فطري أم مكتسب.. هل يمكن أن نصبح أكثر ذكاء؟
ما إن نضع السؤال المطروح أعلاه على طاولة النقاش فنحن -ربما- نتأرجح على خيط رفيع خطر بين إجابتيه، فما بين “نعم” التي تفتح الباب لتجارة مزدهرة بمليارات الدولارات؛ تتحول يوما بعد آخر لعُدة نَصب معاصرة، و”لا” التي تفتح بابا آخر لحتمية جينية يتسلح بها البعض لدعم عنصريته ضد عرق بعينه، سوف نحاول أن نتلمس طريقا ضبابيا حتى نصل لإجابة قد تكون أقرب إلى الواقع.
حينما تلعب الشطرنج لمدة طويلة، تغدو أكثر خبرة في اللعبة، قد تهزم كل مبتدئ مهما كان مقدار ذكائه، عندما تمارس “السودوكو” لفترة أو تستمر في التمرن على المعادلات التفاضلية سوف تزداد خبرتك باضطرادٍ في ذلك المجال. لكن، هل يعني ذلك أنك أصبحت أكثر ذكاء؟ كبداية، دعنا نعرف أولا ما هو الذكاء، ثم نقسم هذا الذكاء لنوعين أساسيين.
ما هو الذكاء؟
لسوء الحظ، الإجابة بالنسبة للسؤال الأول هي أننا لا نعرف بعد. هذا في الحقيقة هو ما يصنع كل التخبط حينما نحاول أن نجيب عن هذا السؤال. لكن يمكن لنا تقسيم ما نعرفه عن سيكولوجيا الذكاء لنوعين: سائل ومتبلور، وهو معيار وضعه في الأربعينيات “رايموند بيرنارد كاتل” عالم النفس الأمريكي الشهير.
الذكاء السائل (Fluid) هو القدرة على التحليل والتنسيق والحساب المنطقي بمعزل عن معارفك، كأن تحدث مشكلة طارئة تعترضك لأول مرة؛ فتقوم فورا بإيجاد حل لها.
لا نعرف بعد، تلك هي الإجابة القصيرة. هذا في الحقيقة هو ما يصنع كل التخبط حينما نحاول أن نجيب عن سؤالنا أعلاه، لكن يمكن لنا تقسيم ما نعرفه عن سيكولوجيا الذكاء لنوعين: سائل ومتبلور، وهو معيار وضعه في الأربعينيات “رايموند بيرنارد كاتل” عالم النفس الأمريكي الشهير.
الذكاء المتبلور Crystallized:
هو حصيلتك اللغوية والمعرفية والفكرية التي جمعتها على مدى زمني واسع، إنها ما نسميه “الخبرة”، وهو بذلك يبدأ من الصفر عند الميلاد، ويزداد مع العمر، وهو يفيدك في حل كل المشكلات التي تعرضت لها سابقا؛ كلما ازدادت خبرتك استطعت تجاوز عدد أكبر من الصعوبات الحياتيه.
أما الذكاء السائل (Fluid):
فهو القدرة على التحليل والتنسيق والحساب المنطقي بمعزل عن معارفك، كأن تحدث مشكلة طارئة تعترضك لأول مرة؛ فتقوم فورا بإيجاد حل لها. لفهم أفضل لتلك الفكرة دعنا نتصور الذكاء المتبلور كمكعب سكر، والسائل كعصير برتقال في كوب، السائل متكيف مع قالبه الموضوع فيه، أما المتبلور فهو صلب. نتوصل هنا لنتيجة أولى عندما نحاول سبر أغوار الذكاء، فما حدث حينما تدربت مدة عشرة أعوام على الشطرنج هو ارتفاع في قيمة ذكائك الذي تبلور في خبرتك، سوف تبدو للآخرين أكثر ذكاء حينما تصبح أستاذا كبيرا GM، لكننا لا نعرف بعد إن كانت خلايا مخك أصبحت أكثر ذكاء أم لا.!
الذكاء السائل هو صفة جوهرية خاصة بك، يولد حينما تولد، ويزداد حتى منتصف العمر تقريبا؛ ثم يبدأ في الهبوط. يدعو السطر الأخير للتأمل هنا، فقد تكون تلك بداية جيدة لبحثنا وراء إجابة؛ حيث إن الانحدار الإدراكي هو صفة لكل البشر تظهر بوضوح بولوج العام الخامس والخمسين من العمر. جميل جدا، دعنا نتتبع ذلك الخيط.
