انتفاضة الجنيه السوداني وجنون الدولار.. من يكسب؟
استعاد الجنيه السودني بعضاً من عافيته، أمام الدولار الأمريكي في السوق السوداء، مع إطلالة الحكومة الجديدة، ليتراجع إلى نحو «345» جنيهاً بعد أن تخطى حاجز الـ«400» جنيه لأول مرة في تاريخه.
في حين يبلغ السعر الرسمي «55» جنيهاً، الأمر الذي دفع الحكومة إلى إعلان الحرب على المضاربين والتحرك على أكثر من صعيد للحد من التدهور.
وتزامن تهاوي الجنيه السوداني أمام العملات الأجنبية مع احتجاجات غير مسبوقة تشهدها عدد من الولايات، وعمليات نهب وتخريب ممنهج للممتلكات العامة والخاصة.
ونتج عن ذلك قفزة في التضخم ليصبح السودان الثاني عالمياً بعد فنزويلا، حيث ارتفع المعدل الرئيسي إلى «269%» ديسمبر الماضي، و«217%» في نوفمبر، حسب بيانات رسمية.
وطرح هذا التعافي الذي حدث لقيمة الجنيه عقب إعلان التشكيلة الحكومية الجديدة، تساؤلات عمّا إذا كان مؤقتاً لأم سيستمر، وما إذا كان باستطاعة الحكومة الجديدة كبح جماح الدولار، وما هي الحلول؟!
تخريب ممنهج
وكانت وزيرة المالية المكلفة السابقة د. هبة محمد علي، كشفت في آخر تصريح لها، عن تقارير أمنية توضح أن التراجع الحاد للجنيه سببه تخريب ممنهج.
وقالت إن ما يحدث من ارتفاع في سعر الدولار لم يكن بسبب تغييرات هيكلية في الاقتصاد وإنما هو عملية تخريب ممنهح للاقتصاد السوداني.
وذكرت أن الحكومة أيقنت بضرورة تفعيل حالة الطوارئ الاقتصادية وتكوين قوات مشتركة من الجيش والشرطة والمخابرات والدعم السريع لحماية الاقتصاد السوداني، ومطاردة المضاربين ومهربي السلع الإستراتيجية.
ويعاني السودان من خلل وعجز في الميزان التجاري، فواردات الدولة أكثر من صادراتها ما يشكل ضغطا متواصلا على سعر صرف الجنيه ويؤدي لانخفاض مستمر لقيمته أمام الدولار.
تحويلات غير قانونية
وحسب عاملين في تجارة العملة بالسوق السوداء، فإن الدولار مؤهل لمزيد من الارتفاع، وأعربوا عن أملهم في أن تؤدي التحركات الحكومية لإنقاذ العملة المحلية.
وقال أحد المتعاملين لـ«التغيير»، إن حالة من عدم اليقين بدأت تنتاب المتعاملين في الدولار، لكنه عاد وأكد أن ثبات أو تراجع الأسعار مرهون بتوفره في السوق الموازية.
فيما أوضح متعامل آخر، أن تجارة سوق العملة السوداء تشمل خليطاً واسعاً من كبار التجار وآلاف من صغار العاملين، بجانب بضع مئات يعملون خارج السودان ويقومون بإجراء تحويلات غير قانونية.
خيار تغيير العملة
وبدأت حكومة الانتقال العام الفائت تنفيذ إصلاحات اقتصادية شملت تحريراً جزئياً متدرجاً لأسعار الوقود، كما حرّرت أسعار الكهرباء مع بداية العام الحالي، وهي إصلاحات يُراقبها صندوق النقد الدولي.
وأرجع عضو اللجنة الاقتصادية لقوى الحرية والتغيير عادل خلف الله، تراجع قيمة الجنيه بالشكل الملحوظ إلى المضاربات التي يقودها تجار الذهب، بالإضافة لوجود نحو «95%» من النقد المتداول خارج مظلة القطاع المصرفي، وانخفاض صادرات السودان بصورة كبيرة مع وجود مشاكل تلازم رجوع حصيلة الصادر.
وقال خلف الله لـ«التغيير»، إن المخرج الوحيد لوقف تلك المضاربات تغيير العملة السودانية بأسرع وقت ممكن لتعافي الاقتصادي السوداني، والسيطرة على الأموال الضخمة التي تستخدم في المضاربات اليومية، المقدرة بأكثر من «5» ترليونات جنيه سوداني.
وأضاف: «آخر المناقشات حول ذلك الأمر كانت إبان اجتماعات اللجنة العليا للموازنة خلال الأيام الفائتة والذي تم الاتفاق فيه بين تلك الأطراف التي بينها بنك السودان المركزي ووزارة المالية على أن هناك ضرورة لإصدار عملة جديد لكن متى وكيف هذا ما لم يتم تحديده».
وأوضح خلف الله أن مثل هذه القرارات يتم إنجازها بسرية ولا يعلن عنها إلا لحظة تنفيذها.
وتابع: «خطوة تغيير العملة ظلت مطروحة منذ فترة للوصول إلى مرحلة الإصلاح الاقتصادي».
وعدها إحدى أدوات الوصول لمعالجة الأزمة الاقتصادية بالبلاد.
