أول متهم سوداني يمثل طوعا أمام المحكمة الجنائية الدولية يروي تجربته

يعتبر بحر إدريس أبو قردة، رئيس جبهة القوى المتحدة للمقاومة المتمردة في دارفور، أول متهم في تاريخ المحكمة الجنائية الدولية يمثل طواعية بين يديها، وأول سوداني يحاكم أمامها في ظروف بالغة التعقيد، بعد أن اتهمته المحكمة مع ثلاثة آخرين بالتخطيط والمشاركة في الهجوم على قاعدة عسكرية للاتحاد الأفريقي عام 2007، مما أدى إلى مقتل 12 عنصراً من قوات حفظ السلام.

لكن تأويلات عدة ذهبت بالناس مذاهب شتى حول جدوى وتفاصيل وسيناريو المحاكمة وأهدافها، التي حصل بعدها على البراءة، في وقت كانت فيه المحكمة تشهر سيفها أمام رئيس الدولة وقتها عمر البشير. تفتح “اندبندنت عربية” هذا الملف، وتقلب صفحات التاريخ مع أبو قردة، بعد 11 عاماً على المحاكمة.

أصل القضية والاتهام

يروي أبو قردة كيف تضافرت إشارات صخب الخصومة السياسية وبعض من خيوط مؤامرة وتقاطعات الأحداث والسياسة وشيء من خيانة المقربين، لتدفع به إلى منصة الجنائية، لكن الأقدار تلطفت به وفق روايته، على الرغم من مخاوفه وشكوكه قبل وأثناء المحاكمة، فحصل على البراءة لعدم كفاية الأدلة. ومن المفارقات أن المحامي الذي دافع عنه حتى الخلاص من كل الاتهامات، هو المدعي الحالي للمحكمة الجنائية كريم خان، الذي خلف فاتو بنسودة.

حول بدايات القضية والاتهام، يقول أبو قردة، “حدث الهجوم على معسكر القوات الأفريقية في حسكنيتة بجنوب دارفور خلال فترة شهدت انسلاخات وانقسامات أدت إلى خلخلة السلسلة الهرمية للقيادة والأوامر، في بعض الحركات المسلحة، وتفلت بعض المقاتلين. وقد نتج عنها الهجوم على المعسكر، لكن وبسبب الخصومات السياسية حاول البعض الزج بي وبالحركة التي كنت أتزعمها بعد الانشقاق من حركة العدل والمساواة، وأعتقد بعض خصومي السياسيين أن الفرصة سانحة للتخلص مني في ذلك المنعطف، عبر مدخل المحكمة الجنائية الدولية، فتطوعوا بتقديم معلومات لمدعي المحكمة وقتها لويس مورينو أوكامبو، مفادها أن القوات التي هاجمت المعسكر تتبع لي ودعموا أقوالهم ببعض الشهود الزائفين، الذين زعموا لتأكيد ضلوعي مع سبق الإصرار والترصد، وقيادتي بنفسي المجموعة التي هاجمت المعسكر”.

يضيف “من الطرائف المحزنة، أن الشهود لم يتعرفوا على صورتي عند عرضها عليهم ضمن آخرين، كما أن خصومي عمدوا إلى استقطاب وتجنيد أحد حراسي الشخصيين بالإغراء والوعود المادية لدرجة سرقة (اللاب توب) الخاص بي، لاعتقادهم أنه يحوي معلومات تدينني، لكن الواقع أنني لم أتمكن أصلاً من استخدامه لظروف مناطق القتال الصحراوية”.

ويتابع “لكن وفي منتصف المشوار انقلب السحر على الساحر، بعد أن شعر الحارس بالذنب، ليقر بالحقيقة ويشهد أنه كان برفقتي في مكان آخر بعيداً عن موقع الحادث، واعترف في شهادته الجديدة بالاستدراج والإغراء اللذين تعرض لهما، ما ضعضع كل الأدلة والبراهين التي قدمت ضدي”.

أول من سلم نفسه طوعاً

شكلت القضية حالة غير مسبوقة في تاريخ المحكمة الجنائية، حيث مثل أبو قردة طوعاً أمامها، ما منح القضية صدى وزخماً كبيرين فأحدثت ضجة إعلامية على مستوى الرأي العام الدولي والإقليمي والمحلي.

لكن على ماذا أُسس الاتهام، وكيف وصل البلاغ إلى المحكمة، بخاصة أن معظم قضايا دارفور وصلت إلى المحكمة عبر لجان التحقيق الوطنية أو الدولية؟ يشرح أبو قردة، “لما كان الشاكي هو مدعي المحكمة أوكامبو، فقد استعان في تحقيقاته بكثير من الشهود ممن تبرعوا له بالمعلومات التي قادت إلى تأسيس الاتهام”.

لكن المحكمة اكتفت بمذكرة الاستدعاء ولم تصدر أمراً بالقبض عليك؟ يجيب “وفق النظم المتبعة في المحكمة بالنسبة إلى مثول المتهمين، فإما أن يتم الاستدعاء أو يصدر أمر بالقبض، لكن الأخير لا يصدر إلا إذا رفض المتهم المثول أو راوغ في ذلك، ونتيجة لسرعة إعلاني رغبتي صدرت مذكرة الاستدعاء”.

