ضغوط قاسية تحاصر الدولار والمستثمرون يهربون إلى اليورو

يراهن محللون ومراقبون للأسواق على تراجع الدولار وارتفاع اليورو إلى مستويات قياسية. ويشهد الاستثمار في اليورو والأصول المقومة به ارتفاعاً مستمراً بفضل حزمة التحفيز البالغة 882 مليار دولار، التي أقرّها قادة منطقة اليورو، ومن المتوقع أن تُسهم في احتواء تأثيرات الجائحة في القارة العجوز، مقارنة بحزم التحفيز بالولايات المتحدة.

ومع ذلك، يحذّر المحللون من تلك الحماسة المفرطة تجاه اليورو، ففي المرة الأخيرة التي عزز فيها المستثمرون استثماراتهم باليورو عام 2018 انقلبت السوق وصعد الدولار. لكن هل يشهد الدولار الأميركي هبوطاً مزمناً، خصوصاً بالنظر إلى ضغوط فيروس “كوفيد 19” على النمو الاقتصادي، إضافة إلى الضوضاء السياسية بشأن انتخابات الرئاسة المرتقبة؟

الإجابة جاءت وفق تقرير حديث صادر عن معهد التمويل الدولي، إذ يرى أن الورقة الخضراء كانت تشهد استقراراً مقابل عملات مجموعة الدول العشر، وهو أمرٌ من المحتمل استمراره، بالنظر إلى أن كل البنوك المركزية تتبع نهجاً تيسيراً.

وعلى النقيض، ارتفع الدولار مقابل عملات الأسواق الناشئة بنحو عشرة في المئة خلال العام الماضي، إذ إنّ انخفاض أسعار السلع الأساسية تسبب في حدوث صدمة عكسية لشروط التبادل التجاري بالنسبة للكثيرين. ويعتقد معهد التمويل الدولي أن الدولار قد يواجه يوماً ما انخفاضاً مزمناً، لكن ليس على المدى القريب.

ويتعرّض الدولار الأميركي لعديد من الضغوط على إثر تداعيات الوباء على النمو الاقتصادي للولايات المتحدة والضوضاء السياسية في انتخابات الرئاسية الأميركية المزمع عقدها في نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل، إضافة إلى الأسئلة المتزايدة حول وضع الورقة الخضراء كعملة احتياط عالمية.

وفي ظل هذه الخلفية، راجع معهد التمويل الدولي المحرّكات الرئيسية للدولار في السنوات الأخيرة، مع التمييز بين أمرين أساسيين، وهما أداء العملة الأميركية مقابل النظراء في مجموعة الدول العشر وبين أدائها أمام عملات الأسواق الناشئة.

تقرير معهد التمويل الدولي أشار إلى أنّ الناتج المحلي الإجمالي للولايات المتحدة لا يزال أعلى من مستويات عام 2008 بأكثر من عشرة في المئة. وفي حين أن الناتج المحلي الإجمالي لألمانيا عند مستويات 2008 نفسها، فإن اقتصاد إيطاليا وإسبانيا أقل بنحو 20 في المئة.

وحسب تقديرات المعهد الدولي، كانت فجوات الإنتاج في منطقة اليورو أكبر في فترة ما قبل الوباء، كما أنها الآن أكبر بكثير، لذا فإنّ خطر انكماش الأسعار أكثر حدة مما هو عليه في الولايات المتحدة. وإلى جانب رهانات هبوط الدولار المرتفعة للغاية، فإنه ليس هناك سبب مقنع لتوقّع ضعف ملحوظ في الدولار على المدى القريب.

وعلى صعيد الوضع في الأسواق الناشئة، يجدر الإشارة إلى أنه في أعقاب الأزمة المالية العالمية، أسهمت عمليات التحفيز من جانب الصين في زيادة أسعار السلع، ما ساعد عديداً من عملات الأسواق الناشئة على التعافي. لكن هذا التحفيز مفقود في الوقت الحالي، ولهذا السبب يبدو الضعف المحتمل للدولار أمام عملات الأسواق الناشئة محدوداً.

ضغوط قوية بأسواق السلع الأساسية

في تحليله الأسبوعي، استعرض بنك قطر الوطني دلالات تطورات أسعار السلع على الاقتصاد العالمي، مبيناً أن تداعيات الانتشار العالمي لوباء فيروس كورونا (كوفيد 19) أدّت إلى ضغوط كبيرة في أسواق السلع الأساسية. وأوضح أنّ الصدمة السلبية في الطلب الناتجة عن الوباء أدّت إلى ضغوط انكماشية، دفعت أسعار السلع بسرعة إلى أدنى مستوياتها في عدة عقود.

وأشار إلى أنّ مؤشر غولدمان ساكس للسلع، وهو مؤشر رائد يرصد تحركات أسعار السلع عبر النقاط منذ سبعينيات القرن الماضي، شهد انخفاضاً 50 في المئة تقريباً منذ يناير (كانون الثاني) إلى أواخر أبريل (نيسان) 2020. وخلال هذه الفترة، كان الانخفاض في الأسعار واسع النطاق، وشمل أسعار منتجات الطاقة والمعادن الأساسية والمعادن النفيسة والحبوب والسلع غير المعمرة ومنتجات الغابات.

ولفت التحليل إلى أن الصورة ليست قاتمة بالكامل بالنسبة إلى أسواق السلع، فبعد أن تراجع مؤشر غولدمان ساكس للسلع إلى القاع في أبريل، حقق تعافياً كبيراً، إذ عوّض عن أكثر من 50 في المئة من الخسائر الأخيرة، مبينا (التحليل) أن إلقاء نظرة فاحصة على هذه التحركات يمكن أن يسلط الضوء على جوانب مهمة من التعافي المستمر في الاقتصاد العالمي.

