أكثر من مجرد شكل جديد.. لماذا يغير فيسبوك علامته التجارية بعد 17 عاما على تأسيسه؟
سودافاكس – في مسرحية “روميو وجولييت”، رائعة الأديب الإنجليزي الأسطوري ويليام شكسبير، تُجادل جولييت حبيبها بأن اسم عائلته ليس مهما قائلة: “ما أهمية الاسم؟ فالوردة تحت أي اسم ستكون رائحتها حلوة أيضا”. تقصد جولييت أنه في إطار العلاقة بين الحبيبين فالأسماء لا تعني أي شيء. ومع كون هذا المعنى مغلفا برومانسية لطيفة بلا شك، ففي عالم الأعمال تحديدا، يعرف الجميع أن الاسم في معظم الأحيان هو “كل شيء”. (1)
لذلك، عندما سرَّب موقع “ذا فيرج” (The Verge) التقني العالمي خبر أن شركة “فيسبوك” على وشك تغيير اسم علامتها التجارية، لاقى الأمر صدى واسعا بين مستخدمي الشبكة الاجتماعية الأكبر حول العالم. صحيح أن التغيير لن يطول اسم منصة “فيسبوك” للتواصل الاجتماعي، بل مُتعلِّق باسم الشركة الأم، لكن علامات الاستفهام تزايدت، خاصة أن التغيير جاء متزامنا مع إعلان الشركة عن منتجها الجديد في الواقع الافتراضي “ميتافيرس” (Metaverse) الذي يُمثِّل منعطفا مختلفا تماما في مسار الشركة العالمية التي أسَّسها مارك زوكربيرغ عام 2004 بوصفها واحدة من أكثر منصات التواصل الاجتماعي العالمية تأثيرا. (2)
هذه الخطوة -وإن كانت متوقَّعة منذ وقت طويل نسبيا من قِبَل المحللين والمُسوِّقين المخضرمين- تُعتبر إشارة واضحة من فيسبوك إلى أنه لم يعد مجرد منصة تواصل اجتماعي، وأنه يسير على الطريق نفسه الذي يسلكه العمالقة الذين لا يكتفون بمجال واحد. تذكَّر أن “أمازون” بدأت متجرا إلكترونيا لبيع الكتب، ثم تحوَّلت إلى أكبر منصة تجارة إلكترونية لبيع “كل شيء آخر” لاحقا!
إعادة تسمية العلامة التجارية
عموما، تسمية العلامة التجارية (Branding) شيء، وإعادة تسميتها (Rebranding) شيء مختلف تماما. الظروف والمعايير التي تحكم تسمية شركة ناشئة ما زالت تحبو خطواتها الأولى قطعا ستختلف عن ظروف ومعايير شركة موجودة في السوق، وربما تُهيمن عليه، وتُقرِّر أن تغير تسمية علامتها التجارية بقرار إستراتيجي يُجنِّبها مشكلات حالية أو يفتح الباب لفرص مستقبلية.
إعادة تسمية العلامة التجارية (Rebranding) هي إستراتيجية تسويقية تقوم على تغيير هوية الشركة أو صورتها الذهنية لدى عملائها، لأسباب تراها الشركة ضرورية لبقائها أو تحسين أدائها ونموّها في الفترة المقبلة. قد يشمل هذا التغيير اسم الشركة، وقد يشمل شعارها التجاري، وقد يشمل تغيير الخط واللون وطريقة العرض.
ورغم أن إعادة تشكيل العلامة التجارية يبدو للوهلة الأولى أمرا شائعا للشركات الكبرى، فإنه في الحقيقة ينطبق أيضا على الشركات الصغيرة والناشئة وحتى العلامات التجارية للموظفين المستقلين (Freelancers)، حيث تُعَدُّ هذه الإستراتيجية جزءا أصيلا من إستراتيجيات التسويق بغض النظر عن أحجام المؤسسات وشهرتها وأعداد فروعها وموظفيها. (3)
أكثر من مجرد “نيو لوك”
عندما أصدرت شركة “مارس” للشوكولاتة منتجها الجديد “ريدر” (Raider)، وهو أصابع شوكولاتة محشوة بالكراميل، عام 1967، وجد المنتج انتشارا جيدا في أوروبا وامتد إلى أميركا. ونتيجة لذلك، قرَّرت الشركة الانطلاق إلى الأسواق العالمية في بداية التسعينيات، لتتخذ أهم خطوة فيما يخص منتجها، وهو تغيير اسمه من شوكولاتة “ريدر” -رغم استمراره أكثر من 20 عاما- إلى شوكولاتة “تويكس” (Twix)، ببساطة لأن السوق العالمي له قواعد مختلفة في التعامل مع العلامات التجارية. (4)
يظل الانتشار العالمي (Internationalization) واحدا من أهم دوافع إعادة تسمية العلامة التجارية للشركات أو منتجاتها على السواء. بحسب الإحصاءات، فإن قرابة 60% من الأعمال التجارية الصغيرة حول العالم لها زبائن عالميون، ويُخطِّط 72% من مؤسسي المشاريع الصغيرة للتوسُّع الخارجي، بينما ترى 96% من الأعمال التجارية أن لديها فرصة لتوسيع نشاطها المحلي إلى الخارج. هذه الأرقام تستدعي بالضرورة تعديل العلامة التجارية للشركة أو منتجاتها لتتواكب مع خُططها للانتشار خارج الحدود، خصوصا عندما يكون لعلامتها التجارية وقع شديد المحلية وغير مفهوم للأذن والعين الأجنبية. (5)
أعلنت شركة “غوغل” عام 2015 بأنها غيَّرت اسم علامتها التجارية للشركة الأم إلى شركة “ألفابت” (Alphabet)، مع بقاء اسم “غوغل” ساريا لمنتجاتها الرقمية.
