غابة السنط في الخرطوم تحت رحمة الفيضان والتعديات

تعيش غابة السنط العريقة في الخرطوم المحجوزة منذ أكثر من 80 عاماً، أزهى أيامها هذه الأسابيع، إذ تظل مغمورة بمياه النيل الأبيض طوال موسم الفيضان، حيث تتهادى أغصانها مع الموج ويعبث رذاذ المياه بأزهارها الصفراء الصغيرة المبتلة، لتضفي رونقاً خاصاً وإشراقاً على صفحة النيل المتغلغل داخل كل مساربها وحتى أعلى رؤوس وقمم أشجارها الأقرب إلى الشاطئ.

لكن يبدو فعلاً دوام الأحوال من المحال، إذ سرعان ما ينتهي موسم الفيضان وتنحسر عنها المياه وتبدأ مأساة غابة السنط، على الرغم من تحولها إلى منتجع أسري ومكاناً للرحلات الترفيهية ومتنفساً طبيعياً لسكان العاصمة الخرطوم، لكن مع ذلك تبدأ مشكلاتها ومعاناتها فتكثر التعديات على أشجارها وتتطاول عليها فؤوس الليل خلسة، بالقطع والاحتطاب من دون أدنى مراعاة لأهميتها البيئية ووضعيتها الخاصة.

محمية ولكن!

تكتسب غابة السنط أهمية خاصة نظراً لنوعية الأشجار ذات الميزة البيئية العالية، والقدرة الفائقة على التأقلم والتكيف مع كل المناخات والبيئات، وتحتل كغابة حضرية عريقة ومحمية بواسطة قانون الحياة البرية، موقعاً جغرافياً مميزاً ونادراً عند ملتقى النيلين الأبيض والأزرق في منطقة المقرن، مما يكسبها مناظر طبيعية وخضرة أخاذة ملفتة، وقد أهلها كل ذلك إلى صفة العالمية على مستوى معايير منظمة “يونسكو”.

مشاطئة محمية السنط للنيل الأبيض، وقدرة أشجارها على تحمل الغمر الكامل بالمياه لما يقارب ستة أشهر جعلاها تصنف عالمياً كأراض رطبة، ومنذ عام 1939 اُعتبرت محمية وتم حجزها ومنع المساس بها بأمر من الحاكم العام الإنجليزي آنذاك تقديراً لأهميتها البيئية والسياحية، كما اُعتبرت حرماً آمناً للطيور المهاجرة من كل أنحاء العالم، إذ تلوذ بها مجموعات كبيرة من الطيور العابرة للقارات كاستراحة “ترانزيت”، وهي في طريقها من وإلى آسيا وأوروبا وعدد من الدول الأفريقية، حيث يتم رصدها من قبل المراكز الأبحاث المتخصصة وشرطة الحياة البرية بصفة دورية، فضلاً عن كونها تمثل حقلاً دراسياً للمهتمين والعلماء وطلاب الجامعات.

مهددات حقيقية وتدهور ماثل

في السياق، حذر الأمين العام للمجلس الأعلى للبيئة في ولاية الخرطوم الدكتور بشرى حامد في حديثه إلى “اندبندنت عربية”، من اختلالات بيئية كبيرة تنتظر الخرطوم في حال تدهور وضع الغابة بالنظر إلى المخاطر التي تتعرض لها والتي قد تصل إلى درجة فقدانها بالكامل.

وانتقد حامد بشدة سلوك المواطن السوداني غير البيئي الذي يستسهل قطع الأشجار ولا يرى غضاضة في إعدامها ولا يشعر بأي ذنب بالاعتداء عليها، متجاوزاً حتى منظومة القيم الإسلامية والحضارية التي تعظم الخضرة وتحث على غرس الأشجار واستزراعها وحمايتها.

وعدد حامد جملة من المهددات التي تحيط بالمحمية، منها ظهور بعض المخططات السكنية في أطرافها الجنوبية، واقتطاع أجزاء منها لبعض الأنشطة والمشاريع الاستثمارية، إلى جانب ظهور السكن العشوائي بداخلها وعلى أطرافها وتربية الحيوانات الأليفة مثل الأبقار، وممارسة أنشطة مضرة بالغابة مثل نيران الطبخ، مما يهدد بحرائق قد تقضي على الغابة خلال ساعات معدودة، وقد يستحيل تعويضها مستقبلاً، مشيراً إلى أن تلك الأنشطة الضارة يصاحبها ضعف في الحماية القانونية للغابة وانعدام الأسوار والأمن حولها، مما يهدد بتحويلها إلى مسرح ووكر للجريمة والإجرام.

مطالبة ببرنامج دولي

وناشد حامد المنظمات العالمية والمجتمع الدولي التدخل لإنقاذ غابة السنط، مطالباً بتخصيص برنامج دولي لحمايتها وإعادة تأهيلها، مناشداً الحكومة الانتقالية بإصدار قرار واضح يستهدف حماية البيئة بتحديد مساحة أو نسبة محددة من ولاية الخرطوم كغابات محجوزة وزيادة الرقعة الخضراء فيها.

