جعفر عباس : عن العيال والتنشئة (1)

سودافاكس ـ فرحت‭ ‬كثيرا‭ ‬عندما‭ ‬أكمل‭ ‬عيالي‭ ‬الأربعة‭ ‬تعليمهم‭ ‬ودخلوا‭ ‬الحياة‭ ‬العملية‭ ‬بحسبان‭ ‬أنني‭ ‬أديت‭ ‬بذلك‭ ‬واجبي‭ ‬نحوهم‭ ‬وصار‭ ‬من‭ ‬حقي‭ ‬أن‭ ‬أمدّ‭ ‬رجليّ‭ ‬تأسِّيا‭ ‬بالإمام‭ ‬أبي‭ ‬حنيفة،‭ ‬ثم‭ ‬صار‭ ‬لي‭ ‬حفيدان‭ ‬ووجدت‭ ‬نفسي‭ ‬مهتما‭ ‬أو‭ ‬مهموما‭ ‬بأمر‭ ‬نشأتهما،‭ ‬فالسؤال‭ ‬الذي‭ ‬يقض‭ ‬مضجع‭ ‬كل‭ ‬أب‭ ‬وأم‭ ‬وجد‭ ‬وجدة‭ ‬والذي‭ ‬تناولته‭ ‬في‭ ‬مقالاتي‭ ‬مرات‭ ‬عديدة،‭ ‬هو‭: ‬هل‭ ‬سيكبر‭ ‬عيالي‭ ‬وأحفادي‭ ‬ليكونوا‭ ‬صالحين‭ ‬أم‭ ‬طالحين؟‭ ‬طبعاً‭ ‬هناك‭ ‬آباء‭ ‬لا‭ ‬تفرق‭ ‬معهم‭ ‬أن‭ ‬ينشأ‭ ‬عيالهم‭ ‬طالحين‭ ‬أو‭ ‬فالحين،‭ ‬وهم‭ ‬النوع‭ ‬الذي‭ ‬نسميه‭ ‬في‭ ‬السودان‭ ‬‮«‬غبيان‮»‬،‭ ‬وفلان‭ ‬غبيان‭ ‬تعني‭ ‬أنه‭ ‬غير‭ ‬مدرك‭ ‬لما‭ ‬يفعله‭ ‬أو‭ ‬يقوله،‭ ‬وواضح‭ ‬أن‭ ‬الكلمة‭ ‬صيغة‭ ‬مخففة‭ ‬من‭ ‬‮«‬غبي‮»‬،‭ ‬والوالد‭ ‬الغبيان‭ ‬لا‭ ‬تشغله‭ ‬سوى‭ ‬ملذاته‭ ‬وشؤونه‭ ‬الخاصة،‭ ‬فهو‭ ‬يعتقد‭ ‬أن‭ ‬الأطفال‭ ‬مثل‭ ‬الشجر،‭ ‬توفر‭ ‬لهم‭ ‬فقط‭ ‬الغذاء‭ ‬والماء‭ ‬والهواء‭ ‬فينمون‭ ‬أصحاء‭ ‬متعافين‭.‬

 

ومن‭ ‬فرط‭ ‬هوسي‭ ‬بمسألة‭ ‬تربية‭ ‬وتنشئة‭ ‬عيالي،‭ ‬وما‭ ‬إذا‭ ‬كانت‭ ‬الأساليب‭ ‬التي‭ ‬اتبعها‭ ‬في‭ ‬تربيتهم‭ ‬صحيحة‭ ‬أم‭ ‬خاطئة،‭ ‬فقد‭ ‬بت‭ ‬أراقب‭ ‬علاقات‭ ‬من‭ ‬أعرفهم‭ ‬من‭ ‬الآباء‭ ‬بعيالهم،‭ ‬لتحديد‭ ‬ما‭ ‬إذا‭ ‬كانت‭ ‬أوثق‭ ‬وأقوى‭ ‬من‭ ‬علاقتي‭ ‬بعيالي‭. ‬ولست‭ ‬ممن‭ ‬يؤمنون‭ ‬بالتربية‭ ‬بالكتالوج،‭ ‬بمعنى‭ ‬أنني‭ ‬لا‭ ‬اتبع‭ ‬نظرية‭ ‬تربوية‭ ‬معينة،‭ ‬نصح‭ ‬بها‭ ‬العالم‭ ‬الفلاني‭ ‬الذي‭ ‬يرى‭ ‬أن‭ ‬ضرب‭ ‬الأطفال‭ ‬يسبب‭ ‬عقدة‭ ‬كذا‭ ‬وكذا،‭ ‬بينما‭ ‬يقول‭ ‬نظيره‭ ‬الآخر‭ ‬أن‭ ‬الضرب‭ ‬ينفعهم‭ ‬والعلم‭ ‬يرفعهم،‭ ‬بل‭ ‬أتبع‭ ‬الطرق‭ ‬التقليدية‭ ‬المتوارثة‭ ‬التي‭ ‬يكون‭ ‬فيها‭ ‬الوالد‭ ‬لا‭ ‬لينا‭ ‬فيُعصر‭ ‬ولا‭ ‬يابسا‭ ‬فيُكسر‭.‬

