بات واضحاً أن الولايات المتحدة الأميركية تولي السودان اهتماماً خاصاً في اتجاه تطوير علاقاتها السياسية والاقتصادية، بعد أن كان يمثل محور الشر في ظل نظام الرئيس السابق عمر البشير، ما دفعها لفرض عقوبات عليه لأكثر من عقدين بسبب رعايته للإرهاب من خلال استضافة زعيم القاعدة أسامة بن لادن مطلع تسعينيات القرن الـ20.
واستقبلت الخرطوم الفترة الماضية مسؤولين أميركيين على مستوى رفيع، فيما أعلنت نائب الرئيس الأميركي المنتخب كامالا هاريس، في وقت سابق عن زيارة مرتقبة لجو بايدن إلى السودان مطلع فبراير (شباط) المقبل في مستهل أول جولة خارجية له بعد تقلده منصبه، تشمل السعودية والإمارات، والصين، وهو ما طرح تساؤلات عدة عن سر هذا الاهتمام الأميركي بالسودان، ودوافعه الحقيقية؟
يشير مسؤول العلاقات الخارجية في حزب المؤتمر السوداني فؤاد عثمان، إلى أن “تحليل غالبية قطاعات المجتمع السوداني عن اهتمام الإدارة الأميركية بالسودان كان في سياق الانتخابات الأميركية وحصد نقاط لصالح الرئيس دونالد ترمب، لكن وضح أن واشنطن لديها مسعى حقيقي تجاه السودان، الأمر الذي ظهر في المشروع المشترك الذي قدم للكونغرس من قبل الجمهوريين والديمقراطيين لدعم المرحلة الانتقالية والتحول الديمقراطي في البلاد، وأخيراً زيارة وزير الخزانة الأميركي للخرطوم التي تعد أول زيارة من نوعها، حيث ناقشت الوضع الاقتصادي، والمساعدات التي ستقدمها واشنطن للسودان، فضلاً عن معالجة موضوع الديون الخارجية البالغة 60 مليار دولار. وتبعتها زيارة رئيسة بنك التصدير والاستيراد الأميركي للتباحث حول إعادة السودان للنظام المصرفي العالمي، فضلاً عن توقيعه على إعلان اتفاقيات أبراهام، الذي ينص على ضرورة ترسيخ معاني التسامح والحوار والتعايش بين مختلف الشعوب والأديان في منطقة الشرق الأوسط والعالم، بما يخدم تعزيز ثقافة السلام”.
شراكة حقيقية
وأضاف عثمان، “في هذا السياق تأتي زيارة بايدن للسودان، وهي بلا شك مهمة للغاية من عدة جوانب، حيث تؤكد أن أميركا تولي الخرطوم اهتماماً خاصاً غير مسبوق من قبل، لكن في اعتقادي أن واشنطن مهتمة بتجربة الانتقال التي حدثت في البلاد كونها فريدة من نوعها بعد ما شهدت شراكة حقيقية بين المكونين المدني والعسكري وهو ما لم يحدث على مر تاريخ السياسة السودانية، بخاصة خلال تجربتي الانتقال السابقتين (1964 و1985)، حيث كان المكون العسكري منفرداً بالحكم في هاتين الفترتين، كذلك تريد الأولى أن يشهد الأخير استقراراً في هذه المرحلة، وألا يحدث له انتكاسة أو تعثر على الأصعدة كافة، لأنه بلد مهم ومحوري وموقعه استراتيجي في المنطقة، فأي انزلاق تجاه أي توترات غير محسوبة سيُدخل المنطقة في دوامة غير معروف مصيرها، لا سيما ما يجري من تصعيد مع الجارة إثيوبيا”.
ولم يستبعد مسؤول العلاقات الخارجية في حزب المؤتمر السوداني أن تكون لدى واشنطن أهداف ومصالح في السودان تسعى لتحقيقها وهذا شيء طبيعي ومفهوم، وغير مستغرب، وبالعكس، فإنه من الأفضل له أن تكون له علاقات قوية مع دول متقدمة ومؤثرة كأميركا لتثبيت مصالحه بما يعود بالنفع والفائدة لشعبه، بشرط ألا يرهن إرادته السياسية، وألا ينحاز إلى أي محور. مؤكداً أن الحكومة السودانية الجديدة المتوقع إعلانها قريباً يجب أن تنتهج سياسة خارجية مبنية على إرادة المصالح شعارها السودان أولاً.
ترميم الإرهاب
في حين يوضح المتخصص في السياسة الدولية أحمد حسين، أن “واشنطن ظلت مهتمة بتطوير علاقاتها مع السودان لفترات طويلة خلال الحقب السابقة، لكن تقطعت أواصر هذه العلاقة خلال النظام السابق بسبب رعايته الإرهاب، لكن مع اندلاع ثورة ديسمبر (كانون الثاني) التي أطاحت حكم الرئيس السابق عمر البشير بدأ الاهتمام الأميركي بالسودان، وزاد حماسه مطلع 2020 بعد إجازة الكونغرس الأميركي مشروع الانتقال والشفافية والمساءلة، كما أن التقدم الذي أحرزته الحكومة السودانية في مجال الحريات الدينية والسلام والعون الإنساني والتحول الديمقراطي والحوكمة كان دافعاً مشجعاً، فضلاً عن الجهود التي بذلها المكون المدني في ترميم قضية الإرهاب، فالإدارة الأميركية توصلت إلى قناعة أن السودان غيّر سياسته الخارجية، وأصبح بلداً متعاوناً مع المجتمع الدولي، ويتبع النهج الديمقراطي، وهذا ما يطمئن بأن أميركا تعمل بمؤسسية تحترم التنوع في اتخاذ القرار”.