وأضاف حامد، “هناك آلية تنسيقية للمشاريع البيئية تضم كل الجهات المتخصصة في الولاية، مثل الغابات والزراعة والتخطيط العمراني والصناعة والشرطة، لكن تظل المشكلة والمحك دائماً في القدرة على تنفيذ القرارات المتخذة الذي يعتبر من أضعف الحلقات في الممارسة السودانية الرسمية على الإطلاق، وعلى الرغم من الجهود التي تبذلها الشرطة في حماية المحمية ووزارة الزراعة في حجز كثير من الغابات، إلا أن الإمكانات تعوقهما”.

وكشف عن قصور في التمويل الداخلي مما يدفع بالمجلس إلى الاتجاه للبحث عن تمويل دولي من أجل حماية الموجود وزيادة الرقعة الخضراء كمتنفس وتوازن بيئي، لكن العالم يراقب ويتابع ويرصد ويقرر المساعدة من عدمها بمدى الجدية في تطبيق القوانين والحماية.

وأشار حامد إلى أن “هناك مشكلات وثغرات تتعلق بالقوانين، إما في ضعفها أو عدم التطبيق الحاسم لها، إذ إن معظم القضايا المتعلقة بالغابات لا تجد العقوبات الرادعة وسرعان ما يطلق سراح المجرمين ليعودوا من جديد إلى الممارسات الجائرة نفسها بحق الغابات، حتى أصبح قطع الأشجار أمراً شبه عادي”.

من جانبه، قال مدير الهيئة القومية للغابات السودانية عثمان عمر عبدالله لـ “اندبندنت عربية”، إن حماية الغابات ومنها غابة السنط يحتاج إلى جهود كبيرة، على رأسها رفع الوعي البيئي وتعزيز الثقافة الخضراء والتشجير، مبيناً أن السودان يحتفل هذه الأيام بعيد الشجرة وهي مناسبة ممتدة وتتكثف في فصل الخريف تحت شعار من أجل سودان أكثر اخضراراً”، حيث تشهد البلاد تكثيف عملية التشجير على مستوى المناطق والولايات.

خسارة الطيور المهاجرة

وأوضحت مديرة مركز أبحاث الحياة البرية في وحدة بحوث وزارة الثروة الحيوانية لبنى محمد عبدالله لـ “اندبندنت عربية”، أن المركز يعكف على إعداد برامج ودراسات بالشراكة مع الجمعية السودانية لحماية الحياة البرية، حول آثار التهديد والتحديات الكبيرة التي تتعرض لها غابة السنط وانعكاساتها على معظم أنواع الطيور المحلقة المهاجرة، التي تتخذ هذه المحطة معبراً لها في هجرتها ومساراتها عبر البحر الأحمر أو نهر النيل بصورة غريزية، لأن خسارتها تعتبر فقداناً لمكون بيئي أساس في مجال التنوع الحيوي في السودان.

في المنحى ذاته، أوضح الناشط البيئي عوض محمد صديق، المصور المحترف في تصوير الحياة البرية والطيور ومؤسس نادي مراقبة الطيور السوداني، أن غابة السنط تمثل مأوى لعدد كبير من الطيور المهاجرة والنادرة، وأن التعديات المتكررة تهدد بتدمير الغابة التي تحتضن أكثر من 930 طائراً مهاجراً، مشيراً إلى أن النادي يهتم بنشر الوعي البيئي وحماية هذه الغابة التي تعتبر قبلة للمهتمين بالطيور والحيوانات البرية، مؤكداً توثيقه لعدد من التعديات المتزايدة على الغابة التي تتطلب حمايتها تضافر الجهود الوطنية كافة.

وأوضح صديق أن الجهود التي يبذلها نادي الطيور في الحفاظ على التراث الطبيعي تواجه أيضاً تحديات عدة من أجل إجراء مسح للطيور السودانية والمهاجرة في أوقات مختلفة، لكن تنفيذ هذا المشروع يحتاج إلى دعم كامل ومعينات كبيرة.

حملات الشرطة مستمرة

تنفذ شرطة ولاية الخرطوم حملات منتظمة ومتتالية لحماية غابة السنط من الاحتطاب الجائر، وقد ضبطت على فترات متباعدة عدداً من المتهمين وكميات كبيرة من أخشاب الأشجار المقطوعة جاهزة للتهريب إلى خارج الغابة.

وأوضح المكتب الإعلامي للشرطة أن الاهتمام بحماية غابة السنط ينبع من كونها تمثل متنفساً ورئة طبيعية لسكان العاصمة، وتشكل إحدى حلقات التوازن البيئي ومكاناً للترفيه والتنزه، لذا شكلت الشرطة فرقاً بحثية للتقصي وجمع المعلومات كشفت عن وجود قطع منظم للأشجار داخل الغابة في أوقات متأخرة من الليل.

وتشتهر شجرة السنط كإحدى النباتات المعروفة منذ آلاف السنين، وتعرف بعدة أسماء أهمها “الطلح” و”القرض” والـ “أكاسيا” و “أم غيلا”، وهي تنمو بشكل خاص في المناطق الاستوائية من قارات أفريقيا وآسيا وأستراليا، وتضم ما يقرب من 1300 نوع، ولها العديد من الفوائد بالنسبة إلى الإنسان.

ويستخرج من السنط الصمغ الذي يدخل في صناعة دباغة الجلود وغذاء الحيوانات وصناعة بعض مواد التجميل والألوان، وتستعمل أخشابها للزخرفة والزينة.

إندبندنت

تعليقات الفيسبوك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.