لكن تغيير اسم العلامة التجارية ليس مرتبطا فقط بعولمة المنتجات والخدمات لتناسب أسواقا أخرى، وإنما قد يكون أيضا بسبب التوسُّع في إنتاج خدمات ومنتجات أكثر تنوعا بكثير مما تتحمَّله العلامة التجارية الأصلية. على سبيل المثال، أعلنت شركة “غوغل” عام 2015 بأنها غيَّرت اسم علامتها التجارية للشركة الأم إلى شركة “ألفابت” (Alphabet)، مع بقاء اسم “غوغل” ساريا لمنتجاتها الرقمية. هذا التغيير يُتيح للشركة أن تتوسَّع في نطاقات أكبر خارج نطاق عملها بوصفها مؤسسة رقمية والدخول في نطاقات أخرى، مما يُوسِّع من مجال إيراداتها ومشروعاتها المستقبلية، ويعفيها من أي مشكلات ثقة قد يشعر بها عملاؤها على المدى الطويل. (6)
أبقِ الاسم وغيِّر الوظيفة
عندما عاد ستيف جوبز لمنصب الرئيس التنفيذي لشركة “أبل” عام 1997، بعد سلسلة من الأزمات والمشكلات التي أحاطت بها، كان مجيئه إعلانا لطريقة إدارة مختلفة تعتمد على الإبداع، وكانت واحدة من أهم وسائل التعبير عن هذا التغيير هو تعديل الشركة لشعارها من تفاحة مليئة بألوان قوس قزح إلى تفاحة معدنية اللون.
بقيت التفاحة المقضومة كما هي، ولكن مجرد تغيير ألوانها اعتُبِرَ رسالة لمستخدمي “أبل” ومستثمريها أن ثمة تغييرا شاملا ستشهده الشركة سواء في نمط إدارتها أو نوعية منتجاتها خلال السنوات المقبلة، وهو ما كان بالفعل. لاحقا أنتجت “أبل” أعظم منتجاتها مثل الآيفون والآيباد.
بقدوم عام 2007، ومع الاتجاه الجديد لشركة “أبل” في صناعة منتجات إبداعية غير مسبوقة، أعلن ستيف جوبز عن إسقاط كلمة “كمبيوترز” من اسم شركة أبل، لتتحوَّل إلى شركة أبل المحدودة. كان مُبرِّر جوبز حينئذ أن كلمة “الكمبيوتر” تُشير إلى مجرد منتج واحد فقط من المنتجات التي تُطوِّرها “أبل” التي أصبحت تشمل أجهزة الموسيقى والهواتف والأجهزة اللوحية، مما يستدعي حذف هذه الكلمة من العلامة التجارية للشركة. بعبارة أخرى، كان هذا الإجراء إشارة إلى أن “أبل” لم تعد مجرد شركة متخصِّصة في تطوير أجهزة الحاسوب فقط، وإنما شركة تهدف لتغيير نمط حياة الناس تقنيا. (5)
هذا التحوُّل في إعادة تسمية العلامة التجارية بمدلول تجاري أوسع، مع الإبقاء على الاسم الأساسي للشركة، يُعَدُّ من أشهر التحوُّلات في عالم الشركات التقنية ولا يمكن حصره، فمثلا غيَّرت شركة “سناب شات”، المسؤولة عن تطوير تطبيق الفيديو الشهير، علامتها التجارية عام 2016 إلى “snap Inc”، مما أتاح لها طرح منتجات خارج نطاق التواصل الاجتماعي عندما قدَّمت للعالم أول زوج نظارات كاميرا تحت اسم “Spectacles”، لتُعيد تقديم نفسها بشكل مختلف تماما عن هويتها الأصلية. (7)
إعادة التموضع في عيون العميل
أما “وولمارت”، متجر التجزئة الأميركي العملاق، فنظرته لإعادة تسمية علامته التجارية لم تشمل تغيير اسمه العريق، بل تغيير المغزى من الشعار. فمع شهرته الكبيرة بأنه متجر يُقدِّم الخدمات والمنتجات في السوق الأميركي بأرخص الأسعار، غيَّرت متاجر “وولمارت” عام 2007 الجملة الفرعية في شعارها من “دائما أقل الأسعار” إلى جملة “وفِّر المال، عِش أفضل”.
