قليل من الناس يعرف قصة الشاعر السوداني إدريس جَمَّاع (1922 – 1980م) وكثير منهم بالطبع يعرف أشعاره وجنونه إلى حد أنه تحول إلى حالة أسطورية، فنسجت حول قصائده مُناسبات مُختلقة، وأصبح أي بيت شعر يتسم بالغرابة أو التشاؤم المفرط ينسب إليه. فما هو السبب في ذلك؟
الطريق إلى الجنون
إذا عرض عليك بيت الشعر:
“ﺍﻟﺴَّﻴﻒُ ﻓﻲ ﺍﻟﻐِﻤﺪِ ﻻ ﺗُﺨشَى ﻣَﻀﺎﺭﺑُﻪ * ﻭلحظ ﻋَﻴﻨﻴﻚِ ﻓﻲ ﺍلحَالَين ﺑﺘّﺎﺭُ”
وسُئلت لمن هو؟ فسترد ببداهة بأنه لشاعر جاهلي، لكن الحقيقة أن ذلك البيت لجماع وهو ينظر في عيون فتاة حاولت أن تغطي نصف وجهها بنظارة سوداء، وهو مثل كثير من شعراء السودان في القرن العشرين، فهم رغم مواهبهم الفذة وبراعتهم لا يزالون في حاجة إلى إعادة اكتشافهم وتقديمهم إلى الجمهور العربي، وحفظ منتوجهم الأدبي. وقد ظل جماع برمًا بحياته، وكثيرًا ما تمنى الرحيل من دجى ليله حين شاهد مصرعه، وكره انبعاثه وسط قوم لم يقدروا مواهبه وأحلامه، وأدرك كم هو سجين عن ارتياد آفاق الحياة الحرة.
يُنسب لجَمَّاع في كثير مما يُنسب:
“إنّ حظّي كدقيقٍ * فوقَ شوكٍ نثروهُ
ثمّ قالوا لحُفاةٍ * يومَ ريح إجمعوهُ..”
ولفرط التشاؤم، أصبح ذلك البيت الشهير في مقام التعزية النفسية، لآلاف الشباب العربي الفارين من شظف العيش وقهر حكوماتهم، لكنه أيضا ينذر باليأس والتطير والقنوط المنهي عنه، ومع ذلك فهو ليس لإدريس جماع، الشديد الحضور هذه الأيام في التدوينات الإلكترونية، من دون أن يعرف الناس قصته الحقيقية، وتجربته المأساوية في الحياة، التي غمت عليه، وجنح يهيم في كل واد، حتى انتهى به الحال في مستشفى الأمراض العقلية.
صاحب الديوان اليتيم
في النصف الأول من القرن العشرين، بضاحية حلفاية الملوك شمال الخرطوم وتحديدًا صيف عام 1922، أطلق إدريس جَمَّاع صرخته الأولى. ومنذ ذلك اليوم لم يتوقف عن الصراخ والبحث عن ذاته، ومشى في طريق أفضل أنحائه شوك، وطغت على كتاباته نزعة روحية وفسلفية عميقة، احتواها ديوان شعر يتيم باسم “لحظات باقية”، ثم رحل عام 1980 ونام نومته الأبدية.
لكن إدريس جماع الذي أهملته الدولة ورفاقه في حياته، سطع نجمه بعد رحيله، وأدرك الناس كم كان عظيمًا ذلك الرجل الذي بدأ حياته مدرسًا بمعهد التربية، وأن ثمة شاعرا فذًّا مات بحسرة العبقرية. ضاع من شعره الكثير، واشتهر في غناء الفنان سيد خليفة الذي ألجأت كلمات إدريس جماع نفسها إليه، وقد أبدع حين أخبرنا عن نفسه:
“هيّنٌ تستخفه بسمة الطفْـــ*ـــلِ قويٌّ يصارع الأجيالَا
حاسرُ الرأسِ عند كل جمالٍ * مستشفّ من كل شيء جمالَا”
ومن أعجب ما رويَ من أخباره أن الشاعر المصري عباس محمود العقاد سمع قصيدته التي تضمنت قوله:
“ﺃﻧتِ ﺍﻟﺴﻤﺎﺀُ ﺑَﺪَﺕ ﻟﻨﺎ واﺳﺘﻌﺼﻤﺖ ﺑﺎﻟﺒُﻌﺪِ ﻋنَّا”
فسأل عنها وعندما أخبروه أنها لشاعر سوداني معاصر موجود في مستشفى للأمراض العقلية، رد قائلا: “ﻫو ﻣﻜﺎﻧﻪ، ﻷﻥ ﻫﺬﺍ الكلام ﻻ يستطيعه ذوو الفكر!”.
