(هل تبقى شيء؟).. تساؤل طرحه البعض حينما أعلنت الحكومة في العاشر من يناير الماضي تسلمها لمنجم جبل عامر الشهير بانتاجه من الذهب، ولعل السؤال يجيء من منطلق أن الجبل شهد تسابقاً محموماً من العديد من الجهات الأهلية والزعامات القبلية للحصول على انتاجه من الذهب، وهرول الكثيرون إليه لتحقيق حلم الثراء، لكن ما لبث أن أصبح الجبل مركزاً لصراع نفوذ الزعامات السياسية والقبلية، بل جحافل من الوافدين المسلحين من دول الجوار.
فلم يكن جبل عامر في منطقة السريف بشمال دارفور عامراً فقط بالذهب البراق واكتناز الأموال، لكنه عامر أيضاً بالصراعات الدموية واصوات البنادق ومشاهد الموتى الذين سقط بعضهم بسبب انهيار آبار الحفر أو التسمم بالزئبق أو السيانايد المستخدم في معالجة وتنقية الذهب الخام، ولأن حلم الثراء والمال كان متاحاً من خلال صخور الجبل المعطاءة فقد سال لعاب العديد من الزعامات القبلية والسياسية، ووفد إليه حتى الأجانب ليس بمعاولهم فقط ولكن بسلاحهم يحمون به سطوتهم القسرية وتسللهم عبر الحدود في بلد كان يفتح أبوابه مشرعة آنذاك لكل دخيل ينتزع ــ بوضع اليد ــ بطاقة هوية اكتسبها غيلة، ومع ذلك كانوا يحملون ما كنزوه خارج اسوار وطننا الجريح، حتى أن وزير الداخلية في العهد البائد الفريق عصمت عبد الرحمن، طالب بتدخل الجيش لحماية المنطقة، بعد أن قال إن المنجم يسيطر عليه ثلاثة آلاف مقاتل أجنبي من دول الجوار.
الا أن القضية لم تكن فقط في تراجيديا الدماء ورائحة البارود ودخان البنادق المشرعة وتطفل الأجانب، لكنها كانت في صراع الكبار من زعماء قبائل وسياسيين في سدة الحكم في تلك الفترة القاتمة من تاريخنا الوطني .
قصة الكنز
وبحسب إحدى الدوريات الإعلامية، أنه تم اكتشاف الذهب في تلال جبل عامر من قبل معدنين متجولين في أبريل 2012م، ليتحول إلى أغلى مورد طبيعي في البلاد، إلا أن رموز النظام السابق استغلوه لتحقيق ثروات ضخمة.
وأطلق على أحد مناجم )جبل عامر( اسم )سويسرا(، وذلك لاحتوائه على مخزون ضخم من الذهب لدرجة أنه جلب ملايين الدولارات لمالكيه.
وبعد انتشار الخبر هرع المعدنون من مختلف أنحاء السودان ومن إفريقيا الوسطى وتشاد والنيجر ومالي ونيجيريا، وقيل إن أفراداً من قوات حفظ السلام قد انضموا للمغامرين الباحثين عن الثراء في جيل عامر بكل تضاريسه البيئية الصعبة والأمنية المتردية، حتى أصبحت المنطقة من أكثر المناطق خطورةً وسط انتشار الجماعات والعصابات المسلحة في تلك الفترة .
وتقول المصادر إنه تفادياً للنهب، كان المعدنون وتجار الذهب ينجزون تعاملاتهم عن طريق الشيكات التي يتم إيداعها في أحد البنوك في مدينة كبكابية القريبة .
ورغم صعوبة الحياة في تلك المنطقة الجبلية، الا أن وجود اعداد كبيرة من المعدنين الأهليين أغرى العديد من صغار المستثمرين بإنشاء متاجر ومطاعم وأندية مشاهدة، وحدث تغيير اجتماعي ملحوظ، حيث انتعشت الحالة الاقتصادية للعديد من المغامرين في مجال التعدين.
