لو أن سؤالاً طرح على الرئيس المعزول عمر البشير يوماً من الأيام عن (السيناريوهات) المتوقعة لرحيله، لما خطر ببباله على الإطلاق، الوتيرة التي مضى بها حراك الـ (٤) أشهر الذي أطاح به، كما لم يتوقع أن (٥) أيام فقط من لحظة اعتصام القيادة العامة، ستكون هي ما تبقى له على حكم السودان، ولكن لأن القضية الأساسية كانت هي (الوطن) فكان لا بد من تحطيم قيود الخوف.
لم يكن البشير طوال أشهر الثورة على ما يرام، بدأ ذلك جيداً على قسماته، رغم محاولاته اليائسة التقليل من الاحتجاجات وتوجيه أصابع الاتهام نحو المندسين والمخربين والعملاء. كان يواجه ضغطاً بدأ من داخل حزبه بضرورة التنحي من قبل اندلاع هذه الاحتجاجات، وإفساح المجال أمام دماء جديدة، في حين يرى تيار آخر داخل الحزب ضرورة بقائه، لكنه وفي ظل هذا الضغط، أرادت نفسه الانصياع للتيار الأخير، وقد كان فأصبح يواجه ضغط الشارع وتيار حزبه الرافض بقاءه. حاول المعزول عمل بعض الإصلاحات لإنقاذ البلاد حتى موعد انتخابات أبريل ٢٠٢٠م، لكنها لم تجد حلاً حتى جاء اعتصام ٦ أبريل، وأيامه الثقيلة العجاف عليه وزمرته.
حساسية الوضع
كانت مجريات الأحداث وقتها ــ أي منذ اندلاع شرارة الثورة ــ تشير إلى أن هذه الاحتجاجات كسابقتها وسرعان ما تنخمد، ويمضي النظام في حكمه لحين موعد الانتخابات، لكن الجهة الوحيدة التي كانت ترى أن النظام في نهاياته، هي القوات المسلحة. ففي حين كان الجميع يراهن على بقاء البشير بانتمائه واستناده القوي على الجيش واتكائه على جهاز أمنه الباطش، كانت بالمقابل الاجتماعات داخل الغرف المغلقة بالقيادة العامة، تضع الخطط وتبحث كيفية إزاحة البشير دون عمله، لأن حساسية الوضع جعلتهم أمام معادلة صعبة تتطلب التروي.
وطبقاً لمسؤول عسكري رفيع المستوى فإن الاجتماعات كانت تناقش كيفية تنحي البشير، مؤكداً أن البشير وقتها لم يكن يشكل حضوراً في كل اجتماعات اللجنة الأمنية التي يترأسها، والتي تتكون من الجيش والأمن والشرطة والاستخبارات.
كانت اللجنة الأمنية، بحسب المسؤول العسكري، في غياب البشير عن الاجتماعات تناقش كيفية ذهابه، والخطوات المتبعة لذلك، وعندما يكون حضوراً كانت تناقش التقرير الأمني عن الوضع بالبلاد ككل.
عضو مجلس السيادة الفريق ركن ياسر العطا كشف أيضاً في تصريحات سابقة عن اجتماعات تمهيدية مع عددٍ من الضباط الكبار لطمأنة صغار الضباط الى الخطوة، قائلاً: (خططنا أن نعمل وعملنا في صمت، ومضينا، إلى أن كانت مليونية (٦) أبريل الحاسمة، واتفقنا مع قادة المعارضة على الاعتصام بالقيادة)، وتابع قائلاً: (تأخرنا في الانحياز للشعب حتى تتزايد أعداد المعتصمين، ولنرد أيضاً على أقطاب النظام السابق الذين كانوا يرددون أنّ المُعتصمين ليسوا كل الشعب السوداني، وأن هناك ملايين يمكن أن تخرج).
l;خلال أشهر وأيام الاجتماعات مع اللجنة الأمنية، سيما بعد مليونية (٦) أبريل، بدأ الخوف يدب داخل الرئيس المعزول. فالهتافات في العاصمة الخرطوم تعلو وبقوة، وتطرق على ضرورة ذهاب نظامه. وبدا وقتها يعيش حالة من الاضطراب، فماذا عليه أن يفعل؟ السلطة تتسرب من بين يديه، والهواجس حيال لجنته التي يترأسها تستوطن نفسه. والأسئلة الحيرى تفتك برأسه كلما خلد إلى فراشه، وأصوات الثوار وهتافاتهم تكاد تخرق أذنيه (الليلة تسقط بس).
