قصص مأساوية.. بريق الذهب يخطف أرواح السودانيين

سودافاكس ـ سامي (20 عاماً) الابن الوحيد الذي يعول أمه الأرملة بعد وفاة والده، ترك أشغاله اليدوية الحرة وقرر الذهاب للبحث عن الذهب، أخطر أصدقاءه أنه يود أن يصبح “دهابي”. حزم أمتعته واتجه إلى شمال السودان، وودع أمه وتزود بما هو ممكن من مواد غذائية وأغطية، وانطلق يحلم بالثراء. عاد سامي بعد شهرين وهو محمل بالمال، فقد باع حصيلته من الذهب في الموقع، فقام بترميم منزلهم وتوسيعه، ثم هم بالعودة كرة ثانية إلى حيث الذهب، ووعد والدته تحت توسلاتها له بعدم العودة وأنها ستكون المرة الأخيرة له، سيجمع فقط ما سيمكنه من شراء دراجة نارية ثلاثية العجلات كمصدر رزق للأسرة، وبالفعل كانت رحلته الأخيرة التي لم يعد منها أبداً، حتى إن جثثهم هو ورفاقه تعذر انتشالها من جوف البئر، حيث انقطع عنهم الأوكسجين وتهدمت بهم البئر أثناء محاولات إنقاذه هو ورفاقه الشباب الأربعة.

حكايات الموت ليست قصة سامي إلا واحدة من عشرات حكايات موت الشباب ممن دفنوا مع أحلامهم وطمرت طموحاتهم في جني المال تحت أنقاض آبار التعدين التقليدي الهشة الخداعة ببريق خيوط الذهب (عروق الذهب) الممددة تحت الأرض، تسوق ضحاياها بمكر الإغراء إلى عمق مأساة حتفهم.

لم تعد أنباء حوادث موت العشرات من المنقبين التقليديين عن الذهب أمراً مفزعاً بطعم الفجيعة ومرارتها، فقد بات وقع الموت بمناطق الذهب مألوفاً وطبيعياً، إما اختناقاً بثاني أكسيد الكربون داخل آبار ضيقة معتمة، أو تضحي البئر نفسها مقبرة جماعية لمنقبين طمروا أحياء. ويبدو الأمر مثل لعبة الحظ ربما تفضي بعض الأحيان إلى الحصول على بضعة كيلوغرامات من الذهب قد تفتح باباً للثراء، أو حفنة صغيرة لا تزيد على بضع أوقيات، لكن مقابل ذلك ربما يدفع المنقب حياته ثمناً لطموحه وأحلامه، فتزهق روحه بلدغة ثعبان أو عقرب سام في الصحراء أو يدفن حياً تحت أنقاض بئر متهدم.

أحدث الفواجع كانت قبل حوالى أسبوعين حين لقي 17 من المنقبين التقليديين مصرعهم بمناجم الذهب في ولاية جنوب كردفان، منهم 12 في منطقة تلودي وخمسة آخرين في منطقة أبو أصابع، بينما أصيب بعضهم جراء انهيار بئر للتنقيب الأهلي عن الذهب. قصص مأساوية وفي أغسطس الماضي، لقي سبعة آخرين مصرعهم وأصيب أربعة آخرون تحت أنقاض بئر للتنقيب التقليدي عن الذهب، لكن هذه المرة في مدينة وادي حلفا شمال السودان. وفي مارس من العام نفسه، لقي ستة المصير ذاته إثر انهيار إحدى الآبار الكبيرة المتفرعة من الداخل بمنجم.

وفي وقت غير بعيد، نعت الشركة السودانية للموارد المعدنية المحدودة وفاة ما يقارب 40 معدناً تقليدياً لقوا حتفهم في حادثة كبيرة مفجعة، بسبب انهيار بئر للتنقيب في منطقة منجم أم دريصاية التي تتبع لمحلية النهود بوحدة فوجا الإدارية، بولاية غرب كردفان. وعلى الرغم من كل حوادث الموت المتكررة، لم يردع المنقبون التقليديون من الاستمرار، وظلت دائماً الرغبة الملحة في إصلاح الأوضاع الاقتصادية أو الثراء السريع أقوى من كل الإرشادات والنصائح، وأكبر من رهبة الموت لدى كثير من المغامرين في ظروف غاية الخطورة، لا تتوفر فيها متطلبات السلامة.

