في ليلة ” القمر الدامي”.. الخرطوم تبحث عن ثغرة في الحُجب لقراءة ألواح القدر !!

وهكذا تدور طواحين الأحداث الغليظة والناس تحبس أنفاسها حتى لا تتنفس ” أغبرة” تلك الطواحين وتختنق، وفي كل اتجاهات الرأي العام ثمة “ألغام” مزروعة تتربص بأقدام الذين يحجون إلى محراب الحقيقة.

في سودان “العجائب” السياسية ، لا شي يمكن أن يبقى على حاله ، إلا العناء والوحل في مستنقعات الضنك الطويل، بينما تنكمش وشائج الصلات والتحالفات السياسية القديمة، تتمدد هناك وعلى ذات مسرح الأحداث تحالفات أخرى، حتى يغدو القديم جديداً والجديد قديماً، لا شئ يستقر في مستقره، وبينما ترتفع لهجة الحفاظ على أمن وسلامة البلاد عند كل ألسنة العباد، لكنها ذات اللهجة التي تسقط أرضاً عندما تصبح ذات الألسنة سيوفاً للمبارزة في الغرف المغلقة ، وهناك خلف المتاريس التي تُنصب ثم تُزال، لا زال حلم “الصبايا” بـ”وطن” العدالة والحقوق والحريات، ترتفع عقيرته شامخة بالأسئلة الصعبة، بيد أن حكومة الشراكة تتواضع قدراتها حين الإجابة الصريحة، وهكذا تدور طواحين الأحداث الغليظة والناس تحبس أنفاسها حتى لا تتنفس ” أغبرة” تلك الطواحين وتختنق، وفي كل اتجاهات الرأي العام ثمة “ألغام” مزروعة تتربص بأقدام الذين يحجون إلى محراب الحقيقة.

(1)
بدون “بردلوبة” ..
البشير تتفتح عيناه لرؤية “دابة الأرض” ومغازلة “لاهاي”
حين قامت على حكمه ثورة ديسمبر، لم يكن الرئيس المخلوع البشير يرى شيئاً أبعد من استحالة سقوط عرشه بمجرد تظاهرات تحركها أصابع ناشطين يقيمون ليلهم ونهارهم على صفحات “الفيس بوك” و”الواتساب” – أو هكذا كان يقول مخاطباً حشوده المصنوعة بالمال والإعلام المأجور وقتها. لكنه – أي البشير- كان هو الأكثر ظناً بأن المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي لم تُصنع لأمثاله وإن إشتد عليه التضييق وكثرت الدعاوي القضائية، فهو كان يرى أن الطريق إلى لاهاي ينبغي أن يمر بطريق التنازل عن الحكم طوعاً أو كرهاً وهو ذات الأمر الذي كان البشير يحسبه من عجائب الدنيا، وأن الموت فقط هو الذي يمتلك صلاحية إنزال البشير من القصر إلى اللحد ولا شئ سواه. هبت ثورة ديسمبر وإمتلأت الشوارع بالثائرات والثوار، وتغني الأطفال بأنشودة السقوط الحتمي ، لكن كان البشير من هناك ومن على برجه العالي يراقب سقوط الشهداء ولا تعنيه البطولات المُلهمة التي باتت تغذي شرايين رفاقهم في الحراك الثوري الباسل، كانت فقط أصابعه تحسب عدد الساقطين بالموت وصولاً إلى الرقم الأخير الذي ينتظره وهو ضاحكاً حتى “الضرس” الأخير، وبينما كان هو في جنون عظمته يمارس هوايته المُفضلة في مسح وكسح المعارضين، كانت فتاوي أهل الدين القابعين تحت صولجانه، تأتيه بفتوى جواز القتل إلى بلوغ الرقم الأخير من جوقة المتظاهرين، لم يكن البشير وقتها يرى أن المسالك للسجون باتت مُعبدة بدماء الشهداء، فهو لا يسمع صرير أبوابها التي بدأت تتفتح منذ أن حاصر المتظاهرون قلعة الجيش ، ولا يقوى على قراءة ألواح القدر الفرعوني القديم ، بل كانت يداه لا تتحسس غير “الدباير” الموضوعة أكتافه، فهو لا يعلم بأن “الخيّاط” كان من خلف كواليس الأحداث ينسج “بردلوبة” على مقاس البشير الرئيس . ثم دارت عجلة الأيام ووجد البشير نفسه محبوساً بين أربعة جدران غليظة، يغمض جفنيه على حلم بـ”ثورة” يفجرها رفاق الحركة الإسلامية السودانية، تُعيده من محبسه وتنصب له المسارح ليرقص مجدداً ، ثم يشهر لسانه وعصاه للديسمبريين ولـ”الخواجات” وأصدقاء المحكمة الجنائية. لكنها هي لعنة “البردلوبة” التي مكث فيها قرابة العامين بتهمة حيازة النقد الأجنبي في بلد كان مواطنيها يحتشدون في صفوف “الصراف الآلي” ومنافذ البنوك ليروا بعضاً من نقودهم المحبوسة بأمر البشير في خزانات البنوك. وحين رفعت عن جسده “البردلوبة” عاد البشير إلى صلفه القديم ، وعادت إلى روحه مضخة الإدعاء الكذوب ، لكنه دون أن يدري لم يعد يتذكر ماقاله وتراقص به أمام أنظار العالم حينما كان يظن أن “لاهاي” مجرد أضغاث أحلام تراود خصومه السياسيين ، وهاهي الأخبار القادمة من آخر جلسات محاكمة للبشير وأعوانه تقول أن الرئيس المخلوع عمر البشير انتقد مواقف وسياسات الحكومة السودانية الانتقالية الحالية ؛ معتبرا أنها أضاعت الفرص الواحدة تلو الأخرى تباعا . كما لم يبد “البشير” خوفه من تسليمه إلى المحكمة الجنائية الدولية ؛التى تطالب بتسليمه لمحاكمته على تهم تتعلق بجرائم الحرب، كما علق البشير على عودته لارتداء الزي القومي بدلا من البردلوبة، مبينا أنه أكمل فترة الحكم عليه في قضية الأموال الأخيرة. وبخصوص الحكومة الانتقالية، قال البشير إنها أضاعت الكثير من الفرص والأهداف، مضيفا: “أقوان كثيرة على خط الـ18 أضاعتها، كانت فقط تحتاج لمن يسدد”. وأكد أن الحكومة الآن في وضع أصعب، بعد أن أكلتها “دابة الأرض”، وهي على وشك أن تسقط. وربما كان البشير وهو بدون “بردلوبة” ينظر للحكومة الانتقالية وكأنها مثل ملك سليمان ولولا أن أرسل الله تعالى “دابة الأرض” إلى منسأته وأكلتها حتى هوى سليمان لما عرف الجن بأن ملك سليمان قد انتهى، لكنه – أي البشير- من قبل وهو مُرتدياً “البردلوبة” كان لا يشغل باله غير الظهور أمام عدسات الكاميرات ، إما في حالة تثير شفقة السودانيين وتستدر تعاطفهم، أو هو ضاحكاً وغير مبالي بما آلت إليه الأوضاع.