 

طريقة‭ ‬الكتالوج‭ ‬الوحيدة‭ ‬التي‭ ‬اتبعتها‭ ‬واقتنعت‭ ‬بجدواها،‭ ‬هي‭ ‬ما‭ ‬يسميه‭ ‬الأمريكان‭ ‬groundingأو‭ ‬كيرفيو‭ (‬الحظر‭) ‬وتعني‭ ‬حرمان‭ ‬الطفل‭ ‬من‭ ‬أشياء‭ ‬يحبها‭ ‬مثل‭ ‬التلفزيون‭ ‬والانترنت‭ ‬والعاب‭ ‬الفيديو‭ ‬لمدة‭ ‬معينة‭ ‬حسب‭ ‬المخالفة‭ ‬التي‭ ‬ارتكبها،‭ ‬ومن‭ ‬فرط‭ ‬فعالية‭ ‬هذه‭ ‬الطريقة‭ ‬جربتها‭ ‬مرارا‭ ‬على‭ ‬أصغر‭ ‬أولادي،‭ ‬عندما‭ ‬كان‭ ‬على‭ ‬كرسي‭ ‬الدراسة،‭ ‬وليس‭ ‬مرد‭ ‬ذلك‭ ‬أنني‭ ‬سادي،‭ ‬وأحب‭ ‬حرمان‭ ‬ولدي‭ ‬من‭ ‬الأشياء‭ ‬التي‭ ‬يحبها‭ (‬فلو‭ ‬كنت‭ ‬كذلك‭ ‬لما‭ ‬اشتريت‭ ‬له‭ ‬كوكتيل‭ ‬أجهزة‭ ‬لعب‭ ‬الكترونية‭ ‬في‭ ‬المقام‭ ‬الأول‭)‬،‭ ‬بل‭ ‬لأنني‭ ‬لاحظت‭ ‬عندما‭ ‬حرمته‭ ‬لأول‭ ‬مرة‭ ‬من‭ ‬التلفزيون‭ ‬والكمبيوتر‭ ‬لأسبوعين‭ ‬متتاليين،‭ ‬أنه‭ ‬بات‭ ‬يقضي‭ ‬وقت‭ ‬فراغه‭ ‬في‭ ‬القراءة،‭ ‬وصار‭ ‬يتحين‭ ‬الفرص‭ ‬ليتونس‭ ‬معي‭ ‬وبقية‭ ‬أفراد‭ ‬العائلة،‭ ‬بل‭ ‬ويأتيني‭ ‬شاكياً‭: ‬بابا‭ ‬أنا‭ ‬زهجان‭… ‬تعال‭ ‬نلعب‭ ‬سوا،‭.. ‬وهكذا‭ ‬اشتريت‭ ‬ورق‭ ‬اللعب‭ ‬المسمى‭ ‬‮«‬كوتشينة‮»‬‭ ‬وعلمته‭ ‬بعض‭ ‬العاب‭ ‬الورق‭ ‬والخدع‭ ‬البسيطة‭!! ‬قد‭ ‬تقول‭: ‬أعوذ‭ ‬بالله،‭ ‬كيف‭ ‬تشجع‭ ‬ولدك‭ ‬على‭ ‬لعب‭ ‬الورق؟‭ ‬أنا‭ ‬لم‭ ‬أقل‭ ‬إنني‭ ‬علمته‭ ‬البكاراه‭ ‬أو‭ ‬الكنكان‭ ‬وما‭ ‬شابههما،‭ ‬أو‭ ‬أنني‭ ‬ألاعبه‭ ‬بنظام‭ ‬أن‭ ‬ينال‭ ‬من‭ ‬يكسب‭ ‬اللعبة‭ ‬مقابلا‭ ‬ماديا‭ ‬ولو‭ ‬قنينة‭ ‬بيبسي،‭ ‬بل‭ ‬علّمته‭ ‬فقط‭ ‬ابجديات‭ ‬استخدام‭ ‬ورق‭ ‬الكوتشينة،‭ (‬علماً‭ ‬بأنني‭ ‬لاعب‭ ‬كنكان‭ ‬ووست‭ ‬وهارت‭ ‬بارع،‭ ‬ولكنني‭ ‬لا‭ ‬أمارسها‭ ‬لأنني‭ ‬ملول‭ ‬ولا‭ ‬أحب‭ ‬أن‭ ‬أجلس‭ ‬حاملاً‭ ‬تلك‭ ‬الوريقات‭ ‬وأعصابي‭ ‬مشدودة‭ ‬على‭ ‬الفاضي‭).‬