وعلى الصعيد الرسمي، عزت وزارة المعادن (شركة السودانية للموارد المعدنية) أسباب تكرر انهيار آبار التقليدية إلى تجاوز المنقبين للطرق العلمية في عمليات الحفر، بحيث يجب ألا يزيد عمق البئر على 35 متراً. وكشف مشرف القطاع الشمالي الشرقي لشؤون الولايات، بالشركة السودانية للموارد المعدنية، ياسر محمد عثمان، عن رفض المنقبين المتكرر للرقابة الحكومية، فضلاً عن عدم التزامهم بالإرشادات اللازمة للسلامة والبيئة التي تصدرها الشركة والسلطات المحلية، حفاظاً على سلامة أرواحهم. لهذا تقع الفواجع! وفي الإطار نفسه، يرجع مدير الإنقاذ البري في المجلس الأعلى للدفاع المدني المقدم ربيع محمد موسى أسباب حوادث الموت في المناجم إلى الانهيارات أو الاختناق، وتلك الحالات تكثر في المناطق الجبلية الصخرية، بينما تتزايد حالات الانهيار في المناطق الشمالية حيث التربة الرملية الهشة.

ويعزو موسى أسباب تعدد انهيار آبار التنقيب التقليدية إلى الطريقة والتقنية البدائية المستخدمة في الحفر من قبل المنقبين غير المدربين أو المحترفين، إذ يبدأون كالعادة بالحفر رأسياً حتى عمق ثلاثة إلى أربعة أمتار وهذا يجوز، لكن المشكلة تبدأ بعد ذلك، لأنهم يتبعون في الحفر ما يعرف بـ “عرق الذهب” وهو المسار الذي توجد فيه شواهد الذهب متابعين مجراه أينما كان، وهو غالباً يوجد في شكل متموج ومتعرج، وهكذا يستمر الحفر وتطول مسافته متتبعين انعطافات مجرى الذهب يميناً ويساراً، وفي مرحلة التعرج هذه تسمى البئر “أنتنوف”، أي المتموجة في كل اتجاه، بينما لا زالوا يطاردون شعاع الذهب، وبعدها يتحول البئر إلى شكل غرف مربعة، وعند هذه المرحلة تبدأ الصخور الصلبة بالظهور، مما يضطرهم إلى استخدام حفار (جاك همر) ومعروف بشدة الاهتزاز، مما يؤدي إلى انهيار أسقف تلك الغرف الواحدة تلو الأخرى متسببة في انهيار البئر كلها. أما بالنسبة إلى حالات الاختناق المتعددة، فتعود بحسب مدير الإنقاذ البري إلى أنه بعد وصول البئر إلى مرحلة “الأنتنوف” الموضحة سابقاً تظهر بعض الصخور، فيسعى المنقبون إلى التخلص منها بواسطة أدوات بدائية لتفتيتها من طريق إشعال النار فيها لتسخينها، باستخدام زيت العربات المستعمل (الراجع) والبلاستيك وإطارات العربات المستعملة وكذلك صابون البدرة، ثم صب الماء على الصخور الساخنة لتتشقق وتسهل إزاحتها، ثم يواصلون الحفر بعدها غير مدركين بأن هذه العملية تخلف وراءها نسباً كبيرة من غاز ثاني أكسيد الكربون الخامل الذي يطرد كل الأوكسجين الموجود في البئر ويحل محله. وبينما يواصل العمل الحفر تبدأ حالات الاختناق بفعل وجود ثاني أكسيد الكربون المعروف بكونه يبقى طويلاً في موضعه.