كان البشير وبحسب مراقبين، يعلم أن الضربة سوف تأتيه من قواته المسلحة، فأراد أن يمنحها تفويضاً مسبقاً باستلام البلاد، وذلك عندما قال خلال حضوره التمرين الختامي لمهرجان الرماية للمدفعية بعطبرة قبل الاعتصام: (إذا جاء واحد لابس كاكي، والله ما عندنا مانع نسلموا البلد، لأن الجيش لما يتحرك ما بيتحرك من فراغ ويدعم العملاء، بل يتحرك للوطن وحمايته وحماية مكتساباته). تفويض البشير للجيش على الملأ كان مخالفاً لما تجيش به نفسه، فهو كان يريد التمسك بالسلطة حتى ٢٠٢٠م، وهو ما دفعه للعودة مجدداً لأحضان حزبه بعد أن أعلن تنحيه عن رئاسته، والوقوف على مسافة واحدة من كل الأحزاب. عودة البشير يوم (٩) أبريل إلى حزب المؤتمر الوطني كانت حدثاً لافتاً يومها، جعل اللجنة الأمنية توقن بضرورة ذهابه، وتحديد ساعة الصفر وبالفعل.
وطبقاً للمسؤول العسكري الرفيع ، فإن اجتماع
يوم الأربعاء (١٠) أبريل لم يكن البشير موجوداً فيه، بعد أن ذهب لاجتماع غير متوقع يوم (٩) مع أعضاء حزبه بمقر الحزب، عقب تنحيه من رئاسة الحزب وتفويض أحمد هارون لرئاسة الحزب بدلاً منه.
وقال: (في ذلك الاجتماع الذي لم يكن البشير حاضراً فيه قررنا تنحيه، بعد ان تلقينا تنويراً من جهاز الأمن والاستخبارات العسكرية، بضرورة ذهاب البشير وأن الأمر انتهى). وتابع قائلاً: (وضعنا الخطة وقمنا بتغيير الحراسات، وقطعنا عليه الاتصالات.(
محاولات البقاء
قبل ساعة الصفر التي اتفقت عليها اللجنة الأمنية، كان البشير يعمل في اتجاه مغاير محاولةً منه للتشبث. فبعد أن شعر بأن مياهاً تجري تحت الجسر، حاول الاحتماء بالمقربين إليه ممن يثق فيهم، فقام أولاً بإصدار قرار بتعيين صديقه ورفيق دربه عبد الرحيم محمد حسين مديراً لجهاز الأمن، بدلاً من صلاح قوش الذي بدأ يضع حوله علامات استفهام بعد دخول الثوار في القيادة العامة والاحتماء بالجيش، غير أن القرار لم ير النور، وبعد فوات الأوان، ففي تلك اللحظات كانت اللجنة الأمنية تعد العدة لاسدال الستار على حقبته، لكن وفق ترتيبات محددة. ولعل ما عجل بقرار اللجنة بحسب تصريحات نائب رئيس الجهاز الفريق أول أمن جلال الدين الشيخ لـ (الإنتباهة)، فإن آخر لقاء بين الرئيس المخلوع ونائبه عوض بن عوف كان بمثابة القشة التي قصمت ظهر البعير، وذلك عندما أبلغ البشير ابن عوف صراحةً بتنفيذ أوامره بفض الاعتصام وقتل المتظاهرين، إلا أن النتيجة كانت الانقلاب عليه بعد أن أبلغ ابن عوف اللجنة الأمنية التي اعترضت بشدة على الخيار.
الترتيبات مساء الأربعاء بلغت منتهاها، وحدد فجر (١١) أبريل ساعة الصفر، وتم الاتفاق، بحسب تصريحات سابقة للعطا، على أن يحتل البرهان وعبد الرحيم دقلو القيادة العامة وبيت الرئيس ويقوموا بتأمين الحراسات وتغييرها، وأن يذهب الكباشي إلى منطقة وادي سيدنا، ويتسلم زمام الأمر هناك، في وقت يتسلم فيه الفريق ركن ياسر العطا جبل أولياء، بينما يتسلم رئيس قوات الأركان البرية الفريق مجدي سلاح المهندسين ويسيطر عليه، ويتم بعد ذلك إعلان السقوط.
