عشر سنوات تمضي الآن على أحداث ميدان “مصطفى محمود” في القاهرة ما حدث في “الصرافات” وما حدث في “المهندسين”

خواتيم ديسمبر 2005.. تاريخ مشهود.. لم يكن المتدثرون ببرد القاهرة القارس يظنون أن السلطات التي تحيط بميدان مصطفى محمود يمكنها أن تستخدم السلاح في سعيها إلى تفريقهم وإخلاء المكان، لكن حدث ما لم يكن ينتظره ابن النيل في قاهرة المعز لدين الله. مضت الأحداث التي أودت بحياة البعض ممن اضطرتهم الظروف للوجود في مصر كنقطة تحول إلى عوالم أخرى من ضاقت به أرض المليون ميل التي تناقصت ضاقت بهم أيضا السلطات المصرية، ولم يجدوا أمامهم سوى استعادة النص “لا النيل القديم يا هو ولا يانا.. رقاب فجر اللاجئين تنقص ولا يانا”. وكان نص حميد الشاعر الذي يسكن في منطقة منحنى النيل لا ينتهي دون أن يقف في نقطة “عقب يا نيل تكون ياكا ونكون أهل البلد بالجد”.
عشر سنوات تمضي الآن على أحداث ميدان مصطفى محمود في القاهرة مؤكد أنه حتى الآن لم يحدث جديد. بعض الذين فقدوا أرواحهم آنذاك لم يجدوا أمامهم من سبيل غير استعادة ذلك التبرير في صراعات المسلمين الأولى (عمار قتلته الجماعة التي أخرجته)، وليست تلك التي أطلقت عليه الرصاص. الحكومة السودانية المشغولة آنذاك بالترتيب لمرحلة انتقالية، تحلق فيها الحمائم في أرض النيلين، لم تكن لتريد الدخول في مماحكات مع القاهرة التي لحقت بمولد الاتفاقيات السودانية عبر وثيقة القاهرة بين الحكومة والتجمع الوطني الديمقراطي، بل إن البعض من طاقم كابينتها السياسية خرج يومها بتصريحات تؤكد حق مصر في السيطرة على أوضاعها الداخلية والحفاظ على أمنها القومي.
المفارقة أنه وبعد سنوات عشر مما حدث في (مصطفى محمود) تقوم قيامة الخرطوم احتجاجاً على إساءات السلطات المصرية في التعامل مع بعض السودانيين، وهو أمر دفع السفارة إلى تقديم خطاب احتجاج للخارجية المصرية، مطالبة بمبررات لما حدث. ولم يتوقف الأمر عند تلك النقطة وإنما لحقت به حالة احتجاجات إعلامية كثيفة وحراك شعبي رافض لما أسماه بحالة العجرفة المصرية لدرجة تبنيهم شعار (مصر ليست أخت بلادي)، قبل أن تعود الأمور للهدوء، وفقاً لتبريرات أن الأمر تم تضخيمه وأن السودانيين في مصر يعيشون أوضاعاً عادية، وأن تجاوزات الشرطة المصرية تمارس حتى ضد المصريين.
مؤكد حكاية ما حدث في الصرافات لم تكن لتمر مرور الكرام، بل لحقت بها لجنة للتحقيق في ما يتعلق بتعرض سودانيين لإطلاق نار في الحدود المصرية الإسرائيلية، وهو حدث بات وكأنه من المعتاد من الأخبار. بالضرورة في ظل ما يحدث في تلك المنطقة، وهو ما زاد نيران الاختلاف بين الخرطوم والقاهرة حطباً ما حدث في الحدود الإسرائيلية لا يمكن فصله بأي حال من الأحوال عن ما حدث في ميدان مصطفى محمود، حيث أن الهدف واحد هو البحث عن اللجوء والضحية يحمل الجواز السوداني.
