«عندما تكون في روما تصرّف كالرومان»، مقولة قديمة صاغها البشر بعد تجارب طويلة، بأن توافِق بين سلوكياتك وسلوكيات وعادات وقيم البلد الذي تَحِلُّ فيه، فلن يكون مقبولاً أبداً أن تكون نشازاً عن النَسَق العام، ولن يُؤبه لتبريرك عزفك النشاز هذا بأنّه حرية شخصية، فالصالح العام للمجتمع هو الأصل، والسلوكيات الفردية التي لا تتماشى مع هذا الصالح تُرفَض ويُرفَض صاحبها معها.
أقول هذا وأنا أحاول أن أفهم الأمور التي يبدو أنها غابت عن الكثيرين من منتجي الدراما الخليجية والعربية في شهر رمضان المبارك، فما هو رمضان فعلاً؟ ولماذا يُحتفى به في كل أرضٍ مُسلمة؟ وهل هو شهر للطرب والرقص وأدخنة المعسّل المتصاعدة أم هو «شيء» آخر؟ هل بدأ الشهر وانتهى «دينياً» برسالة واتساب عابرة في بدايته تهنئ الأصحاب بقدومه؟ هل نعي فعلاً ما المقصود من جُملة «أعاننا الله وإياكم على صيامه وقيامه وجعلنا من عُتقائه»؟
الغريب هو أن ينام كل هؤلاء المنتجين عن عمل أية مسلسلات طيلة السنة ثم لا نراهم إلا وقد حشدوا كل ما لديهم لشهر رمضان، والذي يستفز المسلم والإنسان السوي هي رسائلهم التي تبشّر بهذه المسلسلات وهم يقولون: «قريباً في الشهر الفضيل»، أي فضيلٍ هذا وقد جمعتم أسوأ ما لديكم وقدمتم أفحش ما يمكن من محتوى لتعيثوا به فساداً في مجتمعاتٍ محافظة وفي أقدس شهر لديها، شهرٌ تُفتّح فيه أبواب الجنّة وتغلق أبواب النار وتُصفَّد فيه الشياطين، لكنّ شياطين الإنس فاقت لدينا أضرابهم من شياطين الجن!
لماذا لا يجتهدون إلا في رمضان؟ لماذا يستميتون في تجاوز الخطوط الحمراء والمبالغة في الطرح الجريء كل سنة وبذات الشهر وكأنهم أخذوا على عاتقهم مهمة إفساد أخلاقيات الناس وتمزيق البيوت وتزيين كل المساوئ في شهرٍ فضيل يُتَقرَّبُ إلى الله فيه بالطاعات وهم يزّينون فيه الرذائل!
لماذا تستمر هذه المسلسلات وتويتر مثلاً يغص بعدد مهول من الرسائل التي تستنكر هذا التردي في محتواها، لماذا يكذبون ويقولون «الجمهور عاوز كده»، والجمهور الذي نراه يقول بملء فمه «اعتقوا رمضان من عفنكم»!
كنتُ أقول إنّ الدور التخريبي الهائل لنتفلكس ورفيقاتها يستدعي من العرب أن يقوموا بتقديم بديل حتى يُحافظوا على مجتمعاتهم وأجيالهم الناشئة من السقوط الأخلاقي، ولكنني أتحفظ جداً الآن على هذا الأمر، فماذا ننتظر من منتجين يُقدّم أحدهم في أول حلقة بأول أيام رمضان الفضيل حلقة تتحدث عن زنا المحارم؟ أي جرأة وصل إليها أولئك وكيف سُمِح لهم أصلاً بتصوير هذا العفن وكيف قامت بعض القنوات بشرائه ودفع الملايين من أجله؟ لم يكفهم تصوير العائلات الخليجية والعربية بأنها غارقة في الخيانات والشذوذ والسلوكيات الخاطئة فقفزوا إلى أقذر ما يمكن تصوّره من خطايا، وعندما يُساءلون من بعض رجال الإعلام يقولون: «نحن نعكس الواقع الحقيقي والذي يحاول البعض تغطيته»!
سؤال مهم هنا يطرح نفسه: لماذا هذه الاستماتة لإسقاط القيم وإفساد الأخلاق؟، هل يظن البعض أننا سنتطوّر لأننا أصبحنا نشبه الغربيين الذين لا يأبهون لأخلاقيات المجتمعات المحافظة، ألم نجد في الغرب شيئاً يستحق التشبّه به إلا هذا السقوط؟ ألا يعي البعض أنّ من اخترع الطائرات ومركبات الفضاء والبواخر والمولدات العملاقة وأبدع في الطب والتقنية الدقيقة والفلك وغيرها ليسوا توم كروز أو جينيفر لوبيز أو شاكيرا؟
إنّ من يبنون الأمم هم الأذكياء الأسوياء الذين يعرفون قيمة الوقت وأهمية الجهد وفوق ذلك تجد سِيَرَهم دوماً متّسقة مع الأخلاقيات العامة، ولن تجد أحدهم عربيداً أو مرتاداً أبدياً للمواخير أو مفتخراً بارتكابه أكثر الخطايا عفناً، البعض لدينا من كتّاب السيناريو مصابون بحَوَل مرعب في الرؤية فوق انكفاء البصيرة إن كانت هناك بصيرة أصلاً.
إنّ التاريخ يسرد لنا بجلاء أنّ ما مِن أُمّة تردّت أخلاقها إلا وكان زوالها أسرع مما يُتوقَّع، وإنّ أسوأ ما يمكن أن يحدث لأُمّة هو أن يستميت بعض أفرادها لإفساد أخلاقيات الكل، وإن أغرب ما يجري أن يستهجن القطاع الأكبر من هذه المجتمعات هذا الطرح الدرامي المتردي ولكن تجد الأموال الباهظة تُدفَع لقاءها من العديد من القنوات لعرضها رُغماً عن رغبات الناس، هو بَذْر شَرٍّ إنْ لم يتم إيقافه فإنّ الحصاد سيكون وبالاً على مجتمعاتنا ولا يظلم ربّك أحداً!.
البيان