غياب أدوات السلامة ويكشف موسى أنه من ضمن أسباب المأساة عدم استخدام المنقبين التقليديين أدوات السلامة اللازمة مثل الكمامات الكيماوية ضد الغازات أو ما يسمى بـ (لغة الحبال)، بربط الحبال مع أحزمة الأمان وترك رأس الحبل خارج البئر، وتم التواصل مع أحد الموجودين خارج البئر من خلال شد الحبل مرة واحدة لإعلانه أنه بخير، فيما تشير الهزتان إلى أنه قد انتهى ومستعد للخروج، أما ثلاث هزات سريعة متلاحقة، فتعني أنه يواجه خطراً ويجب سحبه ومساعدته فوراً. ويستشهد مدير الإنقاذ البري ببعض تجاربهم مع أخطاء وفظائع حوادث الانهيار، بواقعة محزنة في أحد آبار مناجم منطقة حجر العسل بولاية القضارف، اختنق بداخلها ثمانية منقبين بالطريقة نفسها، مات منهم سبعة أشخاص وتم إنقاذ الثامن، غير أن رجل الإنقاذ نفسه وعند محاولة عودته لانتشال الجثث، أخطأ بعدم استخدام الحبل المزدوج الصحيح، فدفع حياته ثمناً لذلك بسقوطه مباشرة إلى القاع نتيجة انقطاع الحبل. ويستطرد موسى، “وجهت تلك الحادثة الأنظار إلى أهمية التدريب والتوعية ليس للمنقبين التقليدين وحسب، بل لرجال الإنقاذ البري بالدفاع المدني أيضاً”، مشيراً إلى أن هناك خططاً يجري تنفيذها بخصوص التوعية والدورات التدريبية اللازمة، تشمل كل منسوبي الدفاع المدني في الولايات، وتأهيل مجموعات وأفراد لاستحداث شعبة للإنقاذ البري لم تكن موجودة سابقاً. وفي هذا الشأن، لم ينكر المنقب التقليدي يسن أحمد صلاح، الذي هجر مهنة الزراعة بحثاً عن الذهب، حصوله على مكاسب مادية جيدة من التعدين التقليدي، في مقابل تعرضه لأخطار كبيرة ومواجهته خطر الموت أكثر من مرة، لكن “العناية الإلهية” أنقذته من انهيارين للآبار، بينما راح ضحيتها بعض رفاقه في المناجم، وقرر بعدها أحمد هجر التنقيب التقليدي بعد أن أصبح لديه رأسمال يصلح للزراعة أو التجارة. ويقر المنقب السابق بأن التعدين التقليدي يعتبر مصدراً جيداً للدخل بالنسبة إلى الشباب الذين لا يجدون وظائف، لكنهم في غياب الخبرة والإرشادات والدورات التدريبية والتثقيفية، يتعرضون لمشكلات كبيرة وخطرة منها الأمراض والموت أحياناً، لأنهم يعتمدون على آلات ووسائل بدائية في التنقيب والحفر وكل مراحل التصفية والتنقية للحصول على الذهب.

هل ينجح التخطيط؟ من جانبها، كثيراً ما سعت الحكومات مرات عدة إلى تنظيم التعدين الأهلي، بوصفه يوفر فرص عمل ومصدر كسب لعدد كبير من المواطنين السودانيين، يعينهم على رفع المعاناة المعيشية في ظل ضيق فرص العمل في القطاعين الخاص والعام وارتفاع نسبة الفقر في البلاد.

وسبق أن وضعت السلطات ضوابط لتنظيم حركة الشباب وتدافعهم نحو التنقيب التقليدي، فأدخلت العام 2015 بعض التعديلات على قانون التعدين، فرضت بموجبها قيوداً على الراغبين في التعدين من فئة الشباب، مع تجريم أي شخص يقوم بالبحث والاستكشاف من دون الحصول على ترخيص ساري المفعول من السلطات المختصة. ويعتبر التنقيب التقليدي عن الذهب عملاً شاقاً ومضنياً، كما ينطوي على العديد من الأخطار، وتبدأ العملية بالاستكشاف عبر استخدام أجهزة الاستشعار المحمولة للمسح اليدوي بالسير على الأقدام لمسافات طويلة، وحفر آبار تقليدية في مناطق تغوص فيها (عروق الذهب) في عمق الأرض ثم نقل الحجارة وطحنها، ومعالجة طحين الحجارة بالزئبق والماء وصهره وتنقيته. وعلى الرغم من تلك الأخطار وتكرار حوادث الانهيار بشكل لافت خلال الآونة الأخيرة، لا يزال كثيرون يواصلون رحلة البحث عن الذهب. وتنتشر مواقع التعدين التقليدية في ولايات نهر النيل والبحر الأحمر والنيل الأزرق وجنوب كردفان وشمالها، إلى جانب ولايتي القضارف والجزيرة، وغالباً ما تنشأ حول أماكن التعدين مخيمات عشوائية تفتقر إلى أبسط مقومات الحياة والخدمات.

جمال عبد القادر البدوي
(جريدة اندبندنت البريطانية)

Exit mobile version