 

عندما‭ ‬صرت‭ ‬خبيرا‭ ‬أجنبيا‭ ‬في‭ ‬بريطانيا‭ ‬بعد‭ ‬التحاقي‭ ‬بتلفزيون‭ ‬بي‭ ‬بي‭ ‬سي،‭ ‬ألحقت‭ ‬أكبر‭ ‬عيالي‭ ‬بمدرسة‭ ‬ثانوية‭ ‬في‭ ‬شمال‭ ‬لندن،‭ ‬وانتبهت‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬المسائل‭ ‬الرياضية‭ ‬تفترض‭ ‬أن‭ ‬الطالب‭ ‬يعرف‭ ‬أن‭ ‬الكوتشينة‭ ‬تتألف‭ ‬من‭ ‬52‭ ‬ورقة،‭ ‬مقسمة‭ ‬على‭ ‬أربعة‭ ‬الوان‭ ‬وتصاميم،‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬منها‭ ‬13‭ ‬ورقة،‭ ‬وأن‭ ‬بكل‭ ‬كوتشينة‭ ‬أربعة‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬عدد‭ ‬وشكل،‭ ‬وكانت‭ ‬معرفة‭ ‬الولد‭ ‬بالأمر‭ ‬كمعرفة‭ ‬أبيه‭ ‬بقانون‭ ‬الجاذبية،‭ (‬كان‭ ‬الناس‭ ‬يعيشون‭ ‬في‭ ‬أمان‭ ‬الله‭ ‬مرتاحي‭ ‬البال‭ ‬حتى‭ ‬سقطت‭ ‬تفاحة‭ ‬على‭ ‬رأس‭ ‬آيزاك‭ ‬نيوتن‭ – ‬الذي‭ ‬جعلناه‭ ‬اسحق‭ – ‬فخرج‭ ‬علينا‭ ‬بقانون‭ ‬الجاذبية،‭ ‬وتمنيت‭ ‬لو‭ ‬وقعت‭ ‬على‭ ‬رأسه‭ ‬ثمرة‭ ‬جوز‭ ‬هند‭ ‬وسببت‭ ‬له‭ ‬ارتجاجا‭ ‬في‭ ‬الدماغ،‭ ‬ليترك‭ ‬الجاذبية‭ ‬في‭ ‬حالها،‭ ‬فقد‭ ‬كانت‭ ‬موجودة‭ ‬قبل‭ ‬حادثة‭ ‬التفاحة‭ ‬ولكنه‭ ‬جعل‭ ‬منها‭ ‬مادة‭ ‬لعكننة‭ ‬عيال‭ ‬المدارس‭)‬،‭ ‬المهم‭ ‬أنني‭ ‬أمضيت‭ ‬عدة‭ ‬إيام‭ ‬في‭ ‬تعليمه‭ ‬أسرار‭ ‬تلك‭ ‬الأوراق،‭ ‬واللعب‭ ‬بها‭ ‬يتطلب‭ ‬مهارات‭ ‬رياضية‭ ‬ذهنية‭ ‬عالية،‭ ‬وصرت‭ ‬أختبر‭ ‬معلوماته‭ ‬عنها،‭ ‬وصار‭ ‬هو‭ ‬يحملها‭ ‬في‭ ‬جيبه‭ ‬في‭ ‬حصص‭ ‬الرياضيات‭ ‬كبرشام‭. ‬

أو‭ ‬ما‭ ‬يسمى‭ ‬في‭ ‬السودان‭ ‬‮«‬رِكِّيب‮»‬،‭ (‬من‭ ‬ركب‭ ‬يركب‭) ‬وهو‭ ‬الشخص‭ ‬الذي‭ ‬يتولى‭ ‬إعداد‭ ‬طاولة‭ ‬القمار،‭ ‬وخدمة‭ ‬المقامرين‭ ‬نظير‭ ‬بقشيش،‭ ‬ولأن‭ ‬القمار‭ ‬يعلم‭ ‬السفالة‭ ‬فإن‭ ‬الركيب‭ ‬وبمجرد‭ ‬أن‭ ‬يجتمع‭ ‬عنده‭ ‬بعض‭ ‬المال،‭ ‬يشارك‭ ‬في‭ ‬اللعب‭ ‬على‭ ‬أمل‭ ‬أن‭ ‬يسلب‭ ‬ما‭ ‬عند‭ ‬من‭ ‬أعطوه‭ ‬البقاشيش‭!‬

 

تعليقات الفيسبوك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.