المرتبات في السودان .. رسالة في بريد الأسواق

بشكل متسلسل أصبح يتصاعد الغلاء دون أي منطق يبرر أسبابه غير زيادة وتيرته عقب الأحداث التي شهدتها البلاد من فترة لأخرى، وبين زيادة أجور العاملين وغليان الأسواق يبقى حديث وزير المالية والتخطيط الاقتصادي حول الموازنة القادمة والتي كشف فيها عن سياسات وزارته بخصوص الإنفاق بشكل عام وزيادة المرتبات بشكل خاص تبدو خطوة مبشرة لكونها ستخفف من هموم الفئة العاملة بالدولة التي أصبحت تعاني من صعوبة المعيشة لقلة الرواتب التي تبتلعها الأسواق في لحظة شراء الاحتياجات الضرورية من السلع الأساسية اليومية، وكانت حكومة الفترة الانتقالية المحلولة التي تخلصت من الإنفاق على دعم الوقود وجزء كبير من دعم الكهرباء وتحرير سعر الصرف وإلغاء العمل بالدولار الجمركي القديم هذا العام، ربما لها مبالغ كافية لتمويل زيادة المرتبات للإيفاء بها مطلع يناير المقبل متضمنة في موازنتها المالية الجديدة.
ووفقاً لخبراء اقتصاديين فإن مزيداً من الجبايات ستتسبب في زيادة أسعار السلع في الأسواق وبالتالي تبتلع أي زيادة في أجور يزيدها وزير المالية فلا فائدة من ذلك، ويرى البعض أن الحكومة الانتقالية في حاجة لمساعدات كبيرة وعاجلة من العالم الخارجي، سواءً من منظمات اقتصادية دولية أو صندوق النقد والبنك الدوليين، أو من الدول الأخرى، حيث ليس من المتوقع أن تتمكن من إنجاز مهامها الثقيلة تلك من دون ذلك.

رصد أرقام

وبحسب ما نقله مصدر مطلع، نظراً لتصريح وزير المالية (عندنا الإيرادات الحالية ستدفع الأجور والتيسير وما تبقى للتنمية)، وتساءل: هل فعلاً أعدت موازنة العام 2022 موظفي المالية طلب منهم فقط رصد أرقام ولم تتم مناقشة أي قطاع حكومي، وأبدى المصدر سخريته يعني التنمية دي “عطية مزين”، بمعنى غير مخطط لها أصلاً)، وواصل المصدر قائلاً: حتى لو افترضنا جدلاً في حبة قريشات ستخصص للتنمية هل تم ترتيب الأولويات ثم إن التنمية فيها قطاع الخدمات صحة تعليم بيئة، قطاع زراعي، صناعي، طاقة، نقل، ري، وبحسب المصدر هذا شيء غريب ومنطق مجافٍ لأبجديات الاقتصاد، وتساءل حينما يتحدث الوزير عن المرتبات كم في المائة من القوى العاملة تعمل في القطاع الحكومي؟ وما هي الترتيبات لبقية القطاعات الأخرى؟، وقال المصدر في تصريح لـ(اليوم التالي) إن هناك اشتراطات ومتطلبات لا بد من مقابلتها جراء قبول السودان في مبادرة “الهيبك” أي (مبادرة الدول المثقلة بالديون)، وتابع متسائلاً: هل تم اعتبارها في الموازنة وبجانب ذلك هل الموازنة خصصت بنداً للطوارئ؟ وقال إن وزير المالية تحدث عن التوقعات بانخفاص الميزان التجاري، ولكنه لم يذكر السبب والمؤشرات لحدوث هذا الانخفاض وهل دخلت سلع جديدة ضمن الصادرات، ولفت المصدر إلى حديث وزير المالية بأن الصرف على التنمية يجيء كنتاج لغياب الدعومات الخارجية، وأوضح المصدر أن الوزير تغافل الدعومات الخارجية التي تتمثل في شكل منح مخصصة للخدمات كدعم اللقاحات والتحصين وبرامج ثمرات وأنشطه خدمية أخرى، وبحسب سؤال طرحه ذات المصدر عن حجم الضرائب وما هي نسبة مساهمتها في الدخل وهل تمت عملية تحليل للواقع الضريبي بغية إصلاحه.