وكيف نتعرف إليه؟
في 2009 أطلقت الـ BBC -بالتعاون مع جامعة “كامبريدج”- مشروعا(1) ضخما عبر الإنترنت لتمرينات العقل، ضم 67 ألف مُسجل بينما استكمل 13 ألف شخص مدة التدريب كاملة، كان وراء المشروع هدف آخر؛ وهو دراسة تأثير تلك التمارين العقلية على ذكاء المتدربين؛ حيث يخضع الشخص في بداية مدة التدريب لاختبار ذكاء محدد، ثم في نهاية المدة يخضع اللاعب لاختبار آخر. ويقيس الباحثون الفرق بين نتائج الاختبارين. أظهرت نتائج الدراسة التي نُشرت في دورية Nature أن هناك تحسنا ملحوظا في القدرات المنطقية والحركية واللغوية لمن تخطت أعمارهم الـ 50 حينما تدربوا بانتظام لمدة ستة أشهر، بينما -للأسف- لم تظهر الدراسة أي تحسن ملحوظ في قدرات من هم تحت الخمسين.
تعطينا تلك النتائج بعض التقدم هنا، فنحن الآن نعرف طريقة إضافية قد تساعد كبار السن في أثناء تدهور(2) قدراتهم الإدراكية؛ حيث يمكن لنا (بعدة طرق تتضمن التمارين الرياضية، والغذاء الصحي، وتمارين المخ) أن نبطئ -بشكل أو بآخر- من تدهور المخ، أو أن نعيد له بعض العافية، لكن ماذا عن أوج ذكائنا في الشباب؟
هنا يجب أن نتوقف لنتعلم القليل عن كيفية قياس الذكاء. بعد نظرية “كاتل”، قام كل من “جون ليونارد هورن” و”جون كارول” (عالما النفس) بتطوير ذلك النموذج؛ ليصبح نظرية “كاتل-هول-كارول” التي أسست ما نعرفه الآن باسم اختبارات الذكاء IQ، يتخذ الـ IQ قيما ما بين 100-110 في المتوسط العالمي؛ بينما يعتبر صاحب النتيجة فوق 130 صاحب ذكاء نادر، يكون ذلك عبر اختبار جوانب عدة من قدراتنا الإدراكية، كالجانب المنطقي، العقلاني، والقدرة على الاستماع، والكتابة، والمعالجة البصرية، وتتبع الأنماط، والذاكرة.. إلخ. قد يكون ذلك المعيار هو مدخل جيد لعمل تجارب مفيدة؛ خاصة حينما نعيد صياغة سؤالنا تماما ليكون: هل الذكاء ابن البيولوجيا، أم ابن البيئة؟
إذا كان الذكاء ابن البيولوجيا فربما نحن أقرب للإجابة بـ “لا”. دعنا هنا نسافر للسبعينيات حينما بدأت دراسة القدرات الإدراكية للأطفال المتبنين ومقارنتها بقدرات آبائهم البيولوجيين وآبائهم بالتبني، لنتعرف على نتائج ثلاثة تجارب شهيرة: تجارب “جوزيف هورن”(3) من جامعة تكساس على خمس مئة طفل، و”روبرت بلومن”(4) عالم النفس الأمريكي في كولورادو، و تجارب مشروع “مينوسوتا”(5) تحت إشراف “ساندرا سكار” و”ريتشارد” و”أينبرج” والذي ضمّن في دراساته تجارب لها علاقة بعملية تبني بين آباء وأطفال مختلفي العرق. جاءت نتائج تلك الأبحاث، على مدى ثلاثين عاما من الدراسة (ورغم تباينات في التفاصيل بينها) لتتفق على أن الأطفال -حتى سن المراهقة- توافقت قدراتهم مع الأبوين بالتبني؛ أي أن الطفل تأثر في قدراته بثقافة المنزل الجديد الذي انضم إليه، لكن المشكلة تظهر عند البلوغ؛ حيث تظهر علاقة واضحة بين قيم الذكاء IQ للأبناء مع آبائهم البيولوجيين.