هذا التغيير الذي يبدو بسيطا ساعد “وولمارت” في إعادة التموضع (Repositioning) في نظر عملائها، من شركة تستهدف جذب العملاء وإغراءهم بأسعارها القليلة (المعنى هنا قد يُشير إلى مصلحة “وولمارت” واهتمامها بتحقيق الربح بشكل أكبر) إلى شركة تحرص على توفير أموال عملائها وعدم إهدارها وتهتم بتوفير حياة أفضل لهم. فرق كبير بين المعنيين ساعد الشركة في جذب المزيد من العملاء، لتصبح عام 2010 واحدة من أكبر الشركات حول العالم جذبا للإيرادات وفق تصنيف “فوربس” لذلك العام.
التغيير بإعادة التموضع أمام عملاء حاليين ومستقبليين لا يشمل فقط التبشير بعصر أو إدارة جديدة أو مبدأ جديد، بل أحيانا يكون لأغراض دعائية مواكبة للعصر تُرسل إشارات حول الهروب من النمطية. فشركة “شِل” (Shell) للنفط مثلا غيَّرت علامتها التجارية -مع استبقاء الاسم- نحو 8 مرات منذ عام 1909، بينما شعار شركة “بيبسي” للمشروبات الغازية الحالي لا علاقة له بأول شعاراتها منذ تأسيسها في نهاية القرن التاسع عشر. بالتأكيد حدث تطوُّر في خدمات “شِل” ومنتجات “بيبسي”، ولكن تغيير العلامة التجارية بالنسبة للشركتين كان ضرورة لمواكبة تطورات العصر دعائيا. (5)
إعادة التموضع يعني أيضا الانحناء للعاصفة، فعندما صدر فيلم “سوبر سايز مي” (Super Size ME) عام 2004، الذي يُعتبر من أقسى الأفلام التي تهاجم مطاعم الوجبات السريعة والأخطار المُحدقة بصحة ملايين البشر من وراء الأطعمة التي تُقدِّمها، كان من الطبيعي أن تواجه “ماكدونالدز” مشكلات عاصفة، وأن يؤثر الفيلم على مبيعاتها سلبا، باعتبار أنه إذا ذُكرت الوجبات السريعة فأول ما يتبادر إلى الذهن هي سلسلة مطاعم “ماكدونالدز” العالمية.
في مواجهة هذا التصاعد في الهجوم على مطاعم الوجبات السريعة، أنفقت “ماكدونالدز” ميزانية طائلة في إستراتيجيتها لتعديل تأثير علامتها التجارية وتحويلها من مجرد مطاعم للوجبات السريعة إلى مطاعم وجبات سريعة تحتوي على بعض المكوِّنات الصحية، وذلك بزيادة مستوى الخضراوات العضوية والسلطات في قوائم الطعام للراغبين فيها، والإعلان عن عدم وضع مواد حافظة في مكوِّنات الطعام. لم تُغيِّر “ماكدونالدز” منتجاتها أو اسمها أو طابعها العام، ولكن غيَّرت من طريقة ظهورها للانحناء للعاصفة. (8)
حسنا.. لماذا يغير فيسبوك علامته التجارية الآن؟
يمكن القول إن الإجابة عن هذا السؤال هي كل الأسباب المذكورة أعلاه مجتمعة. في الواقع، الشركة كانت قد لمَّحت إلى نيتها تغيير علامتها التجارية منذ فترة طويلة، حيث اقترح أنطونيو لوشيو، رئيس قسم التسويق السابق في فيسبوك، أن تبدأ الشركة في الفصل بين العلامة التجارية للشركة وبين تطبيق التواصل منذ ثلاث سنوات. كان الاقتراح أن يُحوَّر الاسم ويُبسَّط إلى شيء مثل “FB Inc” أو “FACEBOOK Corporation”.