وبحسب المسؤول العسكري لـ (الإنتباهة) فقد تم تفويض البرهان من قبل ابن عوف لإبلاغ البشير بدلاً منه، وذلك لحرج ابن عوف، فضلاً عن أن كلاً من كمال عبد المعروف وهاشم عبد المطلب كانوا القادة الفعليين للجيش، وكان يتعذر عليهم مغادرة غرف العمليات، ولذلك تم تكليف البرهان.
وقال: (تم إخطاره وتحفظنا عليه داخل الاستخبارات العسكرية، ومن ثم نقلناه لسجن كوبر.(
الصباح اللاح
كان فجر الخميس الحادي عشر من أبريل ٢٠١٩م، استثنائياً. فالجميع استيقظ على صوت المارشات العسكرية التي حملها أثير الإذاعة القومية وبيان مهم ترقبوه بعد قليل، في انتظار حبس معه السودانيون أنفاسهم طويلاً، فكل المؤشرات تدل على نهاية نظام (البشير) وسط تساؤلات عما حدث وما يدور في أضابير القيادة العامة التي لجأ المعتصمون إلى ساحاتها منذ السادس من أبريل، يطلبون حماية الجيش ويرجونه تسلم السلطة والانحياز للشعب، على الرغم من أن المخاوف تملكت الجميع قبل يوم من اقتلاع النظام. فبعض المصادر وقتها أكدت عزم النظام على فض المعتصمين بالقوة عبر ما يعرف بكتائب الظل والأمن الشعبي التي تتبع لنظام الرئيس المخلوع، لتبدد مارشات الصباح تلك المخاوف وتنزل الستار على أطول حكم ديكتاتوري شمولي عرفته البلاد، وتطوي صفحة الاسلام السياسي الذي مكن للفساد تحت عباءة الدين، فذاق الشعب السوداني الأمرين وبلغ الضيق بالناس الجناحر.
والشاهد في الأمر أنه لم يكن يخطر ببال أحد أن خمسة أيام من الاعتصام بمقر القيادة العامة للجيش، ستكون حداً فاصلاً بين نظام البشير وحكومته وعهد جديد.
فعلى الرغم من اعتماد نظام الرئيس المخلوع على جهاز استخباراته وأمنه، إلا أن ذلك لم يثن الشباب عن الخروج وهم يرون رفاقهم يتساقطون بينهم على يد قناصة الأمن، فقد تبدد الخوف في دواخلهم وهم يرفعون شعار (الطلقة ما بتقتل بقتل سكات الزول).
تسقط تاني
ولعل اسمى المكاسب التي حصدها السودانيون هو كسر حاجز الخوف الذي أقعدهم ثلاثة عقود، وبحسب خبراء فإن تقليل البشير ونظامه من قوة الاحتجاجات، كان بمثابة القشة التي قصمت ظهرهم، غير آبهين بحراك الشارع فكان السقوط السريع.
وبسقوط (البشير) وحكمه سطر الشارع السوداني أحرفاً وضاءة في تاريخ السودان الذي حكى نضال الشارع الذي توحد لأكثر من أربعة أشهر مستمرة منذ (١٩) ديسمبر ٢٠١٨م، لكن وبإعلان الجيش اقتلاع رأس النظام السابق والتحفظ عليه في مكان آمن، كان بمثابة زلزال أحال فرحة المواطنين الذين ظلوا مترقبين لبيان القوات المسلحة أكثر من ثماني ساعات في يوم الخميس (١١) أبريل، إلى حزن ودموع في القيادة. فالبيان أكد على أن رموز النظام السابق مازالوا موجودين، فتنادت الدعوات إلى استمرار الاعتصام حتى يسقط أتباع النظام السابق. وطالب المحتجون برحيل (ابن عوف) رافعين شعار (تسقط تاني)، لينهي ابن عوف في مساء الجمعة (١٢) أبريل جدل المحجتين، ويخرج ببيان يعلن فيه تنحينه واستقالة نائبه كمال عبد المعروف، ويسلم قيادة المجلس العسكري للفريق أول عبد الفتاح البرهان
المصدر : الانتباهة