لا يمكن التأكيد هنا على حتمية تلك النتائج؛ لكن ما يمكن أن نحصل عليه هو ميل إحصائي واضح ناحية ارتباط الذكاء بالبيولوجيا، ربما تؤكده(6) فيما بعد؛ دراسة تصدرت وسائل الإعلام في العام 2015 من كلية لندن الإمبراطورية؛ حيث اكتشف الباحثون شبكتين من الجينات المسئولة عن التأثير في الوظائف الإدراكية؛ كالذاكرة والانتباه والقدرة على معالجة المعلومات منطقيا، وسرعة ذلك كله، ويعتقد القائمون على التجربة أن تلك الجينات ترتبط بموضع واحد لتنظيمها، يشبه الأمر أن يعمل فريق كرة قدم لخدمة هدف واحد؛ وهو الفوز بالمباراة، ويعمل المدرب على تثبيط أو تفعيل نقاط قوة معينة.
وما الذي يؤثر حقا؟
للوهلة الأولى نظن أن الرحلة انتهت، الأمر -إذن- يخضع فقط للبيولوجيا، لكن جحر “آليس” فيما يبدو هو أعمق مما كنّا نظن، دعني أعرض عليك مجموعتين من الأسماء، أود منك أن تقول لي أي المجموعتين تعرف أكثر:
الأولى: “ويليام جيمس سيديس، تيرينس تاو، كريستوفر هيراتا، كيم أونج يونج”.
الثانية: “ريتشارد فاينمن، مايكل فاراداي، ألبرت أينشتين، نيلز بور”.
أظن أنني سوف أكون على حق حينما أتوقع أنك تعرف المجموعة الثانية أكثر؛ بل ربما لا تعرف أيا من أصحاب المجموعة الأولى، دعني الآن أعرفك بهم، إنهم -في المتوسط- أذكى أهل الكوكب ممن تتخطى درجة اختبار الذكاء خاصتهم قيمة 200، “سيديس” يعتبر أذكى البشر إلى الآن بقيمة IQ تساوي 300.! بينما المجموعة الثانية هي أقل ذكاء من الأولى، رغم ذلك؛ فهم الأكثر إسهاما في مجالات علمية ورياضية معقدة، ما هو سبب ذلك؟ أليس من المفترض أن يكسب حاد الذكاء اللعبة وينتهي الأمر على ذلك؟ يدفعنا ذلك لصياغة أكثر تشككا لسؤالنا: ما الذي تقيسه اختبارات الـ IQ؟
في تجربة مثيرة للانتباه قام بها كل من “ليزا بلاكواي”(7) من جامعة كولومبيا وعالم النفس بجامعة ستانفورد “كارول ديويك”، تم تقسيم الطلبة في المستوى السابع لمجموعتين، تلقت إحداهما كم تحفيز كبير، وبعض الدروس المبسطة تتخللها تأكيدات على أن الذكاء هو أمر يمكن تطويعه ورفعه، بينما تلقت المجموعة الثانية كم تحفيز أقل مع دروس عن الذاكرة، بعد ثمانية أسابيع من التدريب حقق 85% من الطلبة بالمجموعة الأولى نتائج مرتفعة؛ في مقابل 54% للطلبة العاديين. نتائج مشابهة حصلت عليها “أنجيلا لي داكوورث”(8) من جامعة بنسلفانيا بعد دراسة على ما يقرب من 500 طالب، لكن الملاحظ في دراسة “داكوورث” أنه بعد لقاء 251 طالبا من الذين أدوا تجارب مشابهة في الثمانينيات وحققوا أرقام IQ عالية، هو أنهم بعد أن تخطت أعمارهم الخامسة والعشرين أصبحت المجموعة المحفزة مثل رفاقهم، لقد عادت الأمور لطبيعتها ربما.!
في النهاية
ربما في المستقبل، بعد تحقيق فهم أفضل للمخ البشري؛ قد نتمكن من رفع ذكائنا إلى مستويات غير مسبوقة، لكننا إلى الآن لا نمتلك مساقا يمكن من خلاله تحقيق ذلك.ربما في المستقبل، بعد تحقيق فهم أفضل للمخ البشري؛ قد نتمكن من رفع ذكائنا إلى مستويات غير مسبوقة، لكننا إلى الآن لا نمتلك مساقا يمكن من خلاله تحقيق ذلك.
المؤكد -إلى الآن- هو أن تلك الدراسات والتجارب التي تدعي أن التمارين والمساقات العقلية تساعد حقا في رفع درجة الذكاء، لا تمتلك أدلة بالقوة التي تخدم ادعاءاتها، كما أن البعض من الوسط البحثي يخطئ في فهم(9) قيم الـ IQ ليعتبر أنها وحداتٌ تشبه المتر أو الجرام؛ فيتصور أن الحاصل على رقم 90 أقل ذكاء بـ 25% من الحاصل على 120، أو أن زيادة من 100 إلى 105 تشبه زيادة من 130 لـ 135.