(2)
الحلو مخاطباً افتتاحية المفاوضات..
ضربة “وتر” مُرهفة على قيثارة العدالة المفقودة
برع القائد عبدالعزيز الحلو رئيس الحركة الشعبية شمال في تخليق خطاب سياسي للحركة مختلفاً ومتميزاً ومتماشياً مع رغبات الثوار صُناع الثورة الحقيقيين، وهكذا كان منهاج القائد عبدالعزيز الحلو، دائماً ما يتحرك في المساحات الشاغرة في الخطاب اليومي الذي يمارسه شركاء الفترة الانتقالية، وحتى عندما يتمسك بالحديث عن “علمانية” الدولة فهو يدرك بأن الكلمة نفسها قابلة لشن دعاية إعلامية سالبة عن عموم التغيير والثورة، لكنها كان مُدركاً أيضاً لأهمية بناء سودان جديد عبر اللغة الواضحة والصريحة والتي لا تحتمل مجرد الاستماع لآراء منظومة السودان القديم إن كان شركاء الحكم حالياً يؤمنون بالثورة والتغيير حقاً. في الجلسة الافتتاحية والتي حرص عليها رئيس مجلس السيادة ورئيس الوزراء وأبديا فيها روحاً إيجابية نحو السلام الشامل، قال رئيس الحركة الشعبية لتحرير السودان شمال عبدالعزيز الحلو، إن العودة لطاولة المفاوضات مع الحكومة الانتقالية تعد إشارة لرغبتهم في التوصل للسلام. وأضاف الحلو في مخاطبته الجلسة الإفتتاحية التفاوضية بين حكومة الفترة الإنتقالية والحركة الشعبية لتحرير السودان شمال اليوم، ان إستئناف جولة المفاوضات تتوافق مع الذكرى الثامنة والثلاثين لتأسيس الحركة الشعبية لتحرير السودان والتي حاربت من أجل السودان الجديد. وأبان أن الحركة الشعبية لتحرير السودان شمال عملت مع حلفائها بعد ثورة ديسمبر المجيدة للوصول إلى إجماع لبناء السودان الجديد رغم التحديات التي واجهتها من أجل سودان يحترم التنوع ويقوم على الحرية والعدالة والمساواة. وقال إن الحركة الشعبية تراقب بقلق شديد تدهور وضع حقوق الانسان دون تقديم الجناة للعدالة، وهذه من أهم تحديات السلام والإستقرار. وأضاف “نؤكد عزمنا على التسوية السلمية من خلال المفاوضات لمخاطبة جذور الازمة في السودان”. حديث القائد عبدالعزيز الحلو خلال افتتاحية التفاوض تقديم الجناة للعدالة، هو اللحن الذي يكاد أن يكون الوحيد الذي تتغنى به الكتلة الثورية الحية هذه الأيام دون سواه، بل ينظر إليه الثوار بأنه هو أهم قضية في ثورة ديسمبر ودونها لا سلام ولا استقرار ولا تأييد لحكومة الفترة الانتقالية، وربما لهذا حرص عبدالعزيز الحلو أن تكون في مستهل أولوياته هذه القضية التي حدث اختراق فيها عبر التفاوض فسوف يكون لحركة عبدالعزيز الحلو السهم النفّاذ وصولاً لأهداف ثورة ديسمبر المجيدة، ومما يعني أن حركته سوف تُستقبل استقبال الفاتحين في الخرطوم، لأنها وضعت النقاط فوق الحروف !!.