ويوضح أنه علم بالاتهام في البداية بطريقة شخصية عن طريق أحد موظفي المنظمات الدولية. أما الاتهام الرسمي فجاء لاحقاً بعد حوالى ستة أشهر تقريباً عن طريق فريق من مكلف من الادعاء عبر مندوب الحركة في أوروبا.

وعن أسباب التجاوب السريع مع المحكمة، يقول “على الرغم من علمي بخطورة القضية، وصعوبة التنبؤ بمآلاتها، لكن كان لدي أكثر من دافع للموافقة على المثول الطوعي، أولها إحساسي بالظلم، علاوة على أنني لم أكن أملك خياراً آخر سوى المثول، لأنني كمعارض موجود بالميدان، إما أن أذهب إلى المحكمة أو أختفي إلى الأبد، إذ سيصدر أمر بالقبض يجعلني مطارداً إلى الأبد”.

يضيف “كذلك من العوامل التي حفزتني للمثول الطوعي، أن رفضي ربما يهزم القضية التي ظللت أناضل من أجلها. كما أن رفض التجاوب مع المحكمة ربما يغلق الباب أمام مثول المطلوبين الآخرين”.

بسؤاله عما راج أيام محاكمته، عن وجود صفقة أو سيناريو متفق عليه، مع المحكمة لاستدراج الرئيس البشير وقتها إلى مصيدة الجنائية، نفى ذلك بقوله، “لقد سمعت بذلك لكنها كانت حملة منظمة قادها النظام في ذلك الوقت”، موضحاً “أعتقد أن الواقع وقتها كان يخالف ذلك، لأن أوكامبو اجتهد لإدانتي، وحرص بشدة على جمع معلومات مهولة بحثاً عن الأدلة، وذلك لغرض سياسي أراد أن يؤكد من خلاله توازن المحكمة، كونها لا تستهدف فقط قادة أو مسؤولين أفارقة”.

وحول الخطوات التي اتخذها، قال أبو قردة “لم يكن لدي أدنى فكرة عن المحكمة أو طبيعة عملها ونظامها عندما تلقيت الاتهام رسمياً، ولا أنكر أن هواجس كثيرة انتابتني، بحكم حداثة التجربة، لذلك كان أول ما فكرنا فيه مع فريق من الإخوة في الحركة، هو التواصل مع الأخ عمر قمر الدين مستشار رئيس الوزراء الانتقالي الحالي، ووزير الخارجية المكلف السابق، بحكم علاقتنا به كأحد أبناء منطقة الفاشر الموجودين في الولايات المتحدة وله خبرة ومعرفة بالمسائل الحقوقية”.

يضيف، “بالفعل مدنا قمر الدين، بقائمة بأسماء المحامين، وبعد الدراسة والتمحيص وقع اختيارنا على المحامي وقتها كريم خان. وبالتواصل معه طلب منا اللقاء في أديس أبابا وكان طريق الوصول إليه صعباً ومحفوفاً بالمخاطر، إذ اضطررنا إلى السفر عبر جنوب السودان على الرغم من الانتشار الكثيف للجيش السوداني”.

يواصل، “بعد أسبوعين من الجلسات المستمرة مع المحامي للاستماع إلى كل تفاصيل القضية، أكد لي أن القضية تعتبر الأولى من نوعها، وهي حقيقية وجدية، وكان دفاعه عني بمقتضى العون القانوني من دون أي أتعاب خاصة إضافية”.

غير أن أكثر ما كان يزعج المحامي، وفق أبو قردة، جزئية ترتبط بانضمام بعض ممن شاركوا في الهجوم إلى حركتي لاحقاً، من دون أن يتعرضوا للمساءلة أو أي إجراءات قانونية، وأنه من “المهم إقناع القضاة بأن ما تم كان بحسن نية، وفي ظل غياب قيادة سياسية مسؤولة ومؤسسية، وأن قبولي بذلك جاء بهدف منع وقوع المزيد من التفلتات، وهو ما تحقق بالفعل”.

إلى لاهاي عبر ليبيا

كيف كانت الرحلة من دارفور إلى لاهاي؟ يقول أبو قردة، “يبدو أن المحكمة لم تكن متيقنة أو تصدق جدية موقفي، لأن الحالة جديدة ولم تحدث منذ تأسيس المحكمة، ولم يتيقنوا من الأمر إلا بعد أن أخطرناهم بأن الطائرة التي تقلنا وبعض رفاقي غادرت بالفعل مطار نيروبي في الطريق إلى لاهاي”.