وأفاد التحليل بأن تطورات أسعار السلع الرئيسية توفر عديداً من المعلومات المهمة بشأن الاقتصاد الكلي، بما في ذلك اتجاهات السوق والتضخم، وغالباً ما تسبق هذه التطورات أو تؤكد بداية التحول الدوري، وفي هذا الإطار ركّز تحليل بنك قطر الوطني على ثلاث إشارات رئيسية مضمنة في الانتعاش الأخير لأسعار السلع.

وحسبما لفتت الإشارة الأولى، فإنّ تحركات أسعار السلع تؤكد نجاح السلطات النقدية والمالية أخيراً في تحقيق الاستقرار بالاقتصاد العالمي على الرغم من الصدمة الناتجة عن جائحة (كوفيد 19)، وتعمل التدابير المتعلقة بتوفير السيولة وزيادة الإنفاق المالي بالفعل على دعم الطلب الكلي، وذلك بدوره يؤدي إلى تعافي النشاط الاقتصادي.

ويتجّلى ذلك في الانتعاش الكبير في أسعار السلع الشديدة التأثر بالعوامل الدورية، بما في ذلك المعادن الأساسية ومنتجات الغابات والطاقة، فقد ارتفعت أسعار خام برنت بأكثر من 123 في المئة من أدنى مستويات لها في أبريل، على الرغم من أنها لا تزال أقل بكثير من أعلى مستوياتها المسجّلة في يناير (كانون الثاني)، كما ارتفعت بقوة أسعار النحاس والخشب، التي تعتبر مهمة لرصد النشاط في الصين والولايات المتحدة، وتجاوزت أعلى المستويات المسجّلة في يناير قبل أزمة (كوفيد 19)، وتشير هذه التحرّكات في الأسعار إلى أن صنّاع السياسات تمكنوا من إيقاف الضغوط الانكماشية، وهو شرط ضروري لتحقيق تعافٍ اقتصادي دائم.

وثانياً، تشير تطورات أسعار المعادن النفيسة إلى حدوث مزيد من التراجع في قيمة الدولار الأميركي، فقد تفوّقت أسعار الذهب أخيراً على سندات الخزانة الأميركية الطويلة الأجل، ما يشير إلى أن المستثمرين الأجانب والمحليين يفضّلون أصول الملاذ الآمن الصادرة عن جهات أخرى غير الولايات المتحدة.

كما يشير ارتفاع الطلب على أصول الملاذ الآمن غير الأميركية، مثل الذهب إلى انخفاض الطلب المحتمل على الدولار الأميركي. وفي الواقع، تعد نسبة سندات الخزانة الأميركية إلى الذهب مؤشراً مهمّاً لرصد الشعور تجاه الدولار الأميركي، إذ يشير انخفاض هذه النسبة غالباً إلى نقطة تحوّل في دورة الدولار الأميركي، من ارتفاع شديد في الدولار إلى هبوط قيمته بسبب تفضيل عملات أخرى.

مؤشر على قوة اقتصاد أميركا في الخارج

وفق التحليل، يعتبر تراجع قيمة الدولار الأميركي أيضاً مؤشراً جيداً على قوة الأداء الاقتصادي خارج الولايات المتحدة، وهو أمرٌ إيجابي بشكل خاص للأسواق الناشئة، نظراً إلى المكاسب الناتجة عن ارتفاع أسعار السلع الأساسية والتدفقات الإيجابية لرؤوس الأموال الأجنبية.

وثالثاً، تشير أسعار المعادن النفيسة أيضاً إلى وجود مخاوف أولية بشأن التضخم، فقد بلغ سعر الذهب أعلى مستوياته على الإطلاق، مقابل جميع العملات الرئيسية في الأشهر الأخيرة، وعلاوة على ذلك، ارتفعت أسعار الفضة أكثر من أسعار الذهب، ما يشير إلى أن السيولة العالمية تنتقل بسرعة إلى الاقتصاد الحقيقي، إذ إنّ الفضة هي من المدخلات الرئيسة لما يعرف بالاقتصاد الجديد (التكنولوجيا، وصناعات الطاقة النظيفة).

ويعتبر انخفاض نسبة سعر الذهب إلى الفضة وسط أداء قوي للذهب عبر مختلف العملات إشارة قوية إلى أن التضخم سيرتفع عاجلاً وليس آجلاً، وفي حين أن هذا التطور الإيجابي أتى بعد سنوات من الضغوط الانكماشية المستمرة، فإنه يمكن أن يدعم الانتعاش المستمر في الاقتصاد الكلي فقط، في حال جرى الحفاظ على الإجراءات النقدية والمالية عند مستويات مناسبة، فمن المحتمل أن يؤدي السحب المبكّر للمحفزات النقدية والمالية إلى تقويض الانتعاش الاقتصادي.

ولفت التحليل إلى أن التحفيز المفرط لفترة طويلة قد يؤدي إلى تضخم غير منتظم، مبيناً أنه “بشكل عام، فإنّ الانتعاش الأخير في أسعار السلع يبشّر بالخير بالنسبة إلى الاقتصاد العالمي، فهو يشير إلى بداية دورة نمو اقتصادي وهبوط مطلوب في قيمة الدولار الأميركي المرتفعة للغاية، ومع ذلك، تتطلب التطورات الإيجابية استمراراً معقولاً في سياسات التحفيز الاقتصادي، ويجب أن يجري ضبط الإجراءات النقدية والمالية بشكل جيد للحفاظ على دعم أسعار السلع، ما يؤدي بالنتيجة إلى ارتفاع تدريجي ومنتظم في معدلات التضخم”.

إندبندنت


انضم لقناة الواتسب


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.