وتابع حسين، “في ضوء هذه المؤشرات من المتوقع أن يكون هناك تطور كبير في العلاقات السودانية الأميركية خلال فترة حكم بايدن، وبالتأكيد فإن زيارته المرتقبة للخرطوم الشهر المقبل ستضع السودان في مرتبة متقدمة بين الدول المؤثرة بالمنطقة، مما ينسحب على علاقاته الخارجية مع دول العالم كافة، كما ستعطي دفعة وتطوراً غير مسبوقين في العلاقات المشتركة، خصوصاً أن أميركا تعد أكبر دولة على مستوى الديمقراطيات والمواقف الدولية، لكن هذا التوجه يتطلب وحدة الصف الداخلي والتوافق على مستوى الحاضنة السياسية للحكومة الانتقالية، وأن يعكس السودان صورة حسنة مع جيرانه، وأن يكون مستوعباً التحديات الماثلة أمامه، فضلاً عن اطمئنان الجانب الأميركي بأن السودان في الاتجاه الصحيح نحو التحول الديمقراطي، ولن يعود مرة أخرى للأنظمة الشمولية”.
هيمنة الصين
وأوضح المتخصص في السياسة الدولية، “مؤكد أن المصالح هدف أي دولة في تحركاتها الخارجية، وواشنطن تدرك جيداً ما يزخر به السودان من موارد عديدة وضخمة، لكنه يفتقد التكنولوجيا، لذلك جاء اهتمام أميركا هذه الأيام به لسد النقص الغذائي المتوقع بسبب جائحة كورونا، إضافة إلى بحث فرص استثمارية للشركات الأميركية في مجال التنقيب عن البترول والذهب والغاز للحد من هيمنة نفوذ الصين ليس في السودان لوحده، بل في أفريقيا، فضلاً عن أن الولايات المتحدة تسعى ليكون السودان حليفاً لها من جانب تعزيز حماية الأمن القومي الأميركي لحماية مصالحها بالمنطقة. لكن يجب على الحكومة السودانية أن تكون يقظة في رعاية مصالحها بأن تعمل على وضع الأطر والأسس القانونية في التعاملات والاتفاقيات مع الجانب الأميركي وغيره لحفظ حقوق ومصالح البلاد والشعب السوداني، وألا تنبهر بمسألة العلاقات مع أميركا”.
ويلفت أحمد حسين، إلى أن واشنطن لا تريد أن يكون السودان محفوفاً بالمخاطر بعد هذا التحول والتغيير الكبيرين، بخاصة من ناحية الإرهاب الذي يمكن أن يصدر له من جيرانه، خصوصاً في حدوده مع ليبيا المتاخمة لإقليم دارفور، فهي تريد أن تكون قريبة من الخرطوم لدعم عملية السلام في الإقليم، كما لدى واشنطن نظرة ورؤية بأن يصبح التحول الديمقراطي في السودان نموذجاً يحتذى في المنطقة العربية والأفريقية. مستبعداً أن يكون تركيز الجانب السوداني في علاقاته مع أميركا به خلل، بل بالعكس فإنه يخدم مصالحه، لكن يجب ألا تكون هذه العلاقة على حساب طرف آخر، فعلى الحكومة السودانية انتهاج سياسة خارجية متوازنة وألا تلتف حول محور واحد، ولا بد لها من الانفتاح على كل الدول المهمة، لا سيما الصين وروسيا وأوروبا، بحيث يكون لديها شركاء فاعلون، وأن تكون مدركة في الوقت نفسه بالتقاطعات والمصالح.
علاقات عامة
في المقابل يقول أستاذ العلاقات الدولية في الجامعات السودانية حسن بشير، إن “اهتمام أميركا بالسودان في الآونة الأخيرة له عدة أسباب، أهمها أن واشنطن تشعر بتأنيب ضمير بخطئها في فصل جنوب السودان عن السودان، وأنها تريد الاستفادة من موارد السودان الطبيعية في المجالات كافة، ومنافسة الصين التي تمددت في علاقاتها الاقتصادية والاستثمارية في قارة أفريقيا، لا سيما السودان، خصوصاً في مجال البترول والمعادن والذهب، فضلاً عن أنها تريد أن يكون لها موطئ قدم بالبلد بعد أن أصبح يحكم بالديمقراطية، مربوطاً ذلك بتقارب العلاقات السودانية الإسرائيلية، وابتعاد الأول عن محور إيران، وتركيا، وحماس. كما تبحث واشنطن عن فرص لشركاتها التي تضررت من جائحة كورونا، بخاصة قطاعا الطيران والبنوك وغيرهما”.
وأوضح بشير، أن زيارة الرئيس الأميركي الجديد للسودان في فبراير المقبل لا تعدو أن تكون في إطار علاقات عامة، بإعلانه دعم الحكومة المدنية، والتحول الديمقراطي في البلاد، فضلاً عن تحقيق المصالح المشتركة. فواشنطن تريد فتح أسواق لها وإعادة ترتيب اقتصادها بعد انتهاء أزمة كورونا، منوهاً أن السياسة تبنى على المصالح أكثر من أي شيء آخر من أجل تحقيق الرفاهية للشعب، وهو ما يجب أن يسعى له السودان في الفترة المقبلة، حيث آن الأوان لتكون المصلحة هي البوصلة في علاقاته الخارجية، بالتالي لا توجد غضاضة من أن تكون للخرطوم علاقة خاصة مع واشنطن، وإسرائيل وغيرهما، بعد أن دفع ثمن فاتورة اللاءات الثلاثة، والمقاطعة العربية لإسرائيل لسنوات طويلة.
إندبندنت