ثم يعتدل الرجل في جلسته وهو يستدعي تلك الأيام، مسترسلاً “تحركنا أولاً إلى ليبيا عبر الصحراء الكبرى في رحلة شاقة ومضنية، وفور وصولنا إلى طرابلس طلبت لقاء مدير الاستخبارات والرجل القوي في عهد معمر القذافي، عبد الله السنوسي، وطلبت منه الموافقة على إحضار أسرتي إلى طرابلس، لأنني في الطريق إلى لاهاي من أجل تسليم نفسي إلى المحكمة الجنائية الدولية، ولا أعلم ماذا سيحدث ولا المصير الذي ينتظرني، على الرغم من ثقتي في براءتي، لكن لم يعد أمامي خيار غير ذلك”.

يضيف “اندهش السنوسي بشدة وطفق يتحدث عن سوء المحكمة الجنائية واستهدافها للأفارقة، غير أنني أكدت له إصراري على الذهاب كمتهم وقائد للجبهة المتحدة للمقاومة. وبالفعل اقتنع السنوسي تحت ضغط إصراري، ووجه بتأمين إقامة لأسرتي، لكنه رأى ألا يتم السفر إلى لاهاي عبر ليبيا لأن ذلك من شأنه أن يشكل حرجاً لدولته، فكانت الوجهة من طرابلس إلى نيروبي”.

يواصل أبو قردة “تعرضنا في مطار نيروبي لإجراءات أمنية مشددة بسبب حملنا جوازات سفر لخمس دول مختلفة، ليس السودان، لكن بعد عدة ساعات وتدخلات، سمحوا لنا بالمغادرة إلى لاهاي، بعد أن التقينا منسق المحكمة الذي أكد لنا أن مندوبين من المحكمة سيستقبلوننا عند وصولنا إلى الجانب الآخر، وفور وصولنا تم نقلنا تحت الحماية إلى أحد الفنادق”.

14 يوماً من الجلسات

أما المحاكمة، فقد استمرت مدة 14 يوماً متواصلاً وفق الإجراءات العادية للمحكمة. ويوضح “فيما يتعلق بانضمام بعض المشاركين في الهجوم على المعسكر إلى حركتنا لاحقاً، ولتجاوز هذه النقطة، اقترح عليَّ المحامي أن أقدم بياناً أمام المحكمة، يوضح الملابسات والظروف التي صاحبت تلك الأحداث، بما يؤكد حسن النية ويقنع القضاة، وقد تم ذلك بالفعل”.

بعد تقديم البيان بدأت ملامح البراءة تتضح، وكان ضعف أقوال الشهود والبيانات والأدلة هو العامل الحاسم فيها، “أما شعوري الشخصي فقد كانت لحظة قوية من الفرحة والانتصار معاً، وصادف ذلك انطلاق مفاوضات الدوحة للسلام مع الحكومة عام 2010، فوزع أتباعي الحلوى واحتفلنا في العاصمة القطرية”.

ويشير أبو قردة إلى أن “البراءة كانت في 2010، بينما تم توقيع اتفاق سلام الدوحة في 14 يونيو (تموز) 2011 أي بعدها بنحو عام، وكان الاعتقاد بفبركة المحاكمة لا يزال يسيطر على الحكومة البشير، وهناك من استنكر وجودي ضمن مجلس الوزراء واعتبره إحراجاً للنظام، لكن في النهاية كان ذلك التزاماً قانونياً بموجب الاتفاق”.

وعمَّ إذا كان فعلاً قد أدلى بأي معلومات تورط البشير وقتذاك؟ ضحك الرجل وقال، “لم أغير رأيي حتى بعد أن أصبحت وزيراً في حكومة البشير المطلوب دولياً، بضرورة تحقيق العدالة ومحاكمة المتورطين في قتل أهلنا بدارفور. وكثيراً ما كان يمازحني بالقول: كل ما قمتم به من فبركات في لاهاي من أجل أن تورطني أنا، لأنك قد ذهبت إليهم مطمئناً. كما كان المطلوب الآخر عبد الرحيم محمد حسين وزير الدفاع الأسبق، يسألني: “طمنا وفهمنا كيف هو الوضع في لاهاي؟”.

يذكر أن المحكمة الجنائية الدولية أصدرت في 4 مارس (آذار) 2003 مذكرة باعتقال الرئيس السوداني السابق على خلفية جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية في إقليم دارفور غرب السودان، غير أن الحكومة وقتها رفضت التجاوب بأي شكل مع المحكمة.

وتشير تقديرات الأمم المتحدة إلى أن حوالى 300 ألف شخص قتلوا في الصراع الدائر منذ عام 2003 في الإقليم، بينما كانت الحكومة السودانية تقول، إن عدد القتلى لا يتجاوز 10 آلاف.

وكانت المحكمة الجنائية الدولية وجهت إلى بحر إدريس أبو قردة، زعيم الجبهة المتحدة للمقاومة، وهي حركة مسلحة، الاتهام بارتكاب جرائم حرب لضلوعه بالتخطيط والمشاركة وقيادته حوالى 1000 مسلح على متن 30 سيارة وتنفيذ الهجوم على معسكر حسكنيتة لقوات حفظ السلام التابعة للاتحاد الأفريقي (أميس) عام 2007، ما أسفر عن مقتل 12 عنصراً منها.

إندبندنت

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.