اقتصاد الظل
وأشار خلف الله إلى أن الكتلة النقدية خارج النظام المصرفي تعمل في اقتصاد الظل الأمر الذي يعكس سيطرته على الاقتصاد الكلي، وأن غالبها لازالت مكتنزة لدى عناصر النظام المعزول أو الشركات التابعة لهم.
ولفت إلى أن من أهم الدواعي لتغيير العملة أن التجربة أظهرت مراراً تصاعد أسعار الدولار والذهب، بجانب الأزمات المفتعلة في السلع الأساسية والمضاربة في المحاصيل النقدية والسعر التركيزي للقمح الذي حدده مجلس الوزراء.
وأوضح خلف الله أن الأموال المكتنزة تعمل في النشاط الإستهلاكي والطفيلي ما يعيق أي توجه لتحريك القطاعات الإنتاجية.
وحذر من استمرار المضاربات وتأثيرها السلبي على الاقتصاد الكلي الذي أصبح على حافة الانهيار.
وأشار لضرورة دخول الدولة كمشتر للذهب، واتخاذ إجراءات عاجلة تضمن الاستفادة من تحويلات ما يقارب «9» ملايين مغترب، والتي يبتلعها حالياً السوق الموازي ولا تستفيد منها الدولة بالشكل المطلوب.
إلغاء القيود
من جانبه، يؤكد الخبير الاقتصادي د. هيثم محمد فتحي، ضرورة إدارة المعروض وليس تحجيم الطلب لتداول الدولار الأمريكي، مع تسعير الجنيه بقيمته الحقيقية للقضاء على سعرين للدولار، وتوفير كافة احتياجات السوق من الدولار.
وقال هيثم لـ«التغيير» إن عدم توافر الدولار أصبح عائقاً جوهرياً أمام دخول المستثمرين للاستثمار بالسودان في الاستثمار المباشر، وكذلك بتحويلات السودانيين في الخارج، حيث أنه في ظل وجود سعرين للدولار يرفض العامل بالخارج تحويل الدولار الأمريكي عن طريق البنوك بسبب السعر المنخفض وغير الحقيقي في البنوك، في حين أن سعر الدولار في السوق الموازي يزيد عن المعلن من البنك المركزي بكثير.
وأضاف فتحي: «الآن يمكن أن يكون الحل العاجل في تسعير الجنيه السوداني بقيمته الحقيقية، وإلغاء القيود المفروضة على تداول الدولار بالسوق المحلي، وإلغاء القيود على تحويلات الدولار للخارج، ووقف نزيف الاحتياطي النقدي، وعلى أن يترك تحديد سعر الجنيه لقوى العرض والطلب بالسوق وهو ما يطلق عليه التعويم».
وأشار إلى أن ذلك يتم من خلال تعويم تدريجي للدولار أمام الجنيه من خلال خطة زمنية معلنة، وسيؤدي ذلك لتوفير مصادر تمويلية للدولار لتلبية احتياجات السوق بعيداً عن استنزاف الاحتياطي النقدي.
ورأى أنه سيكون لذلك مردود إيجابي على ارتفاع جاذبية السوق السوداني وزيادة الاستثمارات الأجنبية المباشرة وزيادة الصادرات وعودة تحويلات العاملين بالخارج، مما سينعكس على تحفيز النمو وزيادة الاحتياطي من العملات الأجنبية لدى البنك المركزي.
صعوبة التطبيق
وانتقد عضو اللجنة الاقتصادية للحزب الشيوعي السوداني د. صدقي كبلو، سياسة الحكومة السودانية في التحرير الكلي، وقال إن هذه السياسة مستوردة من الغرب ويصعب تطبيقها في السودان، لأن الاقتصاد يعاني من مشكلات بنيوية يصعب علاجها في ظل التدهور المريع لقيمة الجنيه.
وحذر من تطبيق سياسة البنك الدولي التي تعمل على زيادة معاناة الشعب السوداني.
وأشار إلى أن صندوق النقد الدولي كان أرحم من الخبراء السودانين، عندما عرضوا رفع الدعم كلياً، ولكن أهل الصندوق طلبوا منهم الرفع بالتدرج خوفاً على المواطن.
هيمنة الطفيلية
وعزا كبلو ارتفاع سعر صرف الدولار لإعلان الحكومة رفع سعر الصرف الرسمي.
وقال إن البرنامج الاقتصادي الحالي أدى لارتفاع سعر صرف الدولار وارتفاع معدل التضخم والأزمة الاقتصادية الحالية.
ودعا لقيام هيئة وطنية اقتصادية لإدارة المؤسسات الاقتصادية.
وأضاف بأن الطفيلية الإسلامية مازالت تهيمن على الاقتصاد.
وجدد دعوته لإيقاف الصرف البذخي واستيراد السلع غير الضرورية وتغيير العملة واتخاذ سياسة ضريبة جديدة تصاعدية.
وطالب بإجراءات عاجلة وصارمة لإصلاح النظام المصرفي والعودة للنظام المصرفي التقليدي بدلاً عن النظام الإسلامي الذي قال إنه فشل في تمويل العملية الانتاجية.
ودعا كبلو لإيقاف استنزاف النقد الأجنبي في استيراد المحروقات، وترشيد استهلاك الدولة من المحروقات بإصلاح السكة الحديد والنقل النهري، وإدخال الطاقة الشمسية والطاقات البديلة تتعلق بالصحة العامة.
التغيير نت