(3)
بيان علي عثمان طه..
صياغة ” عرضحال” لما يهمس به “الإسلاميين”
عندما تفجرت ثورة ديسمبر المجيدة، كان غالبية جموع السودانيين تدرك بأن النائب الأول السابق للرئيس المخلوع، علي عثمان طه، هو المهندس الأول لمفاصلة الإسلاميين، وهو الذي أعاد إحياء الإنقاذ عبر جلباب المؤتمر الوطني، لكنه – أي طه- كان مُعرفاً في أوراق “الشعبيين” خاصة بأنه هو من غدر بشيخه الترابي وهو من أودعه السجن وهو من سلط البشير على رقاب كثير من رقاب أهل الجبهة الإسلامية، إلا أن البشير الذي أحس بخطر على عثمان طه في خواتيم حكمه، لم يكن يخشى شيئاً غير أصابع على عثمان طه من خلف كواليس المشهد، ولذلك أراد البشير التخلص من طه على نحو دراماتيكي هادئ لا تشوبه الشبهات السياسية العنيفة ولا يُعرف في أدبيات “الإخوان” بتصفية الحسبات الشخصية، لكن الأقدار وضعت علي عثمان طه والبشير في قفص اتهام واحد لم يكن يخطر على باليهما، وهو تهمة تدبير انقلاب الـ30 من يونيو 1989م – أي إرجاع قطر الأحداث إلى محطة انطلاقته الأولى، وهو ذات الأمر الذي يجعل الآن كل “الإسلاميين” يتحدثون بصوت واحد عند رفضهم للمحاكمة بهذه التهمة ، وأن الانقاذ لم تكن خطيئة ينبغي أن تحاسب عليها الحركة الإسلامية بقدر ماهي مسار سياسي فرضته ظروف واقعية ولهذا يفترض أن تنصرف السلطة الانتقالية عن هذا الشأن، متجاهلين بذلك بأن ثورة ديسمبر نفسها لم تقم إلا لضرورة محاسبة المتسببين في صناعة الانقاذ وديمومتها لمدة ثلاثين عاماً. وكتب كتب المتهم العشرون فى قضية مدبرى انقلاب ١٩٨٩م النائب الاول الاسبق للرئيس على عثمان محمد طه مرافعه قانونية عقب الجلسة التى عقدت صباح الثلاثاء . واعلن عثمان رفضه للادلاء باقواله امام لجنة التحرى لافتا الى عدم اعترافه بقانونية تسجيلها وعدم مشروعية الجهة الامرة بتشكيلها . وقال هذه الدعوى الجنائية وفقا لأحكام مايسمى (بالوثيقة الدستورية) وهي في الحقيقة (شنيعة دستورية) ليس لها من سمات الدساتير وأحكامها وصيغها ومبادئها إلا الإسم لما بنيت عليه من خروق وتجاوزات تخالف هدى المبادئ الدستورية وأصوله المستقرة فضلا عن التزوير الذي صاحب ميلادها مما حجب عنها اعتراف المنظمات الإقليمية والدولية والرأي العام الوطني٠ كما وأنها لم تصدر عن هيئة مفوضة أو منتخبة أو حتى استفتاء عام٠ بل ولا تتوافر عليها أجهزة رقابة تشريعية وقضاء دستوري٠
الجريدة




مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.