تقوم صناعة كاملة قيمتها مليارات الدولارات سنويا على دراسات كتلك، وترسم مناهج ومساقات وتمارين على مدى شهور متتالية، بنتائج نهائية غير ذات أثر جوهري، كل ما يحدث هو أنك تفقد بضع آلاف من الجنيهات سنويا؛ معتقدا أنك قد تصبح بعد تمارين كتلك مثل “ستيفن هوكينج”، ولا حاجة لنا أن نذكر كم الخرافات المهول الذي يتم الزج به في تلك التمارين، كالقول إن الإنسان يستغل فقط 10% من طاقة دماغه، القول إن الجانب الأيسر يختلف معرفيا -وفي تركيب الشخصية- عن الأيمن، تمارين التأمل، الطاقة، أو البرمجة اللغوية العصبية مثلا.
لكن هذا لا يغلق الباب أمام فرص تطوير البحث العلمي هنا. ربما في المستقبل، بعد تحقيق فهم أفضل للمخ البشري؛ قد نتمكن من رفع ذكائنا إلى مستويات غير مسبوقة، لكننا إلى الآن لا نمتلك مساقا، ولا جراحة، ولا أحجية سلوكية، ولا حبة علاجية لا لون لها من فيلم limitless يمكن من خلالها تحقيق ذلك.
ما يؤكده الباحثون هو أن نشاطاتٍ كالقراءة، والطعام الصحي، والتمارين الرياضية، وحل الألغاز، دون الحاجة للخضوع لمساقات تدريبية أو مناهج تدعي أنها علمية، سوف يفيد كثيرا في تطوير قدراتنا الإدراكية. أضف لذلك أن ذكاءنا المتبلور يؤثر بشكل كبير في مستقبلنا و الـ IQ الخاص بنا، يذكرني ذلك بـ”فيرنر هايزنبرج” وهو يقول إن “الخبير هو الشخص العارف بأسوأ الأخطاء والمشاكل التي يمكن أن تحدث في مجال اختصاصه، وبالكيفية التي يواجه بها تلك الأخطاء والمشاكل”.
في الجهة المقابلة، يمكن القول إنه رغم قدرتنا على تحقيق بعض الفهم لبيولوجيا وسيكولوجيا الذكاء، إلا أننا لازلنا غير قادرين على تتبع نمط محدد يؤكد ما يعنيه ذلك، ما هو الذكاء؟ عمليات قياس الذكاء -كما وضحنا منذ قليل- تخضع لمتغيرات عدة، قد نعرف بعضها ولا نعرف البعض الآخر، كما أن العبقرية أو الإبداع هي أمر غير مفهوم بعد، ترتبط -ربما- بفهمنا لمستوى أكثر اتساعا، مستوى الوعي. نحن نعرف الآن أنه رغم قدرة جيناتنا على التحكم فينا، لكن قدرة البيئة على تغيير(10) التعبير الجيني هو أمر تم رصده علميا، أي أن الإنسان -كما كانت رحلتنا في البحث عن إجابة- هو الآخر يتأرجح على خيط رفيع خطر بين حتمية جينية وإرادة قوية قد تغيرها.
في النهاية، نحن لا نعرف -بعد- ما الذي جعل من “أينشتاين” أو “فارادي” أو “بور” عباقرة؟ بشكل شخصي، أميل إلى الاعتقاد أن ما يجعل من الإنسان مبدعا هو العمل المتواصل الدؤوب على شيء واحد فقط لمدة طويلة من الزمن، لتركيز قوة السحر؛ يذكرني ذلك بمقولة “أومبورتو إيكو” الفيلسوف الروائي الشهير إن “الإلهام كلمة سيّئة” مشيرا إلى أن بذل الجهد هو باب العبقرية. مهما كانت قيمة الـ IQ للشخص الواقف أمامك كبيرة، لا يمكن لها أن تخبرك إن كان سوف يصبح مثل “فاينمن” أو لا! ومهما كانت صغيرة؛ فهي كذلك لا تجبره على أن يصبح عامل نظافة في الشارع. إلى الآن، كل الأبواب متاحة.
المصدر : الجزيرة