أضر بالاقتصاد

في منتصف هذا الأسبوع، أعلن وزير المالية والتخطيط الاقتصادي، جبريل إبراهيم، عن زيادة في الأجور للعاملين في الدولة في الموازنة المقبلة للعام 2022، وقال وزير المالية إن الزيادة في الأجور تعتبر من بداية العام المالي الجديد ستكون حقيقية لا يبلعها السوق ولا تكون رُب رُب كما قال صديقنا، ومضى قائلاً في مقابلة مع تلفزيون السودان الاثنين الماضي، حتى نضمن عدم تفلت سعر الصرف قررنا ألا نلجأ للاستدانة من البنك المركزي أو طباعة الورق كما كان يقول صاحبنا رب رب” هذا أضر بالاقتصاد الوطني، ودعا الشعب السوداني لربط الأحزمة على البطون والاعتماد على الجهد والإنتاج، وأكد أن الإيرادات الحالية تفي بالأجور وتسيير الحكومة والولايات وما فاض سيذهب الى التنمية، وأعرب عن أمله في أن يكون العجز في الميزان التجاري صغيراًً لا يتجاوز 1.5% في أكثر الحالات، وقال وزير المالية إن لم نحصل على دعومات خارجية الإنفاق على التنمية سيكون محدوداً.

بالمعنى الواضح

يرى علي جدو وزير التجارة السابق، أن أي حديث في الاقتصاد دون الوصول إلى تسوية سياسية تؤدي إلى إزالة السيولة الماثلة الآن ليس ذا جدوى، وقال جدو في تصريح لــ(اليوم التالي) إنه في ظل عدم الاتفاق السياسي وتشكيل الحكومة لن تكون هناك سياسة اقتصادية كلية، وذكر بالمعنى الواضح لا يمكن إجازة موازنة العام ٢٠٢٢، متمنياً الوصول إلى توافق سياسي وتشكيل الحكومة في القريب العاجل، وقال: وقتها لكل حادث حديث.

مبشرة جداً

أما المحلل الاقتصادي الدكتور الفاتح عثمان، فإنه يعتبر تصريحات وزير المالية د. جبريل بخصوص الموازنة القادمة والتي كشف فيها عن سياسات وزارته بخصوص الإنفاق بشكل عام وزيادة المرتبات بشكل خاص مبشرة جداً، وتعبر عن سياسات مسؤولة وحازمة تجاه تخفيض التضخم وتمويل الإنفاق من إيرادات حقيقية وتقليل العجز وذلك بجعل زيادة المرتبات تتم وفق حجم الإيرادات الحقيقية وليس وفق ما يرضي طموحات العاملين، ويعتقد د. الفاتح عبر تصريح لـ(اليوم التالي) أن وزير المالية بشر الموظفين بأن الزيادة هذه المرة حقيقية لن يبتلعها التضخم وهذه معلومة غير صحيحة، وواصل قائلاً: أظنه يقصد أن التضخم لن يزداد بسبب زيادة المرتبات لأن الإنفاق على الزيادة سيتم من موارد حقيقية، لكن في ظل تضخم وصل إلى 365% فإن أي زيادة سيتلاشى أثرها في أقل من عام بفعل التضخم غير المسبوق الذي يعاني منه الاقتصاد الوطني.

تمويل المرتبات

ويرى د. الفاتح أن الحكومة من حيث الإنفاق مرتاحة تماماً خاصة بعد أن تخلصت من الإنفاق على دعم الوقود وجزء كبير من دعم الكهرباء ويبدو أنها قد تتخلص من دعم الكهرباء كلياً هذا العام وبالتالي ستتوفر لها مبالغ كافية لتمويل زيادة المرتبات خاصة بعد أن حررت سعر الصرف وألغت العمل بالدولار الجمركي القديم ووحدت سعر الصرف مما تسبب في مضاعفة الجمارك إلى أكثر من عشرة أضعاف إيراداتها السابقة، ومضى قائلاً: بالتالي باتت وزارة المالية من ناحية الإيرادات قادرة تماماً على تمويل زيادة المرتبات من دون اللجوء للاستدانة من البنك المركزي، وأضاف في حديثه: وقتها يصبح بإمكان وزارة المالية تقليل عجز الموازنة إلى النسبة التي ترى أنها الأفضل للاقتصاد القومي.

موارد حقيقية

وبحسب حديث المحلل الاقتصادي محمد النيل فإن زيادة الأجور دون طباعة أوراق مالية هذا يتطلب موارد حقيقية للدولة للإيفاء بتلك الوعود، وعلى حد التساؤلات التي أطلقها النيل عبر إفادته لـ(اليوم التالي) ما هي موارد الدولة المتاحة الآن؟ وهل هي أخذ مزيد من الجبايات مثل الضرائب والجمارك لضخها في زيادة الأجور؟ وهل هناك دخول من إنتاج حقيقي للمشاريع الاقتصادية التي تمتلكها الدولة مثل مشروع الجزيرة والسكك الحديدية أو البترول؟ أم ضخ مزيد من احتياطي البنك المركزي من العملة الصعبة في السوق كوسيلة لتوفير العملة المحلية دون طباعة؟، وقال: إذا كان الاعتماد على نفس تساؤله الأول فذلك سيكون مثل ساقية جحا بأن يؤخذ مال من جزء من الشعب وإعطائه لجزء آخر منه كأنك يا أبزيد ما غزيت، وأكد أن الجبايات ستتسبب في زيادة أسعار السلع وتبتلع أي زيادة في أجور يزيدها وزير المالية فلا فائدة من ذلك.

