشرة عالميا ما تعرف باسم الخطوط المتوازية المتعددة، والمعتمدة في المطارات والمصارف والمدن الترفيهية وأسواق التموينات الغذائية، وخطوط أخرى لا يزال النقاش عن مدى فاعليتها مستمرا.
ويعود الباحث الدوحان إلى الإشارة حول أنماط الطوابير، بأن “كثيرا من المرافق الحكومية والتجارية استخدم الطابور، إلا أن بعض المتاجر ابتكر في مسألة الانتظار كي يكسب رضا العميل، مثل أن يكون الانتظار حسب الرقم أو أن يتم إرسال رسالة نصية متى ما حان دوره، فيصبح بإمكانه استثمار وقته في شيء آخر غير الانتظار” – وهو ما يعني أن الطابور نفسه يتطور كمفهوم بتطور الأشياء من حوله ليتشكل كثقافة عالمية.
ويعتقد ريتشارد لارسون الأستاذ في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا في تقرير لصحيفة “فاينانشال تايمز” بعنوان “طوابير الانتظار.. تكتيك الإلهاء والترفيه”، أن تكتيك الإلهاء والترفيه يطبق بشكل جيد من قبل شركات مثل ديزني، مضيفا “حتى بدون مثل هذه الحيل يمكن لطابور واحد، كما يقول اختصاصيو علم النفس المهتمون بطوابير الانتظار، أن يوفر إشارات مطمئنة”.
وفي السعودية قصة تقبل الفرد للطابور قبل جائحة كورونا غير مألوفة بالنسبة إلى الباحث الدوحان، القادم إلى مدينة كامبردج في ولاية ماساشوستس شمال شرق الولايات المتحدة من مدينة الظهران شرق السعودية، ويعزو السبب إلى أن المواطن السعودي يقضي كثيرا من ساعات يومه بعيدا عن الفضاء العام، إذ إن أغلب وقته في الفضاءات الخاصة “العمل، المنزل”، أو متنقلا بينها باستخدام السيارة، التي تعد فضاء خاصا بحد ذاتها.
ويقول “بعد الأفراد عن الفضاء العام يجعل مسألة الطابور التي هي مسألة علائقية في المقام الأول غير مألوفة”.
ويضيف “في المقابل، نجد أن هناك التزاما أكبر في حالات الانتظار التي لا تستدعي الطابور، مثل طابور شركات الاتصالات المبني على أرقام، أو في طابور إشارة المرور الذي يخوضه السعودي من خلال سيارته، التي تتشارك بكونها تسمح للسعودي بالمحافظة على مسافته من الفضاء العام. وعلى ذلك، فإن الالتزام بالطابور ليس له علاقة بمدى تحضر أو تخلف مجتمع ما كما يدعي البعض، بل بالتاريخ الثقافي الخاص بالناس ومدى ألفتهم لهذه الأدوات”.
ومهما اختلفت الثقافة أو الألفة مع الطابور بين المجتمعات إلا أنه يحمل بعدا ينشده البشر يتمثل في العدالة باعتباره يحقق المساواة فالأولوية هنا لمن وصل أولا.
وهكذا المفترض لكن ما يصوره الأديب والوزير السعودي الراحل غازي القصيبي في قصته القصيرة “العودة سائحا إلى كاليفورنيا”، وإن كان ساخرا، إلا أنه ليس ببعيد عن الواقع.
بداية يرى القصيبي أن الطوابير لم تنجح إلا بوجود العقلية التي تقبل أن تنتظر دورها، مستثنيا خمسة أصناف من البشر لا يمكن أن تنتظر أو تقف كالأشخاص المهمين جدا الذين سيتفقون مسبقا مع رئيس مجلس الإدارة أو المدير العام على ترتيب مدخلا جانبيا لاستقبالهم، ومن دونهم أهمية ومثلهم حظا فسيجدون قريبا أو صديقا يرتب لهم التسلل من مدخل المهمين جدا.
وكذلك “الفهلوية” والحديث للقصيبي “يسألون عن المشرف على الطابور لدهن سيره حتى يغض النظر، وأقوياء الأجسام وهواة رفع الأثقال الذين سيجرفون من أمامهم “كجلمود صخر حطه السيل من عل”، وأخيرا ذوو الألسنة الطويلة والأبجديات البذيئة الذين يفتح لهم الطابور على مصراعيه للتخلص من صياحهم”. إذن من بقي ليقف في الطابور، يجيب القصيبي “منتوفو الريش (المسحوقون) كما يقول الأدباء الواقعيون”.
وما ذهب إليه غازي القصيبي من أن الطابور سمة أكثر خصوصية بالطبقات المغلوبة على أمرها، ينشده شعرا الراحل نزار قباني: “من يوم أتيت إلى الدنيا – وأنا مزروع في الطابور”.
ويبدو أن المغلوب على أمره في فترات الصحة سيبقى على الحال نفسه في فترات الوباء، مضطرا للوقوف في الطابور بمسافة أو دون مسافة، أو سيطلب “أونلاين” إن سمحت ميزانيته.
والطابور في زمن كوفيد – 19 بات بمنزلة قنبلة بيولوجية مهيأة للانفجار تتطلب إجراءات احترازية تلخصت في علامات أرضية تحدد مساره الذي لم يكن مرئيا من قبل.
وتغيرت معادلة المسافة الفاصلة بين المصطفين من عدة سنتيمترات إلى متر ونصف المتر، ومترين للاحتياط أكثر.
الشاهد أن أزمة جائحة كورونا هي الأخرى، فتحت بابا جديدا “طابور سادس” برأي متابعين للمشهد، وهم قائمة طويلة من المنتفعين من شركات أدوية حتى محتكري الكمامات والمعقمات.

الاقتصادية


انضم لقناة الواتسب

انضم لقروب الواتسب


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.