على مدى الأيام الثلاثة الماضية ضجت وسائل إعلام مصرية وعربية وكذلك مواقع التواصل بالحديث عن إغلاق كلية طب أسنان تدرب طلابها على أسنان جاموسة، قبل أن يتبين أن القصة ترجع بدايتها إلى سنين مضت، وإن كان الستار لم يسدل عليها نهائيا إلا هذا الأسبوع كما اتضح لمراسلة الجزيرة نت.
فبعد نحو 6 أعوام من حالة ضبابية عاشها خريجو كليات طب الأسنان بـ4 جامعات مصرية حول فترة دراستهم وما يترتب عليها من مستقبل مهني، جاءت المحكمة الإدارية العليا لتقرر صحة الحكم الصادر منذ 2015 والقاضي بإغلاق كلية طب الأسنان في جامعة دمنهور والسماح للطلبة الذين التحقوا بها عامي 2013 و2014 بإكمال دراستهم في جامعات أخرى.
وبدأت القصة عام 2013، عندما تعجلت جامعة دمنهور على ما يبدو في إنشاء كلية لطب الأسنان، وتفاجأ الطلاب الذين التحقوا بها في ذلك العام وفي العام التالي بأن الكلية ينقصها كثير من المنشآت والمرافق والمعدات، فضلا عن النقص الكبير في هيئة التدريس، وهو ما يقلل من قيمة الخدمة التعليمية التي تقدمها؛ فما كان منهم إلا أن بدأوا رحلة شكوى واحتجاج بدأت برئيس الجامعة ثم المجلس الأعلى للجامعات، لكن أحدا لم يحرك ساكنا.
وتوالى التصعيد الطلابي بوقفات احتجاجية قوبلت هي الأخرى بالتجاهل في ظل استمرار مستوى الخدمة التعليمية المقدمة، مما دفعهم إلى اللجوء إلى القضاء لشكوى الجامعة أمام محكمة القضاء الإداري بالإسكندرية مطالبين بتوفير مبنى حديث “بشكل فوري” به كل المعامل والأجهزة والمجسمات والمختبرات المطلوبة، أو تحويلهم إلى كليات مناظرة في أقرب الجامعات إلى سكن كل طالب منهم.
حكم قضائي
وبحسب شهادات عدد من الطلاب أمام هيئة المحكمة، فقد تلقوا بعض المحاضرات العملية داخل حظائر كلية الطب البيطري التابعة للجامعة نفسها، حتي أنهم تدربوا على أسنان الجاموس والأبقار، بدلا من الدراسة والتدرب على هياكل آدمية في معامل مجهزة كما يحدث في بقية الكليات.
وبالفعل، استجابت محكمة القضاء الإداري للطلاب وأصدرت حكما ابتدائيا عام 2015 يُلزم المجلس الأعلى للجامعات بتوزيع طلاب الفرقتين الأولى والثانية بكلية طب الأسنان بجامعة دمنهور (وعددهم 320 طالبا) على الجامعات المختلفة، وفق اشتراطات التوزيع الجغرافي وعلى وجه السرعة.
واشترط الحكم القضائي “أن يكون توزيع الطلاب على الجامعات طبقا لقواعد التوزيع الجغرافي بحسبانه معيارا موضوعيا وحيدا عادلا يحول دون شطط جهة الإدارة في توزيع هؤلاء الطلاب على الجامعات المختلفة، وذلك بتوزيع كل طالب على أقرب جامعة لمحل إقامة كل منهم، وهى جامعات الإسكندرية وطنطا وكفر الشيخ والمنصورة، وإلزام الجامعات الأربع المذكورة بمنح هؤلاء الطلاب برامج دراسية مكثفة نظرية وعملية تعوضهم عما فاتهم من مناهج دراسية، مع عدم المساس بالمراكز القانونية التي اكتسبها هؤلاء الطلاب في اجتيازهم الامتحانات السابقة على صدور الحكم.
وقالت المحكمة في حيثيات الحكم “لقد ألزم القانون المنظومة المسئولة عن التعليم -بدءاً من وزير التعليم العالي وأعضاء المجلس الأعلى للجامعات وأعضاء مجلس الجامعة ولجنة الأجهزة والمختبرات- بتزويد الكلية بكافة الأجهزة والمعامل والمواد اللازمة سنويا قبل وضع مشروع الموازنة بوقت كاف”.
واستكمل “لكن كل هؤلاء قد تخلوا عن واجبهم الدستوري والوطني وارتكبوا إثما في حق هؤلاء الطلاب، بأن حولوا كلية طب الأسنان من كلية عملية إلى كلية نظرية خاوية على عروشها من المعامل والأجهزة، وتلك كارثة تعليمية، لأنه بدون هذه التجهيزات تصبح دراسة طب الأسنان هي والعدم سواء”.
وأدانت المحكمة وزير التعليم العالي، إذ ارتأت أنه تعدى على اختصاص مكتب التنسيق وقام بتحويل الطلاب لطب أسنان دمنهور بحجة الضغط الاجتماعي، “وهو يعلم أن المبنى المخصص لهم -كان مجرد سكن مخصص لطالبات كلية الآداب- خال تماما من المعامل والتجهيزات، وهو بتصرفه هذا تجاوز حدود مسئولياته وعبث بمستقبل الطلاب”.