قرار سياسي

ويضيف النيل إن كان سيعتمد الوزير على الموارد الحقيقية فما زال مشروع الجزيرة تحت حديث وآمال إعادة إعماره وحتى المساحة الكبيرة التي تمت زراعتها بالقطن كما نسمع لم تحصد بعد، وتابع قائلاً: بالنسبة للسكة حديد هي الأخرى ما زالت تحت طور التخطيط لإعادة إحيائها، وأما إنتاج حقول البترول فلا جديد وهنا متسائلاً: من أين سيأتي بالمال لرفع الأجور؟، وزاد بالقول فإن الخيار الأخير هو بيع عملة صعبة للسوق من البنك المركزي فإن ذلك سيكون حلًا، ولكنه مؤقتاً ينتهي بنهاية بيع احتياطي النقد الأجنبي وسيعود ارتفاع سعر الدولار وبالتالي يعود التضخم بانتهاء الاحتياطي الذي اجتهد فيه رئيس الوزراء عبدالله حمدوك في الفترة السابقة، ويعتقد أن قرار وزير المالية قرار سياسي أكثر منه اقتصادي بالنظر للأوضاع السياسية القاتمة في الآونة الأخيرة.

مرحلة صعبة

يقول الباحث الاقتصادي الدكتور هيثم محمد فتحي إن الموازنة العامة يمكن لها أن تستهدف خفض العجز الكلي إلى نسبة من الناتج المحلي الإجمالي، وقال إن عجز الميزان التجاري لو نظرنا له منذ السنوات الأخيرة هناك عجز في العام 2017 كان 5 مليار دولار، و2018 كان 4.37 مليار دولار، 2019 كان 4.87 مليار دولار2020 كان 4.2 مليار دولار، ويشير إلى أن متوسط عجز الميزان التجاري خلال السنوات الخمس الماضية 4.568 مليار دولار وذلك يعني أن فاتورة الاستيراد أكبر من فاتورة الصادرات لأن الدولة ليست لها سياسة لترشيد الاستيراد وتحجيمه وليست لها رؤية لدعم الإنتاج والإنتاجية في السلع والخدمات ولم تتمكن من السيطرة على عائدات الصادر على قلتها ولم تنجح حتى الآن في الحد من تهريب الذهب، مبدياً خشيته من تضاعف نسبة التضخم في حال تطبيق زيادة المرتبات، لذا يدعو د. هيثم عبر إفادته لـ(اليوم التالي) إلى خلق فرص عمل بعد الظروف الصعبة التي تعرض لها الاقتصاد القومي، وزاد بالقول: نحتاج لحل مشكلات المحروقات والكهرباء والقمح وتمويل ذلك ولكن مع الانضباط المالي، وأضاف: يواجه الأقتصاد مرحلة صعبة حيث سجلت البطالة فيه ارتفاعاً قياسياً في ظل معاناة العالم ككل من تداعيات جائحة كورونا التي ألقت بظلال سالبة في مختلف الأنشطة مما تسبب في تفاقم الأزمات الاقتصادية وحالة التراجع المستمر التي انتابت المؤشرات الاقتصادية مما أدى لتراجع مستمر لمستويات المعيشة في السودان، وأشار بحسب بيانات منظمة الأمم المتحدة إلى أن نحو 46.5% من السكان يعيشون دون خط الفقر الوطني بجانب أن نحو 52.4% منهم يعيشون في فقر متعدد الأبعاد.

مساعدات عاجلة

ويضيف د. هيثم أن الحكومة الانتقالية في حاجة لمساعدات كبيرة وعاجلة من العالم الخارجي، سواءً من منظمات اقتصادية دولية، كصندوق النقد والبنك الدوليين، أو من الدول الأخرى، حيث ليس من المتوقع أن تتمكن من إنجاز مهامها الثقيلة تلك من دون ذلك، وقال إن الأمر قد يستغرق بعض الوقت لتحقيق الانتعاش الاقتصادي نسبة لتردي مناخ الاستثمار في البلاد نتيجة الفساد والتعقيدات الإدارية، وعدم الاستقرار السياسي والأمني وهو ما أدى إلى وصول السودان لمرتبة متأخرة في مؤشر سهولة ممارسة الأعمال الصادرة عن البنك الدولي، بشكل سيدفع بعض المستثمرين الوطنيين والأجانب إلى تبني مواقف حذرة إزاء الدخول للسوق السوداني.

الخرطوم: علي وقيع الله
اليوم التالي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.