لماذا نقلت مصر المومياوات الفرعونية ..!

تنزع الدول الدكتاتورية دائماً إلى تسجيل أرقام قياسية، ولو في أتفه الأشياء. في مصر، مثلاً، يمكن بسهولة رصد كمّ هائل من أفعال التفضيل وصيغ المبالغة. بعدما طغت كلمات “الأكبر” و”الأعلى” والأضخم” و”الأعظم” على الخطاب، وصارت هاجساً للسياسات والاختيارات، ففقدت تلك الأوصاف وقعها، وتراجع سحرها لكثرة ما ابتُذلت في استخدامها بداعٍ وبغير داعٍ. وعلى الرغم من ذلك، لا تفوّت السلطة في مصر أيّ عمل أو حدث أو منشأة إلا وتجعل منها الأضخم والأفظع، فحرصت على إقامة “أعلى” برج في أفريقيا و”أكبر” مسجد في الشرق الأوسط (اتضح لاحقاً أنّه الثاني بعد مسجد في الجزائر).
ومن أحدث أمثلة النزوع إلى التباهي والزهو، عملية نقل 22 مومياء خاصة بملوك مصر القديمة وملكاتها من المتحف المصري في ميدان التحرير وسط العاصمة القاهرة، إلى المتحف القومي للحضارة المصرية على مسافة عشرة كيلومترات. ووفقاً للإعلام المصري، فهي العملية “الأكبر” لنقل مومياوات في العالم.

لا جدال في جدارة المومياوات الملكية بفعالية تليق بها، فتاريخ أولئك الملوك هو من تاريخ الحضارة والعلم على مدار آلاف السنين. ولا غضاضة في تقدير أولئك الملوك وتوقيرهم بما يستحقون، خصوصاً إن كان ذلك سيحقّق لمصر عوائد أدبية ومادية هي في أمسّ الحاجة إليهما. غير أنّ المبالغة في مظاهر الزهو والتفاخر في فعالية نقل المومياوات تتجاوز حدود التقدير اللائق، وتدخل في نطاق الافتعال والمبالغة الصارخة، وتثير التساؤل بشأن جوانب كثيرة في عملية النقل. مثلاً، لم توضح القاهرة أسباب اختيار هذا التوقيت تحديداً لتلك الخطوة، فموسم السياحة المصري شتوي بامتياز، وبالتأكيد لن يتقاطر السائحون على مصر في الصيف بسبب هذه الاحتفالية، فالتعاقدات السياحية تُبرم قبل مواعيد تنفيذها بشهور تصل إلى عام.

وكانت عملية النقل مقرّرة في يوليو/ تموز من العام الماضي، وتم تأجيلها بسبب مقتضيات جائحة كورونا، وغنيٌّ عن البيان أنّ الجائحة لم تنتهِ. في الوقت نفسه، فإنّ المتحف القومي للحضارة المصرية الذي انتقلت إليه المومياوات، مجهولٌ لأغلب المصريين، ويحتاج إلى دعاية واسعة ومطولة، لتأمين توافد السائحين إليه. وفضلاً عن افتقاد المصريين الوعي بأهمية المتاحف وتوثيق التاريخ الحضاري، لم تبذل مؤسسات الدولة أيّ جهد في التوعية به. ولا يعرف أحد، بمن فيهم المثقفون، إن كانت هناك فروق تميز متحف الحضارة عن كلّ من المتحف الأصلي القديم وذاك الجديد الكبير، سواء في المقتنيات والمعروضات أو في أيّ خدمات أو أنشطة أخرى يقوم بها، فالإعلام المصري ركّز، طوال الأعوام الماضية، على “المتحف الكبير” الذي كان مقرّراً افتتاحه العام الجاري (2021)، ولا يُعرف إن كان الافتتاح سيتم في موعده أم سيؤجّل.

وتبدّى هذا الفقر في المعلومات التي قدمها الوثائقي السينمائي الذي صاحب فعالية أول من أمس، إذ لم يتضمن شيئاً عن ذلك المتحف، سواء لقطات من داخله أو بيانات عنه، وكان في معظمه مشاهد من المواقع الأصلية التي اكتشفت فيها المومياوات المنقولة إليه.
ثمّة جانب آخر غامض يوسع دائرة التساؤل، فالمتحف المنقولة إليه المومياوات يبعد عن المتحف المصري القديم أقل من عشرة كيلومترات، ما يجعل التذرّع، في النقل، بتوفير الإمكانات التكنولوجية اللازمة لتأمين المومياوات والحفاظ عليها متهافت، أمام إمكانية، بل أفضلية، استحداث الإمكانات والتقنيات والمومياوات نفسها وهي في مكانها، وتوفير تكاليف النقل والتأمين، فضلاً عن المخاطرة بتلوث، وربما تأذّي أبدان المومياوات.
وهنا يبرز السؤال عن مصير المتحف القديم الذي يقع في قلب العاصمة، ويُطلّ على ميدان التحرير، أكبر ميادين مصر وأشهرها، وأسهلها للوصول إليه، فتفريغه من أهم القطع الأثرية وتحويلها إلى متاحف أخرى، سيحوّله إلى مجرد بناية قديمة يمكن تخصيصها لأغراض أخرى. هذا إن لم يكن الهدف هدم المتحف وإقامة فندق أو مشروع استثماري في مكانه المميز.
العربي الجديد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.