وكان شهر ديسمبر يريد أن يستأثر لنفسه بشهر الطرد السوداني، فقبل ستين عاماً كان البرلمان السوداني يمهر قرار مغادرة الاستعماري الإنجليزي المصري للأراضي السودانية، ويعلن في جلسته التاريخية السودان دولة حرة مستقلة.. وفي بداية ديسمبر لهذا العام، كان السودانيون يخوضون معركة جديدة هذه المرة ضد سلطات المملكة الأردنية الهاشمية التي قامت بإبعاد عدد من اللاجئين السودانيين من أراضيها، وهي الأحداث التي نقلت وسائط التواصل الاجتماعي العنف المرافق لها العائدون إلى الخرطوم بداية هذا الشهر، كانوا قد غادروها في وقت سابق بحثاً عن أمان خارج حدود جغرافية وطنهم، وتحت ذات اللافتة (لاجئي الاحتجاجات ضد الترحيل) الذي وصفه البعض بالقسري، شملت مفوضية اللاجئين التابعة للأمم المتحدة لدرجة أن البعض خلع عنها الرداء الإنساني الذي تتدثر به وألبسها رداء الكيل بعدة مكاييل مفارقة خرطومية ثانية المدينة التي تفتح أبوابها لاستقبال العائدين من أبنائها هي ذاتها المدينة التي تفتح أبوابها للاجئي النزاعات والحروب في مختلف مناطق العالم. السوريون هنا مواطنون سودانيون، وأهل اليمن سيدخلون الأراضي السودانية دون تأشيرة والدعوة مقدمة لمتضرري الصراعات في بورما والمعسكرات الخاصة بمواطني إرتريا وإثيوبيا على الحدود، تؤكد هذه الفرضية التي تقول إن الخرطوم مفتوحة لكل من يريد الدخول إليها، مؤكد أن هذا الدخول سيكون وفقاً لترتيبات خاصة بمفوضية اللاجئين وبالمنظمات الدولية، ويقول مراقبون بأن تفاهمات مالطا غرضها الأساسي هو تهيئة معسكرات بديلة خارج أوروبا تجعل اللاجئين بعيدين من الوصول إليها أو من ركوب المخاطر عابرة البحار والمحيطات.
عقب عشر سنوات مما حدث في ميدان مصطفى محمود في القاهرة، فإن الأخبار المنقولة من هناك تخبرك عن آلية وطنية لمتابعة شؤون السودانيين بالخارج توجد هذه الأيام بمصر، وتضم أعضاءً من كل الوزارات ذات الصلة بالعاملين بالخارج، وهو ما يعني أنها آلية تأخذ صفة الحكومية، وأن الهدف الأساسي لها هو الحفاظ على كرامة السوداني بالخارج، مؤكد أن الأمر لا يتعلق بمصر وحدها، وأنما بكل نقطة يصل إليها حامل الجواز الأخضر المثير للدهشة أن أبرز المشكلات التي تواجه السودانيين في القاهرة – بحسب إفادات تحصلت عليها (اليوم التالي) هو تلكؤ السلطات في استخراج الجواز الإلكتروني، وهو أمر يدخل السودانيين في تعقيدات كبيرة تضاف لها التعقيدات الخاصة بالبروقراطية في مكاتب الحكومة المصرية.. أن تعجز سلطة عن استخراج ورقة، فهي عن الحماية وحفظ الكرامة أعجز، هكذا يقول واقع الحال.
في عشرية أحداث ميدان مصطفى محمود، فإن الحديث عن الدماء التي غطت الأسفلت آنذاك مؤجل لحين حسم ملف المياه وخلافات سد النهضة باعتباره المشهد الأبرز في صفحة علاقات مصر والسودان في الوقت الراهن وثالثتهما إثيوبيا، في ذات التوقيت الذي كانت توجد فيه الآلية الوطنية لعمل السودانيين بالخارج، كانت آليات الاجتماعات تعمل في سبيل السعي لإيجاد تسوية مرضية للأطراف الثلاثة في ما يتعلق بالنهضة، مؤكد أن حدث مثل هذا تعمل في ظله العبارات المتداولة من وحدة المصير والتاريخ المشترك، وأن لا سودان بلا مصر والعكس صحيح.
بالنسبة للضحايا في الميدان بقلب القاهرة لم يكونوا يضعون في اعتبارهم أن السلطات المصرية يمكن أن تتعامل معهم بتلك الصورة، مؤكد الآن أن أسرهم لا تنتظر خطوات حكومية من أجل رد الحق الغائب، ولا تنتظر تحرك من مفوضية اللاجئين في ذلك السبيل، ولكن عدم الظن لا يعني اقتناعهم بتقييد الجريمة ضد مجهول.

المصدر:صحيفة اليوم التالي



اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.