لكن واقع الشركة والتحديات التي تواجهها كانت تحتاج إلى ما هو أكبر من اختصار كلمة “فيسبوك” في حرفين، أو إعادة تجديد الاسم بكتابته بحروف كبيرة فقط. على رأس هذه التحديات تأتي السمعة المتراجعة بقوة للشركة التي بدأت بفضيحة “كامبريدج أناليتيكا” وتورَّطت فيها الشركة أثناء الانتخابات الأميركية عام 2016، حيث اتُّهِمت بجمع البيانات الشخصية لملايين المستخدمين وتوظيفها في الدعاية السياسية. كانت هذه الضربة واحدة من أكثر العواصف التي هزَّت مصداقية العلامة التجارية لفيسبوك وسط شرائح ضخمة من مستخدميه، واستمر صداها طيلة سنوات لاحقة كلما فُتح ملف الخصوصية على الإنترنت. (9)
وبحسب دكتور داستن يورك، بروفيسور التواصل في جامعة ماريفيل، فإن “إعادة تسمية العلامة التجارية للشركة القابضة تُعتبر خطوة إستراتيجية مع زيادة الاعتراضات حول دور فيسبوك في التأثير على الصحة النفسية للمستخدمين وتزييف المعلومات واختراق الخصوصية. يجب أن تُفصَل هذه السمعة السيئة لفيسبوك عن بقية منتجات الشركة، سواء الحالية أو مشاريعها المستقبلية. شركة “جونسون آند جونسون” لا تضع اسم شركتها القابضة على كل منتج من منتجاتها، فإذا خسر منتج معين ثقة العميل، فبالتأكيد لن يصل الأثر السلبي إلى علامة “جونسون آند جونسون” التجارية، وسيظل الأمر مقتصرا على المنتج فقط. الاسم الجديد لشركة فيسبوك القابضة ينبغي أن يفصل بين منتجاتها، ويُمثِّل رؤية الشركة الجديدة، وهي مشروع الميتافيرس”.
أما العاصفة الثانية، وربما الأخطر، فتتعلَّق بتزايد الإشارات حول عزوف جيل المراهقين والشباب -ما يُسمى بالجيل z- بشكل كبير عن فيسبوك وخدماته، واتجاهه إلى وسائل تواصل اجتماعي أخرى تعتمد على الترفيه، بعيدا عن التعليقات والإعجابات ومشاركات الصور، مما اعتُبر ناقوس خطر حقيقي أمام الشركة العملاقة المُهيمنة على قدر كبير من وسائل التواصل الاجتماعي في العالم، ودلالة على ضرورة تغيير حتمي كبير يستوعب الأجيال الجديدة. هذا الخطر عبَّرت عنه صحيفة “واير” (Wired) العالمية بمقال بعنوان “المراهقون لا يستخدمون فيسبوك ولكنهم لا يستطيعون الهرب منه أيضا”، ذكرت فيه أن كثيرا من حسابات المراهقين يستخدمها الوالدان. (10)
أما السبب الذي يبدو أكثر أهمية في اتخاذ إدارة فيسبوك قرارها بتغيير العلامة التجارية للشركة الأم، وتحويل شعار فيسبوك إلى واحد من المنتجات التي تنتمي إلى علامة تجارية أكبر، فهو المشروع الذي تعمل عليه الشركة لاقتحام عالم “الميتافيرس” (Metaverse) الافتراضي، وهو ما يعني تحوُّل الشركة من كونها شركة تُركِّز على عالم الوسائط الاجتماعية إلى شركة تشمل خدماتها أنماطا تقنية أخرى على رأسها الواقع الافتراضي. تقول التقارير إن شركة فيسبوك وظَّفت بالفعل أكثر من 10 آلاف تقني لبناء مشروعها الجديد، الذي يشمل صناعة نظارات واقع افتراضي يعتقد زوكربيرغ أنها ستحل محل الهواتف الذكية قريبا. (11)
ورغم أن الاسم الجديد مُحاط بجدران من السرية الشديدة حتى الآن، فإن الكثير من التقارير تنبَّأت أنه من المحتمل أن يكون له علاقة ما باسم “هورايزون” (Horizon) الذي يعني “الأُفق” بالعربية، وهو اسم إصدار لمنتج واقع افتراضي بدأت الشركة في تطويره خلال السنوات الماضية. التكهنات الاخرى تقول إن من الممكن أن يستخدم فيسبوك تسمية “ميتا” اسما جديدا للشركة الأم.
في النهاية، يمكن القول إن إعادة تسمية العلامة التجارية لأي شركة يكون إما لدوافع استباقية (Proactive) تتعلَّق باستغلال فرصة جديدة أو دخول أسواق جديدة أو توسيع الجمهور المستهدف، وإما لدوافع تتعلَّق بالاستجابة (Reactive) حيث تواجه الشركة مشكلات في سمعتها أو مشكلات قانونية أو منافسة شرسة تجعل إعادة تسمية علامتها التجارية مخرجا مهما لمواجهة الأزمة. وفي حالة فيسبوك، من المؤكَّد أن إعادة التسمية أصبحت ضرورة هجومية ودفاعية في الوقت نفسه.
الجزيرة