سيناريو الموت والدماء
ولأن النار تبدأ من مستصغر الشرر، فقد انطلقت شرارة القتال الأهلي في منطقة السريف بني حسين، بحسب المصادر، بسبب مشاجرة عادية بين شخصين سرعان ما تطورت لتشمل المئات, ونقل (راديو دبنقا) وقتها جزءاً من السيناريو الدامي حين قال: (اكد شاهد عيان ان الحكومة لم تأتِ الى المنجم إلا في اليوم الثالث), وقال: (إن المجموعة المتبقية من ذوى الحالات خاصة لا يستطيعون السير لمسافات طويلة، وهم الآن تقطعت بهم السبل، ولا توجد اية عربة تأتي أو تخرج من جبل عامر). وكشف شاهد العيان عن وجود جثث مازالت ملقية على الارض، بعضها في الخيام والبعض الآخر في العراء وعلى الشوارع. وناشد الحكومة وبعثة اليوناميد بشكل خاص التحرك لدفن الجثث التي مازالت مشتتة في العراء بجبل عامر. وكشف لـ (راديو دبنقا) آنذك عن وجود (260) شخصاً معه مازالوا موجودين داخل المنجم في جبل عامر، واشار الى ان الموجودين بالمنطقة يمثلون المرضى والمعوقين والجرحى الذين لم يستطيعوا الفرار بجلدوهم من المنطقة.
صراع الكبار
ويقول أحد المواقع الصحفية في الشبكة العنكبوتية إن والي ولاية شمال دارفور في العهد البائد يوسف كبر، عندما زار المنطقة قبل اندلاع القتال الأهلي، أهدى له رئيس لجنة الآبار في هذا اللقاء (خمسة آبار وثلاثة آبار في الخط الساخن)، وقد بلغ مجموع آبار الوالي يوسف كبر ثمانية آبار من غير رسوم، وقد وعدهم الوالي بأنه سيأتي بآليات حديثة وغيرها من الوعود الزائفة).
وفي حوار صحفي اتهم موسى هلال زعيم المحاميد الشهير الوالي يوسف كبر بأنه يقف وراء الأحداث الدامية التي وقعت آنذاك بمنطقة جبل عامر والسريف بني حسين التي نتجت عنها المواجهات بين قبيلتي الرزيقات والأبالة، وطالب هلال بتكوين لجنة محايدة بعيدة عن المؤتمر الوطني للتحقيق في تلك الأحداث، ثم اتهم (كبر) لاحقاً بأنه يمتلك منجماً للذهب، وقال إنه يملك كافة إثباتات تلك التهم، الا أن يوسف كبر اكتفى وقتها بالقول إنه سيرد على كل الاتهامات في الوقت والزمان المحددين. وأشار كبر إلى أن أحداث جبل عامر جرى استغلالها من جهات في محاولة لإزاحته من منصبه عبر تحريك الأحداث بعد أن استقرت الأوضاع.
غير أن موسى هلال الذي يمتلك مليشيات عسكرية من قبيلته، وضع يده لاحقاً على كنوز جبل عامر قبل أن تداهمه قوات الدعم السريع بشكل مباغت واعتقلته وذهبت به إلى الخرطوم مقيداً بالسلاسل، ليظل قابعاً في المعتقل ليخرج منه قبل فترة قليلة.
ثم أصبحت شركة الجنيد التابعة للدعم السريع هي التي تدير مناجم الذهب في جبل عامر، لكنها قامت بتسليمه للحكومة في يناير من العام الماضي، حيث أعلنت وزير المالية د. هبة محمد أنذاك ــ بمحلية السريف بولاية شمال دارفور ــ تسلم الحكومة منطقة جبل عامر من شركة الجنيد، وبتعاون وثيق مع وزارتي المالية والطاقة والتعدين وشراكة بناءة مع شركة الجنيد للأنشطة المتعددة.
الذهب في حرز الحكومة
وأخيراً بعد غياب طال أعلنت الحكومة أول امس تسلّم الهيئة العامة للأبحاث الجيولوجية إنتاج الذهب من مصنع جبل عامر لمعالجة مخلّفات التعدين (الكرتة) والذهب الرسوبي.
وبلغت الكميات المنتجة من الذهب التي تسلّمتها الهيئة أكثر من (13) كيلوجراماً، تمّ جمعها من الأودية والخيران ومعالجتها بواسطة المياه.
وأعلن وكيل الوزارة عبد الله كودي عن سياسات وإجراءات جديدة لتطوير العمل الإنتاجي في مشروع جبل عامر. وأضاف قائلاً: (المشروع سيكون الرافع الحقيقي لإنتاج الذهب عبر الأذرع والشركات التي تتبع للوزارة، والخطوة ستسهم في تطوير العمل الحقلي وتدريب الكوادر الجيولوجية ومهندسي التعدين والفنيين والعمال المهرة).
المصدر : الانتباهة