الاختلاق الصطحي لقصص جماع
كنت أتجاذب أطراف الحديث مع شاب سوري يعيش في الخرطوم، سألني عن قصة إدريس جمّاع، جنونه وتشاؤمه المفرض إلى حد كتابة:
“إنّ حظّي كدقيقٍ * فوقَ شوكٍ نثروهُ
ثمّ قالوا لحُفاةٍ * يومَ ريح إجمعوهُ”
وقد أسعفتني دراسة للشاعر والناقد محيي الدين الفاتح بعنوان “الاختلاق السطحي لقصص عن قصائد جَمَّاع” استقصى فيه الفاتح عن تلك الأبيات وغيرها، مؤكدًا أنها ليست مثبتة في ديوان جمّاع “لحظات باقية” بكل طبعاته، كما أن دراسة جماع وتخصصه في اللغة العربية تمنعه من أن يأتي بالمضارع المرفوع محذوف النون، فالصحيح “تسعدونه” بثبوت النون لا “تسعدوه” بحذفها، مستشهدًا على عبقرية جمّاع بأجمل النصوص السودانية التي أبدعها مثل:
أعلى الجمال تغار منا * ماذا عليك إذا نظرنا
حتى وصل ذروة الإلهام بقوله:
أنتِ السماء بدت لنا واستعصمت بالبعد عنا
وهو من قصيدة يتردد أنه كتبها عام 1942م في منطقة تنقسي الجزيرة بالمديرية الشمالية، التي جاء إليها معلما بمدرستها الأولية عام 1941، تابعًا لوزارة المعارف السودانية، بعد تخرجه مباشرة من معهد معلمي المرحلة الأولية ببخت الرضا، ولم يتجاوز عمر جماع -عند تأليف هذه القصيدة- عشرين عاما، وفقًا لمحيي الدين الفاتح، الذي فاجأني بمعلومة مدهشة هي أن إدريس جماع هو الذي كتب لسيد خليفة أيضا تلك الأغنية الدارجة “يوم قسموك ياهم كتبوا عليك اسمي.. لو كان رووك بالدم ياهم رووك دمي.. أنا لو رضيت بالهم ما برضى بي همي”. وقد نفى محيي الدين الفاتح عن جماع كثيرا مما نسب إليه، خصوصا مناسبة قصيدة “السيف في الغمد لا تخفى بواتره” وأنه كان مسافرا إلى إنجلترا ورأى تلك الفتاة الإنجليزية ترتدي نظارة.
اعتزال الحياة والناس
لا شك أن الإعجاب الشديد بشاعرية جماع، كما ذهب إليه الفاتح، جرّ إلى نسج الأساطير حوله وحول قصائده، ولم يعرف عن جمّاع أنه كتب شعرا بعد أن دخل في حالة الصمت التي لازمها ولازمته، منذ مطلع الستينيات حين كان مدرسا بالخرطوم الثانوية، التي قدم إليها من بخت الرضا الثانية، حتى وفاته عام 1980م، وبالتالي فإن الوصف الأدق لحالته هو اعتزال الحياة والناس فيما يشبه موجة من الذهول وليس الجنون، والعجز عن العيش في محيط ضيق يتسم بالجفاف والصرامة، كما أن مرض الذهول الذي أصاب شاعرنا أدخله في حالة من الإغماء الجزئي أصبح معها غير مدرك لما يدور حوله، ولعل السبب وراء ذلك أنه تعرض إلى صدمات نفسية هائلة، لم يبح بها.
لم يجد إدريس جَمَّاع الاهتمام الذي يستحقه، لا من النقاد، ولا من الدولة، وقنع مقابل أن يثري حياة الناس بالشعر والأغاني الجميلة، بأن يوصف بالشاعر المجنون، لكنه كان أعقل الناس، أو بالأحرى وصل إلى الحقيقة في طريق كل أنحائه شقاء، شأنه في ذلك شأن كثير من أصحاب الحس المُرهف والطاقة الوجدانية الجبارة.
المصدر : الجزيرة مباشر