ولكن، ما الذي أثار الموضوع مجددا؟
ما حدث أن حكم القضاء الإداري عام 2015 مكن الطلاب من الالتحاق بكليات أخرى، لكنهم كانوا بحاجة لأن تقوم المحكمة الإدارية العليا بإقرار الحكم وتأكيد أنه لم يحدث طعن من جانب الجامعة على الحكم الصادر لصالحهم، وهو ما يعني أنه أصبح حكما باتا ونهائيا، وهو ما حدث من جانب المحكمة قبل 3 أيام وبالتحديد يوم 14 نوفمبر/تشرين الثاني الجاري حيث حصل من كانوا طلابا بكلية طب الأسنان جامعة دمنهور على شهادة من المحكمة بهذا الشأن، مما يعني الاعتراف بهم أطباء أسنان، علما بأنهم تخرجوا على مدى السنوات الثلاث الأخيرة.
في الأثناء، كشف مدير تحرير صحيفة الوطن الصحفي محمد البرغوثي عن تعرض طلاب طب أسنان دمنهور خلال أزمتهم مع الجامعة إلى العديد من المساومات، من أجل وقف الاحتجاج وسحب الدعوى القضائية.
وفي مقال له حمل عنوان “أين أبطال قضية طب أسنان الجاموس”، قال البرغوثي إن مسؤولي الجامعة قدموا وعودا للطلاب بالتساهل معهم في كل الامتحانات اللاحقة، مؤكدا أنه عندما فشلت محاولة الترغيب، تم تهديد الطلبة بالطرد من الجامعة.
ووفق قول البرغوثي، فإن الطلبة حصلوا على صورة من مستند رسمي يطلب فيه رئيس الجامعة اعتماد مبلغ 600 مليون جنيه لتجهيز مبنى لكلية طب الأسنان، ويعترف خلال الخطاب بأنه اضطر إلى قبول طلبة في العامين الماضيين حتى يخفف العبء على مكتب التنسيق، على الرغم من عدم وجود مبنى للكلية، وعدم وجود أي أجهزة أو معامل خاصة بتدريس طب الفم والأسنان.
ورغم الفرحة بالحكم القضائي، فإن البرغوثي يجدها فرحة منقوصة كون الجاني ظل طليقا، وأردف “جزء مهم من أركان الحكم القضائي تم التغاضي عنه تماماً وتعطيل تنفيذه، فقد طالب الحكم باتخاذ الإجراءات القانونية مع رئيس جامعة دمنهور وعميد طب أسنان دمنهور خلال عام 2015”.
ورغم مرور 6 سنوات وعدة شهور، لم يتعرض أحدهما لعقاب أو مساءلة، وتابع البرغوثي “لعلهما انتقلا الآن، بعد وصولهما إلى سن التقاعد، إلى أماكن أخرى بالجامعات الخاصة أو الدولية، ليواصلا تدريب طلبة كليات المجموعة الطبية على الجاموس والأبقار والماعز بدلاً من البشر”.
حرب خفية وتشويه إنجازات
ذلك الطريق الشاق الذي قطعه طلاب كلية طب الأسنان على مدار سنوات وما شمله من اهتمام إعلامي، ربما لا يعني لرئيس جامعة دمنهور، الدكتور عبيد صالح، سوى ماض أمسى اقتفاء آثاره نوعا من الحرب الخفية.
فقد نقلت صحيفة “اليوم السابع” تصريحات لرئيس الجامعة يرى فيها أن هناك هجوما غير مبرر وحربا خفية ضد مؤسسات جامعة دمنهور بتجديد “الوقائع القديمة”، كما يعتبر أن نشر أخبار حول قضية طلاب طب الأسنان هو محاولة لتشويه إنجازات الجامعة “التي تتفاعل بكل طاقتها مع المجتمع المحلي”، حسب قوله.
وأضاف صالح أنه جاري استكمال مشروع مباني كلية طب الأسنان بالجامعة على مساحة 1600 متر مربع وسيتم افتتاحه بعد 6 أشهر، موضحا إلى أن الإنشاءات الجديدة تضم عددا من المدرجات والمعامل ووحدة عمليات جراحة الوجه والفكين.
ونشرت صحيفة الأهرام الحكومية، قبل يومين، مقطع فيديو لرئيس جامعة دمنهور خلال تفقده للإنشاءات الجديدة بكلية طب الأسنان التي من المقرر أن تكون جاهزة لاستقبال الطلاب خلال العام الدراسي المقبل 2022-2023.
كوميديا سوداء
وبطبيعة الحال، فقد حفلت مواقع التواصل الاجتماعي بمنشورات تسخر من الأخبار الخاصة بكلية طب الأسنان جامعة دمنهور، خاصة تلك المتعلقة بتدريب الطلاب على أسنان الجاموس والأبقار بدلا من الهياكل الآدمية.
ورغم هزلية التعليقات، فإنها حملت في مجملها ما يشبه الكوميديا السوداء.
الجزيرة